تفضیل السیده الزهراء علیها السلام علی الملائکه والرسل والانبیاء

اشارة

الرقم الدولی ISBN: 9789933489816

البلداوی، وسام، 1974 -      م.

تفضیل السیدة الزهراء علیها السلام علی الملائکة والرسل والأنبیاء: بحث تمت صیاغته علی شکل قصة... / تألیف وسام برهان البلداوی. – الطبعة الأولی . - کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة. قسم الشؤون الفکریة والثقافیة، 1435ق. = 2014م.

ص400. – (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة؛ 131).

المصادر فی الحاشیة.

1 . فاطمة الزهراء (س)، 8  ؟ ق. ه_ - 11ه_ . – فضائل – حوارات. 2. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ ق. ه_. – 11ه_. – تفضیلها علی الرسل والأنبیاء. 3. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ ق. ه_. – 11ه_. تفضیلها علی الملائکة . 4. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ ق. ه_. – 11ه_. فضائل – من الناحیة القرآنیة. 5. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ ق. ه_. – 11ه_. – تعقیب وإیذاء – أحادیث . ألف. العنوان.

BP 80. F389 B359   2014

BP 27.2  .B359   2014

تمت الفهرسة فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة قبل النشر

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

ص: 3

تفضیل السیدة الزهراء علیها السلام علی الملائکة والرسل والأنبیاء

بحث تمت صیاغته علی شکل قصة قصیرة، ولکنه لم یغفل

عن الجنبة العلمیة والأدلة الرصینة فی الاستدلال والاحتجاج

تألیف

الشَّیخ وسَام بُرهَان البَلْدَاوِی

إصدار

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

جمیع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1435ه_ __ 2014م

العراق: کربلاء المقدسة __ العتبة الحسینیة المقدسة

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة __ هاتف: 326499

www.imamhussain-lib.com

E-mail: info@imamhussain-lib.com

ص: 5

مقدمة الکتاب

کانت القصة ولا تزال من أفضل وأهم الطرق لإیصال الحقائق، ولا نکاد نحتاج الی دلیل علی هذا الامر بعد ان استخدمها القران الکریم فی مواضع کثیرة جدا، تارة للعبرة والعظة، وتارة أخری لتوضیح وتبیان عواقب الأفعال وأسباب النجاح أو الفشل علی الصعیدین الفردی والأممی، وکذلک استخدمها النبی الاعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة الأطهار (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فی إرشاد الناس وتوعیتهم وتعلیمهم، وما هذا التأکید علی اسلوب القصة إلا لأنها تمتلک من التفاعل والتأثیر فی نفس السامع والقارئ ما لا یمتلکه اسلوب آخر، لما تحویه من مقومات لا تتوفر فی الشعر أو النثر أو الخطابة وغیرها من أسالیب التعبیر، وهذا الامر واضح لذوی الاختصاص والخبرة لا یحتاج الی مزید من البیان.

ومع الالتفات الی ما ذکرناه انفا یتضح للقاری الکریم سبب اختیاری لاسلوب القصة فی صیاغة مفردات هذا البحث المهم، فمع ان المتعارف عند المؤلفین والباحثین تناول مثل هذه البحوث علی وفق النمط التقلیدی المتعارف لکتابة مثل هذه البحوث، ای بتقسیم الکتاب الی فصول وتقسیم الفصول الی دلیل اول وثانی وثالث وهکذا، ثم یتم استعراض الاشکالات المتعلقة بکل دلیل ویجاب علیها.

ص: 6

الا انی رأیت بان هذا الاسلوب یعتبر جافا وغیر مرن بالنسبة لطبقة کبیرة من القراء الکرام، فاستخرت الله سبحانه علی أن أنهج فی هذا البحث منهج القصة، مع الاحتفاظ بالدقة العلمیة للمطالب والادلة المستعرضة قدر الامکان، فخرجت الاستخارة بحمد الله جیدة، فشرعت بالعمل وقد لمست صدق الاستخارة وبرکاتها اثناء عملی فی خضم البحث والاستدلال، لان القصة وفرت لی أرضیة مرنة وحرة لم تکن لتتوفر من خلال النمط التقلیدی فی البحث والکتابة.

فأرجو من الله انی قد وفقت وأحسنت اختیار الموضوع والأسلوب والأدلة، کما واتوسل للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) ان تعفو عن قلة جهلی ومحدودیة باعی وقلة اطلاعی وما سطرته یمینی من ادلة تحکی عظیم منزلتها وسمو مقامها، لان محتوی الکتاب ومتانة الادلة هی خاضعة لمستوی الکاتب لا لمستواها (صلوات الله و سلامه علیها)، والا فان حقیقة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وعظمتها وکمالها لا یصل إلی مکنونها عاجز مثلی، بل ولا أعلم علماء البشر، وکیف یحیط بها عالم وهی التی دارت علی معرفتها دارت القرون الأولی.

کما وأرجو من القراء الکرام التغاضی عن القصور أو التقصیر الذی سترصده أذهانهم الوقادة فی طیات البحث الذی بین أیدیهم، فالکمال المطلق لله سبحانه ومن بعده للمعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین).

الشیخ وسام برهان لبلداوی

23 / 11 / 20013

ص: 7

نهایة الموسم الدراسی

کان الیوم هو الیوم الأخیر من امتحانات نهایة السنة، خرج أسامة من قاعة الامتحان قبل أن ینتهی الوقت، وبعد أن بذل کل ما لدیه من حول وقوة للإجابة علی أسئلة ذلک الیوم التی کانت صعبة للغایة، ولم تکن بحسبانه.

خرج أسامة یتخالجه شعور الخوف والفرح فی آن واحد، خوفه من نتیجة الامتحان المجهولة التی سیتحدد علی أساسها مستقبله الأکادیمی، وفرحه بقدوم العطلة الصیفیة التی سیحاول الاستفادة من کل لحظة فیها للترفیه عن نفسه ونسیان ساعات التوتر الدراسی وضغط الامتحانات.

جلس أسامة مسنداً ظهره إلی حائط المدرسة منتظرا أصدقاءَهُ الذین لم یکملوا امتحانهم بعد، لیعود وإیاهم إلی البیت، وبینما هو کذلک إذ سرح بفکره، محاولاً التخطیط لأیام وساعات الفراغ التی سیقضیها، وبأی طریقة سیقضیها، فکر أن یتفق مع أصدقائه بالذهاب صباحاً إلی المسبح القریب من بیتهم لیسبحوا فیه ویلعبوا کرة القدم إلی وقت الظهر، وفی وقت العصر یخرج وإیاهم إلی السوق ثم یعود مساءً لیشاهد ما قد حرمته أیام الدراسة من مشاهدة التلفاز.

ص: 8

ثم ردد أسامة فی نفسه: (ولماذا أقضی العطلة فی البیت أصلا؟ ولماذا أقضی هذه الأیام القلیلة فی مثل هذا الجو الروتینی؟ ألیس من الأفضل أن أذهب إلی بیت خالی فی الریف، الله الریف! وما أدراک ما الریف؟! حیث البساتین وصید الطیور والسباحة فی النهر ورؤیة أصناف الحیوانات وأکل أصناف الطعام، وفوق کل ذلک الاحترام والتقدیر العالی الذی ألقاه من بیت خالی وجیرانهم لأنهم ینظرون إلی نظرة ابن المدینة المثقف المطلع علی کثیر من الأمور التی لم یطلعوا علیها ولا سمعوا بها من قبل).  

وبینما هو سارح فی خیاله وإذا بید توضع علی کتفه بقوة وتهزه، فزع أسامة، وإذا بصوت صدیقه محمد یصرخ بإذنه: (قم لنذهب فالأصدقاء فی الانتظار).

قام أسامة من مکانه ومشی نحو أصدقائه وما أن وصل حتی انهالت علیه الأسئلة: (أین کنت یا رجل؟ فمنذ متی ونحن ننادیک ولا تجیبنا؟ أین کنت تسرح؟ لعلک عاشق ولا نعلم؟!) وبدأ الجمیع بالضحک.

قال أسامة: (بل کنت أخیّر نفسی بین أن أقضی العطلة معکم وأتحمل سماجتکم ومزاحکم البارد وبین أن أذهب إلی بیت خالی فی الریف).

فصاح الجمیع: (إیاک أن تترکنا فکلنا قد قررنا أن نقضی العطلة معا).

فقال لهم أسامة: (لا أرید أن أقضی هذه الأیام بشیء تافه وفوضوی، أرید شیئا جدیدا، تجربة جدیدة، فإن منحتمونی هذا الأمر وإلا فسأذهب إلی بیت خالی، حیث المتعة والصید والبساتین وکل ما هو جدید).

أخذ کل واحد من أصدقائه یستعرض مشروع قضاء العطلة الصیفیة من

ص: 9

وجهة نظره، عسی ولعل یستهوی أسامة ویبقیه بینهم، إلی أن وصل الدور إلی محمد قال: (ان والدی یلح علی کثیرا لحضور الدروس التی تقام فی العطلة الصیفیة فی المسجد الذی بقربنا، ما رأیکم أن نحضر معاً؟).

فصاح به الجمیع: (اسکت تبا لک، الیوم أکملنا المدرسة، أتریدنا أن ندرس ونحن فی العطلة؟! یا لها من فکرة مجنونة!).

وصل أسامة إلی البیت فودع الأصدقاء علی أمل أن یلتقوا عصراً لیکملوا نقاشهم، دخل أسامة البیت فوجد الطعام حاضراً، غسل یدیه وجلس علی المائدة من دون أن یستبدل ثیابه لفرط جوعه، وما أن وضع اللقمة الأولی فی فمه حتی رجعت إلیه فکرة صدیقه محمد، ومهما حاول أن یشغل تفکیره بشیء آخر رجعت إلیه ثانیة وثالثة، وفی کل مرة یحاول طردها وإقناع نفسه بأن من العبث أن ینهی الإنسان درسه فی المدرسة ویبدأ بدروس أخری فی المسجد، فاقنع نفسه بهذا العذر وأکمل طعامه، واستأذن من بقیة أفراد العائلة بالذهاب للاستلقاء علی فراشه للراحة.

ص: 10

القرار الحاسم

دخل أسامة غرفته وتمدّد علی فراشه، وما إن أغمض عینیه حتی هجمت علی مخیلته فکرة محمد وحضور الدروس فی المسجد، فحاول التملص منها وإبعادها لکن من دون جدوی، فقال فی نفسه: (إن أحسن طریقة لإبعادها هو مناقشتها بهدوء).

قام أسامة من فراشه وتوجه نحو حقیبته وأخرج ورقةً وقلماً وقرر أن یرسم جدولاً، یضع فی صف محاسن هذه الفکرة ویضع فی الصف الآخر من الجدول المساوئ. فکتب فی جدول المحاسن: إن فکرة محمد تمثل تجربة جدیدة لم أمارسها من قبل، وأنا کنت أرید أن أقضی هذه العطلة بتجربة جدیدة، ووضع أیضا ان فی حضور الدروس زیادة فی العلم، والإنسان الذی یزید من علمه یحترمه المجتمع وتعظم هیبته بین الناس، وکتب أیضا ان طلب العلم والتفقه فی الدین فیه ثواب أخروی عظیم، فقد قرأ قبل یومین: إن طالب العلم یشیعه سبعون ألف ملک(1)، وان المؤمن العالم أعظم أجراً من الصائم القائم الغازی فی سبیل الله(2)، وان دواب الأرض لتصلی علی طالب العلم حتی الحیتان فی الماء(3)، وان


1- راجع بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص24 باب ثواب العالم والمتعلم.
2- المصدر السابق ص25.
3- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص25.

ص: 11

الذی یتعلم ویعلم علمه للناس یأتی یوم القیامة وله من الحسنات کالجبال الرواسی فیقول: (یا رب أنی لی هذا ولم أعملها؟) فیقول: (هذا علمک الذی علمته الناس یعمل به من بعدک)(1).

وجاء دور جدول المساوئ، ففکر کثیراً فی شیء یکتبه فلم یجد، ومع ذلک کتب: إن هذه الدروس ستفوت علی مباریات کرة القدم، ولکنه قال لنفسه یمکن الجمع بین الأمرین أحضر الدرس صباحا وألعب کرة القدم عصراً أو العکس، وکتب ان الذهاب إلی الدروس سیحول بینی وبین مشاهدة التلفاز الذی قررت أن أقضی أمامه ساعات کثیرة من نهاری، ولکنه وجد ان هذا العذر غیر مقبول أیضا، لأنه یمکن أن یفعل ذلک فی اللیل، أو فی وقت الظهیرة، ومهما حاول ان یجد مبرراً للرفض لم یستطع، فقرر أن یذهب للدرس لما فیه من الفوائد ولعدم وجود ما یضر ویمنع.

وبعد أخذ أسامة لقراره الحاسم هدأ فکره وارتاح باله واستطاع أن ینام ثلاث ساعات من الظهیرة من دون قلق ولا اضطراب، ولما جاء وقت العصر خرج إلی أصحابه فرحاً مستبشراً، فأخبرهم الخبر فانصعقوا من المفاجأة، وعابوا علیه قراره، وسخروا منه بأنواع الکلمات ومختلف الطرق، لکنه ما إن أخرج لهم الجدول الذی صنعه وأفهمهم انقلبت أوضاعهم وانقلب ضحکهم إلی سکوت وتأمل، فبعضهم قد وافق أسامة فی رأیه وقرر الالتحاق معه إلی الدرس، وبعضهم بقی مصراً علی استهجانه للفکرة ورفض الحضور.


1- المصدر السابق ص26.

ص: 12

انبهار زائف

فی صباح یوم الاثنین ذهب أسامة إلی المسجد لحضور دروس الدورة الصیفیة، وقف أمام الجامع منتظرا صدیقه محمداً لیدخلا إلی الدرس معاً، تأخر محمد، وحضر المدرس والطلبة، فقرر أسامة أن یدخل القاعة وحده، استقر أسامة فی زاویة من زوایا القاعة واضعا أمامه الدفتر الذی اشتراه لیثبت به الملاحظات التی سیسمعها من أستاذه، وأخذ یتأمل فی وجوه الحاضرین عسی أن یجد من یعرفه منهم، عرف بعضهم وأنکر بعضهم الآخر، لکنه قال فی نفسه: (من یحضر لیس مهما والمهم هو ما سیقال).

جاء المدرس وبعد إلقائه للسلام علی الحاضرین جلس خلف طاولة أعدت له مسبقا، لم یکن یلبس لباساً حوزویاً ولیست له لحیة طویلة کما کان یتوقع أسامة، وبعد ابتسامة خفیفة أدار رأسه وجال بنظره حول الحاضرین وقال: (أخوتی الأعزاء ستکون هذه الدورة مقسمة إلی ثلاثة دروس، درس فی العقائد ودرس فی التفسیر ودرس فی التاریخ، وسنقتصر علی درس واحد یومیاً، وسیکون درس هذا الیوم فی العقیدة).

ص: 13

أخرج أسامة قلمه وفتح دفتره فی محاولة منه لضبط وکتابة کل کلمة یقولها أستاذه، وبعد أن افتتح درسه بحمد الله والصلاة علی النبی وآله قال: (بما ان هذه الأیام تتزامن مع ذکری رحیل السیدة فاطمة فسیکون حدیثنا مخصصا فی هذا الیوم لهذه المناسبة، وسنتحدث بعجالة علی عدة محاور مهمة تخص شخصیتها، فسنتحدث عن محاولات البعض لتفضیلها علی مریم أو خدیجة، وسنتحدث عن محاولات البعض لإضفاء صفة الغیب علی شخصیة السیدة فاطمة، وأشیاء أخری ستتبین فی أثناء الدرس).

کان أسامة یحاول کتابة کل صغیرة وکبیرة تخرج من فم أستاذه، ولکنه ومع ذلک لم یستطع أن یکتب کثیرا من الکلمات التی کانت تفلت منه بسبب انشغاله بالکتابة، إلا أنه خرج بمجموعة من الجمل التی قرر أن یحفظها عن ظهر قلب لاعتقاده بأنها جمل جمیلة وعصریة وتتناسب مع الواقع.

فکتب قول أستاذه: (إن فکرة تفضیل نبی علی نبی آخر، أو تفضیل إمام علی نبی أو تفضیل فاطمة الزهراء علیها السلام علی مریم، هذا الحدیث لا یجنی الخائض منه أیة فائدة علی مستوی الدین أو الدنیا سوی إتعاب الفکر وإرضاء الزهو الذاتی(1)).


1- ویمکن الإجابة عن هذا الإشکال، بأن تفضیل نبی علی نبی أو إمام علی نبی أو تفضیل السیدة الزهراء علی مریم لا یدخل فی باب إرضاء الزهو الذاتی، أو مما لیس فیه فائدة علی مستوی الدین والدنیا، لأن القرآن الکریم فضل بعض الناس علی البعض الآخر، فقد فضل الأنبیاء بعضهم علی بعض فقال سبحانه فی سورة البقرة الآیة 253: «تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَی بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ»، وقال سبحانه فی سورة الإسراء الآیة 55: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلَی بَعْضٍ وَآَتَیْنَا دَاوُودَ زَبُورًا»، وکذلک فضل الله سبحانه المجاهدین علی القاعدین کما قال فی سورة النساء الآیة رقم 95: «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِینَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَی الْقَاعِدِینَ دَرَجَةً وَکُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَی وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِینَ عَلَی الْقَاعِدِینَ أَجْرًا عَظِیمًا»، بل یمکن لنا القول بأن الکون قائم بکله علی مبدأ التفضیل کما قال سبحانه فی سورة الإسراء الآیة رقم 21: «انْظُرْ کَیْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَی بَعْضٍ وَلَلآَخِرَةُ أکبر دَرَجَاتٍ وَأکبر تَفْضِیلًا». أما الروایات الشریفة الصادرة عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وبقیة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فهی مشحونة بما لا یحصی من الأحادیث والأقوال فی تفضیل نبینا الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وبقیة المعصومین علی غیرهم من افراد الأمة بل وبقیة الأنبیاء والمرسلین من آدم فما دون، وعلیه فلیس من المعقول ولا المقبول ان ینشغل القرآن الکریم وبقیة المعصومین بمسألة التفضیل من باب مسألة إرضاء الزهو الذاتی أو الانشغال بما لیس فیه فائدة علی مستوی الدین والدنیا والعیاذ بالله، ولولا وجود الفائدة العظیمة فی مسألة التفضیل لما انشغل به القرآن الکریم فی آیات عدیدة ولما تعرض له أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فی أحادیث کثیرة.

ص: 14

وکتب أسامة أیضا: (ان الخوض فی تفضیل إمام علی نبی أو السیدة فاطمة علی مریم خوض فی علم لا ینتفع فیه فلا ینفع من علمه ولا یضر من جهله، وهو نوع من أنواع الترف الفکری السخیف، فإن هنالک أناساً بلا عمل ولیس لهم شغل إلا الکلام فی هذا الأمر(1)).

وکتب أسامة عن قول أستاذه أیضا: (إن التاریخ یفیض فیما لا حاجة لنا فیه


1- هذا الإشکال علم جوابه من الهامش السابق، ثم ان فی هذا القول تجرؤاً عظیماً علی آیات القرآن الکریم وروایات المعصومین وأشخاصهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، لان القرآن وکذلک المعصومین قد تعرضوا لمسألة التفضیل لنبی علی نبی أو إمام علی نبی او السیدة الزهراء علی مریم أفیعنی حدیثهم عن هذه المسائل انهم أصحاب ترف فکری سخیف والعیاذ بالله، ام ان القائل هو من ینبغی ان یوصف بسخافة الفکر وسطحیة التحلیل؟!

ص: 15

کما فی مسألة زواج الزهراء علیها السلام، والجوانب الغیبیة فی ذلک الزواج، فیما تحتفل به السماء، وغیر ذلک مما یتعلق بهذا الأمر... وماذا ینفع أو یضر أن نعرف أو نجهل، أن الزهراء علیها السلام نور أو لیست نورا؟ فإن هذا علم لا ینفع من علمه، ولا یضر من جهله)(1).

وحینما وصل أستاذ أسامة إلی محل الکلام عن وفاة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وکیفیة ذلک، تهیأ أسامة واستعد للبکاء، لأنه کان معتادا علی أن الخطیب فی مجالس العزاء وحینما یصل إلی مصیبة استشهادها (صلوات الله و سلامه علیها) فانه یقرأ أبیاتا حزینة للرثاء تتکلم عن مآسیها وضربها وکسر ضلعها وإسقاط جنینها فیبکی الحاضرون ثم یختتم بعد ذلک المجلس.

لکن الوضع کان مختلفا هذا الیوم فما إن وصل أستاذ أسامة إلی الحدیث عن أیام السیدة الزهراء الأخیرة وکیفیة وفاتها حتی علا صوته وتشنجت عضلات وجهه وأخذ یکیل التهم علی کل من یقول بتعرضها للهضم والضرب وکسر الضلع وغیر ذلک، فصعق أسامة لهذا الأمر ورأی ان الأمر یستحق الاهتمام فحاول کتابة کل کلمة تخرج من فم أستاذه لیتأمل بها بعد خروجه وذهابه إلی البیت ولینقلها إلی أصحابه الذین سیسألونه عن أول یوم من عطلته الصیفیة.


1- هذه الجمل والتی قبلها لیست من وحی الخیال أو من أقوالی حاشا السیدة الزهراء من ذلک، ولکنها أقوال بعض المنتسبین للمذهب ممن علم شأنهم وانتشرت أقوالهم، وقد ذکر السید جعفر مرتضی العاملی فی کتابه مأساة الزهراء وکتابه الآخر خلفیات کتاب مأساة الزهراء أقوال هذا البعض وناقشها بالتفصیل.

ص: 16

فکتب قول أستاذه: (أنا لا أتفاعل مع کثیر من الأحادیث التی تقول بأن القوم کسروا ضلعها، أو ضربوها علی وجهها، أو ما إلی ذلک. إننی أتحفظ فی کثیر من هذه الروایات...(1)).

وکتب أیضا: (کیف یمکن أن یضرب المهاجمون الزهراء، وقد کان ضرب المرأة عیبا عند العرب...(2)).


1- هذه هی بعض أقاویل السید محمد حسین فضل الله نقلت عنه ووثقت ونوقشت من قبل عدة علماء ومفکرین، وقد أثبتوا بالدلیل أن مسألة الاعتداء علی السیدة الزهراء هی لیست مسألة ذوق شخصی او تفاعل وعدم تفاعل من قبل شخص مع بعض الأحادیث، بل انها مسألة مبدأ بذل لأجلها الأئمة وأصحابهم وعلماء المذهب الغالی والنفیس فی سبیل تثبیتها وحفظها وترسیخها ونشرها لأنها أکبر ضربة یمکن ان یوجهها الحق للباطل فالاعتداء علی السیدة الزهراء لم یکن اعتداء من شخص علی شخص بل کان اعتداء علی مقدسات الإسلام ومبادئه وأفکاره؛ لأن السیدة الزهراء کانت الممثل والمجسد لهذه المقدسات والقیم والمبادئ وان الاعتداء علیها اعتداء علی تلک الثوابت التی سعی النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) طوال مدة رسالته الی تثبیت قدسیتها وارتباطها بالسماء، وانها المرآة التی تعکس رضا الله وسخطه فی أهل الأرض، وانها المعصومة التی لا یأتیها الباطل من بین یدیها ولا من خلفها کما نصت علی ذلک آیة التطهیر، اذن فقضیة الاعتداء علی السیدة الزهراء علیها السلام أکبر من مجرد تفاعل او ذوق شخصی لهذا الإنسان او ذاک.
2- یقول السید جعفر مرتضی العاملی فی کتابه خلفیات مأساة الزهراء علیها السلام: (إن کون ضرب المرأة عیباً لا یعنی عدم ارتکابهم لهذا العیب إذا وجدوا أن أمراً خطیراً جداً سوف یخسرونه کما هو الحال هنا. قد جلدت السیدة زینب بالسیاط کما ذکر هذا البعض نفسه وکذا سائر السبایا. وکان المشرکون یعذبون النساء فی مکة، حتی ماتت سمیة أم عمار بن یاسر تحت التعذیب، وقد اعترف عمر نفسه بأنه کان یعذب جاریة بنی مؤمل. ولما مات عثمان بن مظعون بکت النساء فجعل عمر یضربهن. وأهدر النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) دم هبار بن الأسود، لأجل ما کان منه فی حق زینب. وضرب عمر النساء ومنهن أم فروة أخت أبی بکر لأنها بکت أخاها؟ ... إلی غیر ذلک مما لا مجال لاستقصائه).

ص: 17

وکتب أسامة علی لسان أستاذه قوله: (لم یکن لبیوت المدینة المنورة فی عهد رسول الله أو بعده، أبواب ذات مصاریع خشبیة، بل کان هناک ستائر فقط توضع علی الأبواب، فکیف عصرت الزهراء إذن بین الباب والحائط؟ وکیف اشتعلت النار فی خشب الباب؟(1)).

هذا هو مجمل ما قاله أستاذ أسامة فی درسه الأول وبهذه الکلمات أنهی درسه وودع طلبته علی أمل اللقاء بهم غدا.

خرج أسامة من قاعة الدرس، یتنازعه شعوران، شعور بالبهجة لأنه تعلم أشیاء لم یکن یعرفها، وانفتحت عینه علی حقائق کانت غائبة عن نظره، وشعور بالخوف، لأن هذه الأشیاء التی تعلمها الیوم تخالف کل ما قد تعلمه وسمعه من قبل من أبویه ومن المحاضرات التی کان یحضرها فی أیام محرم وشهر رمضان وغیرهما من أیام السنة، فاحتار أی الأمرین یصدق وبأی القولین یأخذ.

وبینما هو یسیر نحو داره بخطوات متثاقلة، أخذ یسترجع کلمات أستاذه بینه وبین نفسه، ویحللها بعقله قائلا: (لو ان امرأة تأتی الآن وتعتدی علی، هل أقوم


1- لقد جمع السید جعفر مرتضی العاملی فی کتابه مأساة الزهراء فی أواخر الجزء الثانی عشرات بل مئات النصوص الدالة علی وجود أبواب ومصاریع خشبیة لبیوت المدینة وان هذه الأبواب قد کان لها مفاتیح وأقفال ورتاج وان خشبها قد یکون من عرعر او ساج او جرید وغیر ذلک من خصوصیات فراجع.

ص: 18

بضربها؟). فأجاب علی الفور: (کلا لا أضربها حتی ولو کانت هی المعتدیة، إذن فکیف رضی المسلمون أن یعتدوا علی السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) ویضربوها، لا لا فهذا غیر معقول إطلاقا، فالعرب کما قال الأستاذ کانت لا تقبل أن تضرب المرأة فکیف قبلت أن تضرب سیدة نساء العالمین؟!!، أمر لا یصدق).

(ثم ان الأبواب وکما یقول الأستاذ لم تکن موجودة فکیف عصروها إذن وراء الباب؟ أمر عجیب! ثم ألیست الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بشراً مثلنا فکیف تکون نورا؟! ثم حتی لو کانت نورا فما ضرورة الکلام بهذه الأمور الآن ونحن فی عصر التکنولوجیا والفضاء والتقدم العلمی؟ ألیست هذه الأمور تضحک الذین یخالفونا فی الدین؟! ثم إذا کانت السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) قد رضیت عن أبی بکر وعمر فلماذا نصر نحن علی اتهامهم والتحریض علیهم؟!).

وهکذا بدأ أسامة یقنع نفسه بعدم صحة مثل هذه الأمور، وبعدم أهمیتها وان الخوض فیها خوض فیما لا فائدة منه، وان الله سبحانه یوم القیامة سوف لن یسألنا عن أمور جرت فی غیر عصرنا ولا نعلم تفاصیلها، ولیست هنالک أهمیة عبادیة من ورائها، بل سیسألنا عن صلاتنا وصیامنا وما ابتلینا به فی عصرنا هذا، فالأحری أن نلتفت إلی ما یضرنا وینفعنا فی الآخرة بدلا من تضییع الوقت علی أمر لا یضر من جهله علی حسب تعبیر أستاذه.

ص: 19

لقاء مع خالد

وصل أسامة إلی البیت، تمدد قلیلا فی غرفته لیریح نفسه من شمس ذلک الیوم المحرقة، شم أسامة رائحة الطعام الذی کانت تعده أمه فی المطبخ، فأمه کانت مشهورة عند جمیع الأقارب والجیران بطیب طعامها ونکهته التی تبقی فی ذهن کل من یأکل منه، وما إن شم أسامة روائح البهارات والزعفران تنبعث من الطعام حتی أحس بالجوع فجلس من فراشه واتجه مباشرة إلی المطبخ حیث کانت أمه واقفة.

أحضر أسامة صحنا وطلب أن تسکب له فیه الطعام، حاولت الأم تصبیره إلی أن یحضر جمیع أفراد العائلة لیأکلوا معا، لکنه ولفرط جوعه أصر علی الأکل قبل الجمیع فلم تجد أمه بداً من الاستجابة لإلحاحه.

صعد أسامة فی غرفته، وضع الصحن أمامه، التهم محتواه وکأنه لم یأکل منذ شهر، بعدها أحس بالنعاس یهجم علی عینیه، فلم یجد بداً من أخذ غفوة قبل حلول وقت لعب کرة القدم مع الأصدقاء.

أحس أسامة من نومه أثر هجوم الحر علیه، وبعد انقطاع التیار الکهربائی، بدا وکأنه لم ینم إلا لحظات، نظر إلی الساعة الجداریة التی أمامه فصعق! فالساعة

ص: 20

الخامسة عصراً، وموعده مع أصدقائه هو فی الرابعة، قفز من سریره لبس ملابسه ونزل بسرعة إلی الشارع مهرولاً عسی أن یجدهم فی انتظاره.

وصل إلی الملعب فوجدهم قد بدأوا ومضی ثلثی الشوط الأول، أشاروا له بأیدیهم أین کنت؟ فأشار لهم بأنی کنت نائما، بعضهم ضحک علیه، وبعضهم هز بیده معاتبا، وبعضهم رمقه بنظرات الغضب، بینما أشار رئیس الفریق بیدیه لیلبس ملابسه ویستعد للنزول إلی أرض الملعب، ولکن أسامة أحس بوجود خطأ آخر، فقد نسی ملابسه الریاضیة فی الغرفة حینما نزل مستعجلا، فصاح أسامة فی أعماقه: (یا ویلی! ماذا سأقول لهم حینما یطلبون منی النزول إلی الملعب؟).

فأحس بإحراج شدید لما ستکون علیه ردة فعلهم، فسیضحک منه أکثرهم، وسیغضب علیه الآخرون، فقرر فی نفسه أن ینسحب من بین الجمهور رویدا رویدا، ومن ثم یذهب إلی البیت، ومن ثم یعتذر لهم بحصول أمر طارئ اضطره إلی الرجوع، وبینما کان فریقه منشغلا بهجمات خصمه، انسحب أسامة من بین الجموع المحتشدة، وخرج من دون أن ینتبه إلیه أحد من أصحابه.

اتجه أسامة إلی البیت عائدا أدراجه یمشی بخطوات سریعة، وبینما هو یمشی رفع رأسه من دون تعمد فرأی أمامه بنایة المکتبة العامة وهی مشرعة الأبواب، وحارس البنایة یرش الأرض بالماء استعدادا لتنظیفها، وبعض الداخلین یتحاشون قطرات الماء المنهمرة من ید الحارس فیلوذون جانباً، بینما البعض الآخر یمر علیها غیر مکترث لسقوطها علی ملابسه، فبینما هو ینظر الی بنایة المکتبة تذکر کلام أستاذه الیوم، وبدأت کلماته تقرع فکره، وبدأ إحساس الحیرة والتردد

ص: 21

من مقولاته یدب إلی قلبه من جدید، فأحس بإلحاح شدید لإیجاد أجوبة مقنعة علی حیرته وتردده، فقال فی نفسه: (وأی مکان أفضل من المکتبة لإیجاد حلول مقنعة لهذه الحیرة التی أعیشها؟) فقرر أن یدخل المکتبة ویتجول بین کتبها عسی أن تقع عیناه علی ما یعینه وینفعه.

غیر أسامة اتجاه مسیره، وانحرف بمشیته یمینا نحو بوابة المکتبة، کان الحارس قد انتهی من رش الماء، وذهب إلی مکنسته لیستعین بها علی إزالة الأتربة وأوراق الشجر المتساقطة من حدیقة المکتبة، صعد أسامة سلم المکتبة المؤلف من أربع درجات مصنوعة من الحجر الصلد، فتح الباب الخشبی فمر علی وجهه تیار من الهواء البارد الخارج من مکیفات الهواء والممزوج بعطر طیب أنساه حرارة الشمس فی الخارج.

ولما استقرت قدما أسامة فی ساحة المکتبة جعل یلتفت یمینا وشمالا مستطلعا المکان ومستأنسا بأهله، فوقعت عیناه علی أمینة المکتبة وهی جالسة علی طاولة، وأمامها جهاز کمبیوتر تکتب فیه تارة وتارة أخری ترمق بنظرها الداخل والخارج من المکتبة، نظرت إلیه، ابتسمت وهزت رأسها هزة ترحیب، وسألته: (هل ترغب بالمساعدة؟).

فأجابها: (کلا شکراً، أرید أن آخذ جولة بین الکتب).

فقالت له: (علی الرحب والسعة تفضل، وإذا احتجت إلی المساعدة فلا تتردد بطلبها) قالت هذه الکلمات وأدارت رأسها نحو الکمبیوتر عائدة إلی عملها السابق.

ص: 22

  اتجه أسامة إلی رفوف الکتب مسروراً مبتهجاً، یقرأ العناوین وهو یتحدث مع نفسه: (ماذا لو کنت أحفظ کل هذه الکتب؟ کنت لأصبح أعلم أهل الدنیا، ولاستطعت التکلم مع أی شخص وبأی موضوع کان، فی الطب وفی الهندسة وفی الزراعة والصناعة والدین والعقیدة وبأی شیء فی الدنیا).

وما ان أکمل کلامه حتی تراجع عن فکرته قائلا: (أو ربما سأصاب بالجنون، لان فی الکتب أفکاراً متضاربة وآراء مختلفة، أو ربما سأصبح منبوذا من قبل الآخرین، لأن کثرة العلم والقراءة توقع الإنسان فی المشاکل، وتجعله دائم النقد والانتقاد للآخرین وسینبذ من المجتمع، کلا لا أرید فهذه لیست بالفکرة الصائبة).

أکمل أسامة هذه الجمل وضحک فی داخله وقال: (الأفضل أن أکون کباقی الناس اقرأ وأتعلم وأحاول أن أکون مثقفا بالمقدار الطبیعی).

اتجه أسامة إلی جهة الکتب الدینیة محاولا الوصول إلی کتب العقائد أو التاریخ عله یجد مبتغاه فی عناوینها، قرأ مئات العناوین حتی تعب نظره وأصابه الدوار، فوقف یریح نظره بعیدا عن عناوین الکتب متطلعا إلی الحاضرین، وإذا به یلمح من بعید شاباً ملامحه لیست غریبة عن مخیلته، ساقه فضوله أکثر فتقرب منه للتأکد أکثر والتأمل عن قریب، قال فی نفسه: (انه خالد، نعم هو بعینه! ولکنه تغیر کثیرا).

وصل أسامة أمام الطاولة التی کان جالسا علیها ذلک الشاب، وقف أمامه همس بصوت هادئ (خالد، هل أنت خالد؟).

ص: 23

رفع الشاب رأسه وأجاب بصوت فیه رقة ولطف: (نعم أنا خالد).

نظر الاثنان فی وجه بعضهما وعلت علی وجهیهما ابتسامة متبادلة، وقام خالد من مکانه متسائلا: (هل هذا الذی یقف أمامی هو أسامة؟).

ضحک أسامة وأجابه: (نعم أنا هو).

مد کل من أسامة وخالد أیدیهما وتصافحا ثم قبّل أحدهما الآخر قبلات عدة ثم احتضن أحدهما الآخر، فهمس خالد فی أذن أسامة: (تعال لنخرج إلی حدیقة المکتبة لنستطیع التکلم بحریة أکبر).

فأجابه أسامة علی الفور: (تفضل، وتقدم أنت أولا لأنی لا أعرف الطریق إلیها).

تقدم خالد ومشی أسامة خلفه واتجها نحو الباب الخشبی الموجود فی نهایة قاعة المکتبة، وبینما کان أسامة یمشی حاول التأمل أکثر فی وجه وملامح صدیقه خالد وهو یقول فی نفسه: (سبحان الله لم تتغیر ملامح خالد علی رغم تلک السنین وکأنه لم یکبر، فما زال رشیقا سریع الخطوات، وهو علی ما فیه من نحافة الجسم فقد جمع قوة البدن وجمال الصورة، وما زال الرائی له یلمح فی وجهه الأُنس والصدق والوداعة، وما زالت الشامة التی علَتْ جهة شفته الیسری واضحة تجلب نحوها النظر، غیر أن شارباً خفیفاً نبت تحتها زادها جمالاً، أما هندامه فهو کالسابق نظیف وبسیط، ولا أنسی عزة نفسه، ونقاء فطرته، وبدیهیته التی تلفت انتباه کل من یحاوره ویعاشره).

ص: 24

حوار ساخن

وصل خالد إلی الباب الخشبی فتحه وخرج منه أولاً، ثم خرج بعده أسامة،  أمسک خالد بکف أسامة، وقاده إلی ساحة کبیرة مزروعة بحشائش الثیل، وقد وزعت فیها بعض أشجار الکالبتوس بشکل انتقائی جمیل، جعل منها تغطی بفیئها أغلب أجزاء الحدیقة، وقد وزعت فی أرجاء تلک الحدیقة بعض الطاولات لمن یرغب بالقراءة فی الهواء الطلق، أو لمن یرغب بالقراءة بصوت عالٍ، أو یتشارک مع أصدقائه القراءة والنقاش.

جلس أسامة وخالد تحت ظل إحدی الشجرات بعد أن نفضا الکرسی من بعض ورقات الکالبتوس، نظر أحدهما وجه الآخر نظرة مشتاق، وبادر خالد بالقول: (إیه أسامة أتذکر آخر مرة التقینا بها؟).

فأجابه أسامة علی الفور: (نعم کان ذلک الیوم هو الیوم الأخیر من امتحانات الصف الثالث المتوسط، وبعدها لم أرک، إلا أنی سمعت بأنک وأهلک قد انتقلتم إلی مدینة النجف الأشرف، وسمعت أیضا بأنک بدأت بحضور دروس الحوزة فی النجف إضافة إلی دراستک الأکادیمیة).

ص: 25

قال خالد: (صحیح ما تقول، ولکم تمنیت أن أراک وأری بعض الأصدقاء الذین کانوا معنا فی الصف قبل أن أعود إلی بیتنا، وها أنا بحمد الله أحقق أمنیتی) قال خالد هذه الکلمات وسکت وصرف بوجهه إلی الأرض وعلامات الحزن قد بدت علی محیاه وکأنه تذکر أمراً هیج علیه إحساس الکآبة.

أحس أسامة بوقوع أمر مهم لصدیقه خالد فخاطبه بالقول: (عفوا قد یکون سؤالی تدخلا فیما لا یعنینی، ولکنی لا أجد بداً عن سؤالک، هل من أمر مهم نزل بک؟ لأنی أری حالک قد تغیر فجأة).

تنهد خالد ورفع رأسه عن الأرض وقال: (أنت تعرف ان أختی تسکن هاهنا مع زوجها وأربعة من أطفالها، وکل علمنا بهم انهم یعیشون عیشة مستورة بسیطة لکنها سعیدة، ولم نکن نحمل همهم کثیراً لان زوجها رجل متدین وهو قائم بجمیع شؤونهم الحیاتیة، کان هذا تصورنا عنهم، إلی أن دق جرس الهاتف ذات لیلة، فرفعت أمی سماعة الهاتف، وعرفنا من کلماتها ان المتصلة هی أختی، وبعد کلمات الترحیب والشوق والسؤال عن الحال بدأت أمی تسکت طویلا وهی تستمع إلی کلام أختی، وبدأ مع طول سکوتها لون وجهها یتغیر، ولم تعد تقوی علی الکلام أکثر من قول: لا، غیر معقول!!

ثم تسکت طویلا وتقول: ومتی حدث هذا؟.

ثم تسکت وتقول: ولماذا لم تخبرینا کل هذه المدة؟.

ثم بدأت أمی تبکی، فهرعنا إلیها مستفسرین عن الخبر، وعن سبب البکاء فسمعنا ان أختی تبکی أیضا وبصوت عالٍ، أخذت سماعة الهاتف ونادیتها:

ص: 26

أخبرینی ما الخبر؟ ولماذا هذا البکاء؟ هل حدث لکم مکروه؟.

فأجابتنی بثلاث کلمات فقط: زوجی مصاب بالسرطان.

إنصعقت، ذهلت، لم أستطع بعدها النظر إلی ما حولی، ولا التفکیر بشکل واضح، صحت: لا، لا غیر معقول!! هل ذهبتم إلی الطبیب؟ هل تأکدتم؟.

فردت علی بصوت متقطع نعم ذهبنا والأمر لیس بالجدید فمنذ سنة وهو یعانی من هذا المرض، لکنی لم أخبرکم کی لا تتأذی أمی، وقد أخبرتکم الآن لان صحته قد تدهورت هذه الأیام بشکل کبیر وهو الآن طریح الفراش.

أقفلت الهاتف بعد أن أخبرتها بأنی سآتی إلی بیتهم غدا بصحبة أمی وأبی لنری ما یمکننا أن نفعل، ومنذ ثلاثة أیام ونحن هنا، وزوج أختی لا هو میت فینعی ولا هو حی فیرجی).

قال خالد هذه الکلمات وقطرات الدمع بدأت تسیل علی خده فبادر مسرعا إلی مسحها بمندیل أخرجه من جیبه، لم یتمکن أسامة من فعل شیء سوی قیامه من کرسیه واحتضان خالد وتصبیره بکلمات العزاء والمواساة.

 جلس خالد وأسامة من جدید، فبادر خالد بالکلام: (هذه أخباری فما أخبارک؟ وما الذی جاء بک إلینا الیوم؟ فإنی لم أعهدک من قبل ترتاد المکتبة).

ابتسم أسامة وقال: (جاء بی إلی هنا نفس السبب الذی جاء بک).

خالد: (عفوا، لم أفهم قصدک).

أسامة: (الخوف یا صدیق هو الذی جاء بنا جمیعا، فأنت فی بلدتنا بسبب

ص: 27

خوفک علی أختک وزوجها، وأنا هنا بسبب خوفی علی نفسی).

تبسم خالد وقال: (مالک یا صدیقی؟ أراک تتکلم بالألغاز، أفصح أکثر عسی أن أعینک أو أساعد علی تبدید مخاوفک).

قص أسامة علی خالد حضوره لدروس الدورة الصیفیة فی المسجد، وعن أقوال أستاذه فی درسه الأول، وعن تأییده له فی کل ما قاله، وعن تردده بعد ذلک، ومن ثم حضوره إلی المکتبة لیجد إجابة علی تساؤلاته وحیرته.

فما ان انتهی أسامة من سرد محنته قال له خالد: (أنت قد سمعت من أستاذک رأیاً واحداً، فهلا سألت نفسک عن وجود رأی آخر فی المسألة؟إذ لعل ذهاب همک وانجلاء حیرتک تکمن فی معرفتک للرأی الآخر، لاسیما إذا کان هذا الرأی الآخر أقوی وأمتن من رأی أستاذک، فأستاذک یا أسامة تکلم من وجهة نظر شاذة عن رأی بقیة علماء مذهبنا، ومن زاویة مخالفة لما هو ثابت فی التاریخ).

أسامة: (ولکن أقواله کانت مقبولة وواقعیة فما قیمة أن تکون السیدة الزهراء أفضل من مریم أو تکون مریم أفضل منها؟ وما أثر هذا الأمر فی حیاتنا؟ ثم لماذا یجب أن نخوض فی صراع أکل علیه الدهر وشرب؟ وقد وقع فی زمن لم نکن فیه، وقد تصالحت أطراف النزاع فیما بینها، فإذا کان المتنازعون قد رضی بعضهم علی البعض الآخر، فلماذا ننزعج نحن ونطلب بثارات قد تنازل عنها أصحابها؟ ثم إنی أمیل إلی القول بأن القضیة بجمیع تفاصیلها مفبرکة، وهی أشبه بالخیالات، ومن أوضح الأدلة علی کونها مفبرکة هی مسألة وجود الأبواب، فالأبواب اخترعت حدیثا، وکذلک المسامیر والأقفال وغیر ذلک، وإذا لم یکن

ص: 28

هنالک باب أصلا، فکیف یقولون بأن السیدة الزهراء قد عصروها بین الحائط والباب؟! فهذه القصة شبیهة بالذی یأتی ویقول ان بلالاً الحبشی مثلاً قد توفی لأن سیارة دهسته، أو سقطت طائرته عندما کان مسافراً من مطار مکة إلی مطار دمشق).

ضحک أسامة ضحکة عالیة، ونظر إلی صدیقه خالد ظنا منه بأنه سیشارکه الضحک، ولکنه فوجئ بأن خالدا کان منکسا رأسه إلی الأرض وهو یهز برأسه متأسفا متحسرا، فأحس أسامة بالحرج والخجل فسکت من ضحکه.

نظر خالد إلی ساعة فی یده ثم نظر إلی أسامة وقال: (وقت صلاة المغرب قد اقترب، وأنا مضطر للذهاب إلی البیت، لکن إذا أردت معرفة الجزء الآخر من الحقیقة، فیمکنک المجیء غداً إلی هذا المکان، لأوضح لک بعض ما خفی عنک، أو بعض ما تعمد أستاذک إخفاؤه عنک).

قام خالد من مجلسه ومد یده مودعا، فتصافحا وتمنی أحدهما للآخر یوما سعیداً وتوفیقا مستمراً.

ص: 29

انکشاف الحقیقة

انطلق أسامة إلی بیته بعد أذان المغرب، ووجد سیارة الأجرة التی یعمل علیها أبوه مرکونة فی مکانها المعتاد، دخل البیت فوجد أباه واقفاً علی سجادته یصلی، ووجد أمه تعد سفرة العشاء، وما ان وقعت عیناها علیه قالت له: (هل صلیت؟).

فأجابها: (لا، لم أصلِّ بعد).

فقالت: (هیا لا تضیع الوقت، صلِّ کی نتعشی، فأبوک جائع وما زال من دون غداء).

هرول أسامة إلی غرفته توضأ وصلی ثم نزل فوجد السفرة قد مدت ووزعت علیها أطباق الأکل وأکواب العصیر، أکل أسامة ثم قام ومدد أمام التلفاز، تارة یشاهد، وتارة یمازح الحاضرین، وتارة یفکر بلقائه مع خالد، وهو یقول فی نفسه: (أتری کان لقائی بخالد الیوم مجرد صدفة؟ أم إن الحکمة هی التی ساقتنی وساقته إلی قاعة المکتبة ثم إلی حدیقتها؟ ویلای یا لها من حیرة! ألم یکن من الأفضل أن أذهب إلی لعب کرة القدم مع الأصحاب؟ فلو لم أذهب إلی درس المسجد لما حلت بی هذه الحیرة).

ص: 30

حینها شعر أسامة برغبة شدیدة فی ترک الذهاب مجددا إلی درس الغد فی المسجد، بل وترک الذهاب إلی المکتبة ورؤیة صدیقه خالد مرة أخری، وترک التفکیر فی ما عاشه من حیرة والذهاب إلی کرة القدم ونسیان الأمر بالکلیة، ولکنه رجع وقال فی نفسه: (ما هذه الانهزامیة یا أسامة؟! فهل الشجاعة تکمن فی الهرب من المشکلة أم فی مواجهتها؟ إذا أردت أن لا تذهب إلی دروس المسجد فلا تذهب، لکن علی أقل تقدیر اذهب إلی صدیقک خالد لتعرف الجزء الآخر من الحقیقة، فإن أعجبک الکلام فبها، وإن لم یعجبک الکلام فجد لصدیقک خالد عذراً تتملص به منه ومن حواره).

فکان قرار أسامة الأخیر هو أن لا یحضر دروس المسجد حتی یلتقی بصدیقه خالد، فإن أثبت له بأن أستاذه الذی فی المسجد قد أخفی الحقیقة وزورها فإنه سیترک دروسه إلی الأبد، وأما إن لم یثبت له ذلک فسیترک صدیقه خالداً ویعود إلی درس المسجد.

انقضت ساعات اللیل سریعاً، وجاءت ساعات النهار، وصارت الساعة الخامسة عصراً، اتجه أسامة إلی بنایة المکتبة العامة، وجد حارس البنایة جالساً علی کرسیه فی الباب وهو یلف سیجارة وینفض من علی ثوبه بقایا التبغ المتساقط، وصل أمامه سلم علیه أسامة فرد الحارس من دون أن یرفع بصره إلیه، واستمر فی إشعال سیجارته واستنشاق أکبر قدر من الدخان لیعید إخراجه من جدید علی شکل سحابة بیضاء تنتشر وتتبدد فی الهواء.

کان هذا المنظر یریح الحارس ویشعره بالقوة، ویخیل إلیه بأنه برکان یرمی

ص: 31

بشرره بکل اتجاه، لکن هذا الأمر کان یزعج المارین من قربه، ویحدوهم إلی حبس النفس فی أثناء مرورهم من قربه.

دخل أسامة قاعة المکتبة، أجال بنظره یمیناً وشمالاً، فلما لم یجد صدیقه خالداً بین الحاضرین اتجه مباشرةً إلی الباب المؤدیة إلی حدیقة المکتبة، خرج منها، أجال بنظره، فوجد صدیقه خالداً جالساً علی مقعد بعید فی نهایة الحدیقة، وأمامه مجموعة کبیرة من الکتب، بعضها مفتوح وبعضها مغلق، وخالد منهمک فی تسجیل أشیاء فی ورقة کانت أمامه.

انتبه خالد إلی وقع أقدام أسامة فلوح له بیده لیأتی إلیه، وصل أسامة إلی الطاولة، فقام خالد وصافحه وقبل أحدهما الآخر، ثم قال: (تفضل اجلس یا صدیقی).

جلس أسامة، وتبادلا کلمات الترحیب والاشتیاق، فسأل خالد: (کیف هی والدتک یا أسامة؟).

أسامة: (بخیر والحمد لله، وقد أخبرتها البارحة بقدومک فحملتنی السلام لک ولوالدتک وقد وعدت بزیارة بیت أختکم لرؤیة والدتک وأختک، ولتطمئن علی أحوال مریضکم).

خالد: (أتعلم ان والدتک امرأة عظیمة، وهی أفضل من کثیر من النساء اللاتی جاورناهن فی الماضی والآن، فنعم المرأة الصالحة)، شعر أسامة بالارتیاح والفخر لانتمائه إلی هذه المرأة الصالحة.

قال خالد وهو ینظم الکتب التی أمامه: (أخبرنی: بأی سؤال تریدنا أن نبدأ أولا؟).

ص: 32

أسامة: (الأمر لک، فکلها مهمة بالنسبة إلی).

خالد: (ما رأیک لو بدأنا بأهمیة القول بتفضیل السیدة الزهراء علیها السلام علی مریم أو غیرها من الصحابة والصحابیات؟ وهل ان لهذا الأمر أثراً فی دنیانا وآخرتنا؟).

أسامة: (لا بأس بذلک).

خالد: (ألیس أستاذک یقول: إن فکرة تفضیل نبی علی نبی آخر، أو تفضیل إمام علی نبی، أو تفضیل السیدة فاطمة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی مریم، لا یجنی الخائض فیه أیة فائدة علی مستوی الدین أو الدنیا سوی إتعاب الفکر وإرضاء الزهو الذاتی؟). أسامة: (نعم).

خالد: (هل تعلم یا أخی العزیز بأن الله سبحانه أول من فضل الأنبیاء بعضهم علی بعض حیث قال: «تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَی بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ»(1) فالقرآن کما تری قد خاض فی مسألة التفضیل، فهل یعنی ذلک أن القرآن یتکلم عن أشیاء لیس من ورائها فائدة؟).

أسامة: (حاشا لله فالقرآن لا یقول شیئا من غیر فائدة، ولکن ربما یکون هذا التفضیل قد جاء ذکره فی القرآن بشکل عرضی فی هذه الآیة فقط).

خالد: (بل جاء ذکر التفضیل والتفاضل بین الأنبیاء فی أکثر من آیة کقوله تعالی:« وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلَی بَعْضٍ»(2)، وقوله تعالی: «وَإِسْمَاعِیلَ وَالْیَسَعَ


1- سورة البقرة الآیة رقم 253.
2- سورة الإسراء الآیة رقم 55.

ص: 33

وَیُونُسَ وَلُوطًا وَکُلًّا فَضَّلْنَا عَلَی الْعَالَمِینَ»(1)، وکقوله سبحانه: «وَلَقَدْ آَتَیْنَا دَاوُودَ وَسُلَیْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی فَضَّلَنَا عَلَی کَثِیرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِینَ»(2)، فهذه أربع آیات ورد فیها لفظ التفضیل صراحة، وأربع آیات یعنی أنها بعدد آیات سورة التوحید، وأکثر من عدد آیات سورة النصر، لأن آیات سورة النصر ثلاث آیات).

أسامة: (آمنت بأن التفضیل منهج قرآنی، ولکن ما فائدته فی وقتنا الحاضر؟ فالبشریة تخطوا خطوات واسعة فی التکنولوجیا والتطور الصناعی، فهل من المعقول أن نأتی ونجلس فی بیوتنا ونفکر فی من هو الأفضل مریم أم فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها)، فهل هذا الأمر سیشارک فی تقدمنا العلمی؟).

خالد: (لا ربط بین مسألة التقدم العلمی وبین القول بأفضلیة السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) علی السیدة مریم علیها السلام، والقول بأفضلیة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لا یعنی ان نوقف العقل عن التفکیر والإبداع، ألا تری ان الغرب یؤمن بأفضلیة نبی الله عیسی بن مریم (صلوات الله و سلامه علیه) علی نبینا (صلی الله علیه و آله و سلم) وعلی جمیع الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، بل ویعدّونه إلها یعبد، ولکنهم مع ذلک ینتجون ویتطورون ویبدعون فی مجال الصناعة والتکنولوجیا، والیابان یعتقدون بأفضلیة إلههم بوذا علی جمیع الآلهة مع انه صنم من حجارة منحوتة، ولکنهم مع ذلک ینتجون ویتقدمون ویبدعون، فالقول بأفضلیة موجود علی موجود آخر لا یمنع


1- سورة الأنعام الآیة رقم 86.
2- سورة النمل الآیة رقم 15.

ص: 34

الإنسان من التقدم والرقی، ولکن مشکلتنا نحن - المسلمین - أن نعلق فشلنا وتقاعسنا علی قضایانا الدینیة).

أسامة: (هل تستطیع أن تعطینی بعض الفوائد التی یمکن أن أجنیها من القول بأفضلیة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی مریم أو علی عائشة بنت أبی بکر أو علی غیرها من الصحابیات؟).

خالد: (بعض منافع القول بتفضیل السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی مریم أو عائشة أو باقی الصحابیات وحتی نساء عصرنا هی منافع دنیویة، وبعضها الآخر منافع أخرویة، وقبل أن أتکلم فی المنافع، هل لی أن أسألک سؤالا؟).

أسامة: (نعم تفضل).

خالد: (هل لک أن تخبرنی ما کان شعورک حینما أخبرتک بأن والدتک امرأة جلیلة القدر وأنها أفضل من کثیر من النساء؟).

أسامة: (شعرت بالفخر لانتمائی إلی امرأة هی أفضل من کثیر من النساء، وأحسست بأنی أفضل من کثیر من الشباب الذین لم یحظوا بأم مثل أمی).

خالد: (أوَتعدّ کون والدتک أفضل من کثیر من النساء منفعة أم مضرة؟).

أسامة: (بالطبع منفعة، بل لو کانت دون النساء لأحسست بالضرر البالغ والخجل).

خالد: (قولک هذا نفسه یمکن أن نطبقه علی مسألة تفضیل السیدة الزهراء

ص: 35

 (صلوات الله و سلامه علیها)، فانتماؤنا وانتماء عقائدنا وأفکارنا وانتسابنا إلی سیدة هی الأفضل من جمیع نساء العالمین هو بذاته فخر وسمو، یشعرنا بأفضلیتنا وأفضلیة مذهبنا وأفضلیة عقائدنا علی جمیع مذاهب المسلمین الأخری وعقائدهم، لأن العقیدة الفاضلة والمذهب الأفضل والفکر الأفضل هو الذی یجمع أکبر عدد من الأشخاص العظماء.

ومذهبنا له هذه الخاصیة، فأئمتنا أفضل البشر باعتراف القاصی والدانی، فمنهم الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) سید الوصیین، ومنهم الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) سیدة نساء العالمین، ومنهم الحسن والحسین (صلوات الله و سلامه علیهما) سیّدا شباب أهل الجنة، ومنهم المهدی (صلوات الله و سلامه علیه)، فمذهب یقوم علی هؤلاء الأطهار أحق أن یتبع، وعقیدة تؤخذ من سید الأوصیاء وسیدة النساء وسیدی شباب أهل الجنة لهی مضمونة الصحة یشهد لها ظاهرها علی باطنها.

بل لو کان لنا قادة وأئمة غیر هؤلاء الأطهار لأحسسنا بالضرر والخجل، کالذین جعلوا من معاویة بن أبی سفیان أو یزید بن معاویة أو الحجاج أئمة لهم).

أسامة: (صدقت وأحسنت، فلو کنت من أتباع هند آکلة الأکباد، أو التی خالفت أمر النبی وخرجت تجر الناس وتقتل المسلمین، أو الذی قتل ریحانة النبی الهادی لشعرت بالحرج والخجل الشدیدین، فالحمد لله علی نعمة الانتماء لسیدة النساء وبقیة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)).

خالد: (والقول بأفضلیة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی بقیة نساء العالمین؛ ینتج عنه ازدیاد لمعرفة المؤمن بربه وبأئمته، والازدیاد فی المعرفة فضیلة عظیمة،

ص: 36

حیث ورد فی عدد من الروایات الشریفة أن الإیمان عشر درجات، وکلما ترقی الإنسان فی المعرفة بالله وبأولیائه ترقت درجته، کما وروی عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) قوله: «أفضلکم إیمانا أفضلکم معرفة»(1)، کما وروی عن الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه): «إن القلوب أوعیة فخیرها أوعاها»(2)، کما وروی عنهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) انهم قالوا: «بَعضُکُم أَکثَرُ صَلاةً مِن بَعض، وبَعضُکُم أَکثَرُ حَجًّا مِن بَعض، وبَعضُکُم أَکثَرُ صَدَقَةً مِن بَعض، وبَعضُکُم أَکثَرُ صِیامًا مِن بَعض، وأفضلکُم أفضلکُم مَعرِفَةً»(3)، فجمیع هذه الأحادیث وغیرها تؤکد علی ان مستوی الإیمان والفضل یعتمد علی مستوی معرفتنا بالله سبحانه وبالنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وبباقی المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ومنهم السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)).

توقف خالد عن الکلام ریثما یشرب جرعة من الماء، ولیعطی أسامة فرصة لاستیعاب الحوار، ولکی یسأل إذا کان عنده أی سؤال أو استفسار، ثم قال: (هل تعبت؟ أنتوقف أم نکمل؟).

أسامة: (بل نکمل، لأنی مشتاق لمعرفة المزید، فهل یوجد شیء إضافی لم تخبرنی به؟).

خالد: (أتعلم یا أخی أن معرفة الله حق معرفته متوقفة علی معرفة النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة والصدیقة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) حق معرفتهم؟).


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج3 ص14 باب 1 ثواب الموحدین والعارفین، حدیث رقم 37.
2- الإرشاد للشیخ المفید ج1 ص227.
3- صفات الشیعة للشیخ الصدوق ص15.

ص: 37

أسامة: (وکیف یکون هذا وما دلیله؟!).

خالد: (دلیله ما ورد فی عدة من الروایات الشریفة وأقوال علماء المذهب قدس الله أرواحهم، فمن الروایات قول الإمام الباقر (صلوات الله و سلامه علیه): «إنما یعرف الله عز وجل ویعبده من عرف الله وعرف إمامه منا أهل البیت ومن لا یعرف الله عز وجل و [لا] یعرف الإمام منا أهل البیت فإنما یعرف ویعبد غیر الله هکذا والله ضلالا»(1).

ومنها قول الإمام الصادق (صلوات الله و سلامه علیه): «نحن والله الأسماء الحسنی التی لا یقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا»(2)، فهاتان الروایتان تصرحان بما لا یقبل الشک بأن معرفة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) مقدمة لمعرفة الله سبحانه، وان معرفتهم باب لقبول الأعمال).

أسامة: (لحظة من فضلک، أنا أری ان هذه الأحادیث خاصة بالأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ولا دخل للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) فیها، لأنها تتکلم عن معرفة الإمام ولیس عن معرفة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)).

خالد: (یوجد جوابان علی سؤالک، الأول: هو ان الإمام هنا بمعنی الحجة ولیس بمعنی الشخص المکون من لحم ودم، فالإمام بصفته حجة الله تکون معرفته مقدمة لمعرفة الله سبحانه، والسیدة الزهراء داخلة فی هذه الروایات لکونها حجة من حجج الله سبحانه فتکون معرفتها أیضا مقدمة لمعرفة الله سبحانه.


1- الکافی للشیخ الکلینی  ج 1 ص 181.
2- المصدر السابق ص 143 __ 144.

ص: 38

والجواب الثانی: هو ان بعض الروایات قد صرحت بأن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) کانت حجة علی الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فتکون حجة علی بقیة المکلفین من باب أولی، فما ثبت لهم بعنوان کونهم حجة وإماماً یثبت لها (صلوات الله و سلامه علیها) بطریق أولی).

أکمل خالد کلامه ثم جعل ینظر فی الورقة التی أمامه وقال: (وهنالک فائدة أخری من فوائد معرفة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، فمعرفتها (صلوات الله و سلامه علیها) سبب من أسباب تضاعف الحسنات وقبولها، وهی شرط من شروط دخول الجنة، وکلما عظمت معرفة الإنسان بها وبغیرها من المعصومین عظمت درجته فی الجنة).

أسامة: (لا أظنک تتکلم من وحی الخیال أو من استنتاجاتک، فهل لهذا الکلام دلیل؟).

خالد: (بالطبع یوجد دلیل روائی علی هذه الحقیقة، فعن أبی بصیر عن أبی عبد الله الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) قال: «سألته عن قوله وعلی الأعراف رجال یعرفون کلا بسیماهم قال نحن أصحاب الأعراف فمن عرفناه کان منا ومن کان منا کان فی الجنة ومن أنکرناه فی النار»(1).

وعن الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال: «وإِنَّمَا الأَئِمَّةُ قُوَّامُ اللَّه عَلَی خَلْقِه وعُرَفَاؤُه عَلَی عِبَادِه ولا یَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ عَرَفَهُمْ وعَرَفُوه ولا یَدْخُلُ النَّارَ إِلاّ مَنْ أَنْکَرَهُمْ وأَنْکَرُوه»(2)).


1- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار  ص 519.
2- نهج البلاغة خطبة رقم 151 تحقیق صبحی الصالح.

ص: 39

أسامة: (ولکن هذه الأحادیث تتکلم عن أشخاص الأئمة علیهم السلام، فأصحاب الأعراف هم الأئمة فقط، وخطبة الإمام علی (صلوات الله و سلامه علیه) تتحدث أیضا عن الأئمة فمن عرفهم وعرفوه دخل الجنة ولا وجود للسیدة الزهراء فی هذین الحدیثین، وعلیه فلا یمکنک الاستفادة من الحدیثین لبیان فائدة معرفة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)).

خالد: (بل توجد أحادیث صرحت بأن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) من ضمن أصحاب الأعراف الذین یعرفون کلا بسیماهم، فقد ورد عن الإمام الحسن العسکری (صلوات الله و سلامه علیها) قوله: «... لیکونن علی الأعراف بین الجنة محمد وعلی وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام والطیبون من آلهم...»(1).

وأما خطبة الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) فهی وان تحدثت عن الإمام لکن السیدة الزهراء تکون داخلة فیها إما لأنها حجة أو لأنها حجة علی الأئمة، فیکون کل ما لهم من حق وفضل واجب لها من باب الأولویة، کما أوضحنا ذلک قبل قلیل).

أسامة: (آیة الأعراف تصرح بأن الذین علی الأعراف هم رجال، ومعنی أنهم رجال أی لیس فیهم نساء، فکیف أن القرآن یقول رجال والحدیث یقول رجال ونساء؟).

خالد: (الآیة القرآنیة لا ترید بذکر لفظ «رجال» الحصر والتعیین، بل ان لفظ الرجال قد ورد فیها للتغلیب، فلأن أغلب الواقفین علی الأعراف هم رجال


1- بحار الأنوار للمجلسی ج8 ص44.

ص: 40

جاء اللفظ مناسبا لهذه الأغلبیة، وتوجد أمثلة کثیرة فی القرآن الکریم جاء فیها الخطاب بصیغة التذکیر مع ان المخاطب فیها هو النساء والرجال معا).

أسامة: (إلی الآن عرفت أن معرفة المعصومین ومنهم السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) شرط من شروط دخول الجنة، فما هو الدلیل علی کون معرفتهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) سبباً من أسباب تضاعف الحسنات وقبولها، وسبباً لارتفاع درجة المؤمن فی الجنة؟).

خالد: (أما کون معرفة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) سبباً لزیادة وتضاعف الحسنات فدلیله ما ورد فی ثواب زیارة الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) فعن أبی عبد الله الصادق  *  قال: «قلت له: ما لمن أتی قبر الحسین علیه السلام زائراً عارفاً بحقه غیر مستکبر ولا مستنکف، قال: یکتب له ألف حجة وألف عمرة مبرورة، وإن کان شقیا کتب سعیدا ولم یزل یخوض فی رحمة الله عز وجل»(1).

وتوجد روایات أخری کثیرة بهذا المضمون حول من زار الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) عارفا بحقه، ومن زار الإمام الرضا عارفا بحقه، بل ومن زار السیدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسی بن جعفر عارفا بحقها فله الجنة(2)، والسیدة الزهراء حقها أعظم من حق فاطمة بنت موسی بن جعفر (صلوات الله و سلامه علیها)، فیکون معرفة حقها أولی بالثواب وأولی بمضاعفة الحسنات).


1- کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه  ص 307 الباب 67 فی ان زیارة الحسین علیه السلام تعدل عتق الرقاب.
2- (عن سعد، عن علی بن موسی الرضا (علیهما السلام)، قال: قال:. یا سعد عندکم لنا قبر، قلت له: جعلت فداک، قبر فاطمة بنت موسی (علیهما السلام)؟ قال: نعم، من زارها عارفا بحقها فله الجنة).

ص: 41

أسامة: (أنا أری ان هذا الأمر خاص بالزیارة لهؤلاء الأطهار (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، ولا یمکن سحبه علی جمیع عبادات الإنسان، وبمعنی آخر، هل تؤثر معرفتهم فی مضاعفة أجر الصلاة والصیام وغیر ذلک من العبادات؟).

خالد: (بالطبع تؤثر معرفتهم فی کل فعل من أفعال الإنسان العبادیة وغیر العبادیة حتی النظر والسمع والمشی والکلام، فقد ورد فی الحدیث عن الإمام الصادق (صلوات الله و سلامه علیه): «من نظر إلی الکعبة بمعرفة فعرف من حقنا وحرمتنا مثل الذی عرف من حقها وحرمتها غفر الله له ذنوبه وکفاه هَمَّ الدنیا والآخرة »(1).

وعن الإمام الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) قال: «... اعرف واعمل ما شئت من الخیر، فإنه لا یقبل منک ذلک بغیر معرفة، فإذا عرفت فاعمل لنفسک ما شئت من الطاعة قلّ أو کثر فإنه مقبول منک»(2).

وجاء فی نهج البلاغة قوله (صلوات الله و سلامه علیه): «فإنه من مات منکم علی فراشه وهو علی معرفة حق ربه وحق رسوله وأهل بیته مات شهیداً ووقع أجره علی الله، واستوجب ثواب ما نوی من صالح عمله. وقامت النیة مقام إصلاته لسیفه»(3).

 فالعارف بحقهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یکون نومه عباده ونظره عبادة وموته علی فراشه شهادة، ومن جلستنا هذه یتبین بأن الخوض فی تفضیل السیدة الزهراء علی غیرها من النساء علم ینتفع من علمه ویضر من جهله وأنه لیس نوعاً من أنواع


1- الکافی للشیخ الکلینی ج4 ص241.
2- علل الشرائع للشیخ الصدوق ج1 ص250.
3- نهج البلاغة الخطبة رقم 190.

ص: 42

الترف الفکری).

نظر خالد إلی الأفق فرأی أن الشمس علی وشک المغیب، فرتب أوراقه والکتب التی أمامه، وبینما هو یجمع ما تناثر منها قال: (لا استطیع غدا المجیء إلی هنا، فسأذهب مع زوج أختی إلی المستشفی لعمل الفحوصات اللازمة، وستکون غداً أنت المعلم وأنت التلمیذ فی الوقت نفسه).

ابتسم أسامة ونظر له نظرة متعجب وقال: (وکیف سأکون أنا المعلم وأنا التلمیذ فی الوقت نفسه؟!).

خالد: (الأمر بسیط، ستأتی غدا إلی المکتبة، وتقرأ الکتب وتحاول أن تجد الحقیقة بنفسک).

أسامة: (وکیف سأجد الحقیقة وأنا لا أعرف محتوی الکتب ولا أین أجد ضالتی؟).

خالد: (الأمر بسیط، فحینما تأتی غداً اذهب إلی فهرست المکتبة، وستجدها مرتبة إلی قسمین، قسم للکتب الدینیة وقسم للکتب الأکادیمیة، اذهب إلی الدینیة وستری أنها مرتبة ضمن أقسام فقسم للتفسیر وقسم للحدیث وقسم لسیرة أهل البیت علیهم السلام، ثم ان قسم أهل البیت مقسم إلی أقسام، وستجد أن هنالک قسماً خاصاً بالسیدة فاطمة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، فاقرأ وسجل وحینما أحضر سنتناقش).

أسامة: (وکیف سأستطیع إیجاد المطلوب فی کتب أنا لم أقرأها بل لم أرها فی حیاتی؟).

ص: 43

خالد: (الأمر بسیط للغایة، خذ الکتاب واذهب إلی آخره، فهنالک یوجد شیء اسمه الفهرست، والذی یحتوی علی مواضیع الکتاب کله، قلب فی عناوین الفهرست واختر ما یتناسب مع نوع سؤالک، وإذا لم یفلح بحثک فی کتاب معین فجرب غیره من الکتب).

أسامة: (أف، انها مهمة صعبة، ألیس من الأفضل أن أنتظرک ریثما تعود؟).

خالد: (لا تکن کسولا، فالأمر لیس صعبا ولا هم یحزنون، وعندما ستجربه ستجده سهلا للغایة، کما انه سیعلمک أن تبحث بنفسک وأن لا تکون إنسانا اتکالیاً یأخذ العلم بالمجان من دون تعب).

أسامة: (حسنا سأحاول، ولکنی لا أعدک بالنجاح). ضحک خالد ونهض الاثنان وودع کل واحد منهما صاحبه وانطلقا کل إلی منزله.

ص: 44

سخریة وإصرار

وضع أسامة رأسه علی الوسادة بعد ان نام الجمیع، وأخذ یفکر فی أحداث النهار، واسترجع فقرات حواره مع خالد کی لا ینساها، وکم تندم لعدم أخذه دفتره وقلمه معه کی یقید الحوار الذی دار، فهو لم یتوقع أن یکون الحوار بهذا الشکل من الاستشهاد بالآیات والروایات، فهو قد توقع أن یکون حواره مع خالد شبیه بدرس الأستاذ الذی حضر عنده فی المسجد، لأن أستاذ المسجد لم یقدم فی درسه آیة ولا روایة، واکتفی بالتشکیک تارة وبالنفی تارة أخری، فقرر ان لا ینسی فی لقائه الآخر مع خالد أخذ دفتره وقلمه، ولماذا الدفتر والقلم؟، ألیس من الأفضل أخذ جهاز تسجیل؟، لأن الکتابة تضیع علیه فرصة استیعاب جمیع فقرات الحوار، وتجعله منصرف الفکر إلی الکتابة فقط دون الفهم الدقیق للکلام.

ولکن تبقی هنالک مشکلة أساسیة وهی ان مدرس المسجد ما زال إلی الآن یبث أفکاره فی المسجد، وما زال جمع غفیر من الشباب یذهبون إلیه، ویأخذون من فکره، ویتأثرون بکلامه، ولیس للجمیع معرفة بأن أقوال أستاذهم ما هی إلا أفکار شخصیة لیس لها رصید من الحقیقة ولا البرهان.

ص: 45

ففکر فی طریقة لتنبیه الحاضرین عنده بخطر حضورهم عنده، واستماعهم إلیه، وفکر أن یحضر عنده مرة أخری ثم یناقشه داخل درسه ویثبت للحاضرین عدم صدق أقواله وتحریفه للحقائق، ولکنه تردد بسبب أنه ما زال إلی الآن لا یمتلک رصیداً کافیاً من المعلومات التی تؤهله للقیام بهذه المهمة، بعکس أستاذ المسجد الذی له قدرة وقابلیة علی التلاعب بالألفاظ والقفز من موضوع إلی موضوع آخر، وعلیه فستکون نتیجة المواجهة فاشلة، وسینتج عنه ردة فعل عکسیة لدی الحاضرین ستزید من انبهارهم به أکثر، فتراجع عن فکرته هذه.

وجالت فی عقله فکرة ثانیة، وهی أن یأخذ بنصیحة صدیقه خالد، فیذهب إلی المکتبة غداً، ویبحث عن أجوبة لباقی الأسئلة، ویجمع الأدلة علی کذب وتدلیس أستاذ المسجد، فإذا استطاع أن یفعل ذلک، فانه سیتمکن حینئذ من الحضور فی المسجد، وفضح أستاذه أمام جمیع الحاضرین، وسیحاول أن یستعین بصدیقه خالد کی یحضر معه فی المواجهة، نعم فهو الأقدر علی الکلام والاستدلال وسنکون أنا وهو جبهة قویة نستطیع من خلالها وضع حد لهذا المشکک.

  استسلم أسامة إلی النعاس وغط فی نوم عمیق، وما هی إلا ساعات حتی قام إلی صلاة الصبح، فصلی ونام مرة أخری لیستیقظ فی الساعة التاسعة علی صوت أمه وهی تنادیه: (أسامة، أسامة، استیقظ، فأصحابک فی الباب ینتظرون).

خرج أسامة إلی أصحابه وقد تهیأ لعشرات الأسئلة والتهکمات التی ستواجهه ما إن یفتح الباب، وصل إلی الباب وجد أصحابه قد وقفوا فی ظل

ص: 46

الشجرة التی أمام المنزل، وما إن وقعت أعینهم علیه حتی أشاروا إلیه أن تعال إلینا لأننا لا نستطیع الکلام قرب الباب، ذهب إلیهم بخطوات متثاقلة، وصل إلیهم ومد یده لیصافحهم فقال له أحدهم: (أما تستحی من نفسک، تترکنا البارحة وتذهب إلی المکتبة؟!).

وقال له الآخر: (المکتبة، ها ها ها، ألم تجد مکانا آخر یا رجل؟!).

 وقال ثالث: (هل جننت تذهب لتقرأ الکتب ونحن الآن فی عطلة؟!، ألا تعلم بأن القراءة فی العطلة عیب؟!).

أخذ أصحاب أسامة بیده وجروه قائلین: (تعال لنذهب إلی المتنزه، وبعدها نذهب إلی المسبح).

 اتجه الجمیع إلی متنزه الحی، وصلوا فجلسوا تحت ظل شجرة کبیرة، فقال أحدهم: (أرید أن أحکی لکم نکتة مضحکة، کان هنالک أب یذهب دوما إلی المکتبة لیقرأ مثل بعض الناس الذین تعرفونهم، وحینما رجع یوما من الأیام من المکتبة سأله ابنه: بابا أین یقع برج إیفل؟ فقال له الأب: لا أدری، فقال له الابن: بابا وما هو السیرامیک؟ فقال الأب: لا أدری، فقال له الابن: بابا ما هو الإیمیل؟ فقال الأب: لا أدری، فقال له الابن وما هی العولمة؟ فقال لا أدری، فصاحت الأم من بعید: لا تزعج أباک أیها الولد فأبوک تعبان من القراءة، فصاح الأب: لا خلی الولد یستفید).

نظر الجمیع إلی أسامة وضحکوا ضحکا عالیا، فصاح آخر اسمعوا هذه النکتة المضحکة: (یوجد شخص یذهب إلی المکتبة مثل صاحبنا الذی تعرفونه،

ص: 47

وفی یوم من الأیام رجع إلی بیته وقال لزوجته الیوم قرأت قصة عجیبة غریبة، ومن کثر ما هی غریبة لن تصدقینی حینما سأقصها علیک، وستقولین بأنی کذاب، لکن أنا لست کذابا، أنتِ الکاذبة، وعائلتک أیضا کذابون، أیتها الجاهلة القبیحة أذهبی فأنتِ طالق طالق طالق).

نظر الجمیع إلی أسامة أیضا وضحکوا حتی وقع بعضهم علی ظهره من فرط الضحک، وقال ثالث اسمعوا: (یوجد شخص مثل صاحبنا الذی لا نرید أن نقول اسمه یذهب دوما إلی المکتبة ولا یقرأ إلا کتب الکیمیاء، ومن شدة حبه لکتب الکیمیاء والمواد الکیمیائیة حینما ولد له ولد سماه أسامة أکسید الکاربون).

أشار إلیه الحاضرون أثناء ضحکهم، وقال له احدهم: (لا تنسَ أن تسمی ابنک سامی کلورید الصودیوم، کی یسموک أبو سامی کلورید الصودیوم).

کان أسامة یضحک تارة، ویقطب حاجبیه وینزعج تارة ثانیة، ویرمیهم بعبارة (أیها الجهلة، یا أعداء الکتب والمکتبات) تارة ثالثة، ثم قام من مکانه وقال: (إما أن تنتهوا أو أرجع إلی بیتی وأشاهد التلفاز فقد مللت مزاحکم البارد).

نهض الآخرون وقالوا: (لا تذهب ولا تنزعج ودعنا نذهب إلی المسبح) ذهب الجمیع ومضت ساعات الصباح بالضحک والمرح واللهو، ومع ان أجواء اللقاء کانت ملیئة بالسخریة من أسامة لارتیاده المکتبة إلا أن هذا لم یزده إلا إصرارا علی مواصلة البحث بسبب ما أحس به من لذة العلم ولأنه علم بأن من وراء عالم اللعب والصبیانیة عالماً آخر من المعرفة مودعاً فی بنایة المکتبة یستحق من الإنسان التجربة.

ص: 48

عاد أسامة إلی البیت متلهفا لشیئین الأول: طعام والدته، فقد صرف الیوم طاقة جعلته یستطیع أن یأکل جملا مشویا، والثانی: لسریره کی یأخذ غفوة ویرتاح ریثما یصیر وقت العصر لینطلق إلی المکتبة من جدید.

وفی تمام الساعة الخامسة عصرا کان أسامة أمام باب المکتبة، لکنه لم یرَ الحارس أمامه کما تعود کل مرة، دخل إلی قاعة المکتبة، نظر إلی أمینة المکتبة وعلی وجهه آثار الحیرة، ابتسمت إلیه وقالت: (هل تحتاج إلی مساعدة؟).

مشی نحوها بخطوات خجولة وقال: (أین أجد الکتب التی تتحدث عن السیدة الزهراء؟).

فقالت له: (وعلیک السلام، تجدها حینما تتجه بشکل مستقیم فی هذا الممر ثم تنعطف یمینا، فستجد رفوفا مکتوبا علیها عبارة: أهل البیت __ السیدة فاطمة الزهراء__)، تذکر أسامة بأنه تکلم من دون أن یسلم فأحرج أکثر، فوجه لها عبارة شکر، واتجه إلی حیث دلته.

تأمل أسامة فی عناوین الکتب الموضوعة فی رفوف هذا القسم، فوجد مئات العناوین المختلفة، ووجد صعوبة فی انتقاء ما یبتغیه، ثم وفجأة تذکر کلام صدیقه خالد حینما نصحه بأن یطالع فهرست الکتب، فطالع فهارس عشرات الکتب وانتخب مجموعة منها ثم حملها لیخرج بها إلی حدیقة المکتبة حیث اعتاد علی الأجواء هناک.

خرج إلی الحدیقة فوجد أمامه حارس المکتبة واقفاً أمام شجرة کبیرة حاملاً بیده مقصاً حدیدیاً کبیراً یقطع به أغصان تلک الشجرة، وهو یتمتم بین نفسه

ص: 49

بکلام کأنه یخاطب شخصا أمامه، فلما وصل أسامة بالقرب منه سمعه وهو یقول: (هل تذکر یا حمید __ وهو اسم الحارس __ حینما زرعت هذه الشجرة قبل عشر سنوات، إیه إیه کأنها البارحة، وأنت الیوم تقص أطرافها، والله یعلم هل أنت موجود السنة القادمة أم سیأتی غیرک فیقص لها فروعها ویزینها؟).

سلم علیه أسامة فرد کعادته وهو غیر مکترث، فجلس أسامة غیر بعیدٍ عنه کی لا یزاحم نقاشه مع الشجرة، وضع الکتب أمامه وأخرج دفتره وقلمه وبدأ باختیار أول کتاب، ثم الثانی والثالث والرابع، کان یقرأ ویسجل کل ما یعتقد بأنه مهم، إلی أن تعب، نظر إلی ساعته فلاحظ ان الوقت قد مر بسرعة کبیرة، فها هی ساعتان قد انقضتا، نظر من حوله فوجد شخصین جالسین علی مقعد یقع فی رکن الحدیقة وهما یتکلمان بهمس، ورأی ان حارس المکتبة قد أکمل نقاشه مع الشجرة، وها هو نائم علی الکرسی، مسندا رأسه إلی الشجرة التی کان یکلمها، ونظر إلی السماء فوجد أن الشمس قد شارفت علی الغروب، فلملم أوراقه وأغلق کتبه وعاد بها ووضعها فی رفوف المکتبة واتجه راجعا إلی بیته.

کانت الحقائق التی اکتشفها فی أثناء مطالعته الأخیرة تأخذ بمجامع تفکیره، فتمالکه شعوران شعور بالفرح والفخر لأنه تعلم أشیاء کثیرة لم یکن یعلمها، ووجد أجوبة لأکثر أسئلته، وقد جمع من الأدلة ما یمکنه من الوقوف بوجه أستاذ الدورة الصیفیة المقامة فی المسجد، وشعور بالحزن والخجل لما تفوه به سابقا فی حق السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، ومن تردیده لکلمات أستاذه فی المسجد من دون تثبت أو وعی، ومن تشجیعه وتأییده لأستاذه فی نکران مصائب سیدة النساء

ص: 50

(صلوات الله و سلامه علیها)، فجعل یحدث نفسه ویلومها بقوله: (ویلای مما جنته یدای! ونطق به لسانی، لیت ان لسانی قد شل ولم أتفوه بما تفوهت به، فالعلماء وجمیع أفراد الشیعة یتقربون إلی الله بذکر مصیبتها وتخلید مأساتها وأنا أنکرت مصیبتها من دون تمحیص ولا بحث، فمن یشفع لک یا أسامة یوم یفر المرء من أمه وأبیه وصاحبته وبنیه، ویل لمن شفعاؤه خصماؤه).

أحس أسامة بأن نفسه قد ضاق وان الدنیا قد اسودّت فی عینیه، وأصبحت قدماه لا تحملانه، وأحس برغبة شدیدة بالجلوس، اتجه مبتعدا عن الطریق، جلس مسندا ظهره إلی جدار بیت ما زال لم یکتمل بناؤه، وهو یردد قول: (ویل لمن شفعاؤه خصماؤه) بدأت دموعه تخرج وتسیل علی خده، أحرقت الدموع عینیه وخدیه، نشج وعض علی شفتیه نادماً أسِفاً، فأحس بصوت فی ضمیره ینادیه: (لا توبة لک یا أسامة إن لم تفعل کما فعل الحر بن یزید الریاحی فی یوم عاشوراء، فمثلما شککت بمصائب السیدة الزهراء فعلیک ان تدافع عنها، ومثلما نشرت تشکیک أستاذک فعلیک أن تردعه وتقف بوجهه وتنبه الحاضرین علی تدلیسه، عسی أن یغفر لک الله سبحانه، وترضی عنک السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)).

نهض أسامة من علی الأرض اتجه إلی بیته وکان الظلام قد حل، دخل البیت سلم علی أهله، نادته أمه للعشاء، فاعتذر بعدم الجوع، وبأنه سیرتاح فی غرفته ثم ینام کی لا تقلق، صعد أسامة مسرعا إلی غرفته قبل أن تقع عینا أمه فی عینیه اللتین أصبحتا مثل قطعة الدم من کثرة البکاء، رمی أسامة بنفسه علی الفراش، لم یتمالک نفسه عن النوم من التعب ومن امر سیکشفه لنا الصباح.

ص: 51

الثورة والثأر

استیقظ أسامة فزعا علی صوت المؤذن وهو یصیح: (حی علی الصلاة، حی علی الفلاح، حی علی خیر العمل) قام والعرق یتصبب منه، وجمیع أعضائه ترتجف، قام وصلی ثم سجد وأطال البکاء فیها وهو ینادی: أحمدک یا الهی علی هذه الرؤیا الحسنة، أحمدک یا الهی إذ جعلتنی أهلا للمشارکة فی المعرکة!!).

بقی أسامة مستیقظا لم تغمض أجفانه بعد صلاة الصبح، کان یدور فی غرفته متفکراً، یجلس مرة ویقوم أخری، ینظر من الشرفة إلی السماء ینتظر شروق شمس ذلک الیوم، فما أن صارت الساعة السابعة حتی انطلق إلی بیت خالد، دق الباب وهو یعلم ان الوقت مبکر، دق الباب مرة ثانیة، ناداه صوت متعب من بعید: (من الطارق؟)..

أجابه أسامة: (عفوا هل خالد موجود؟).

فأجابه الصوت: (لحظة من فضلک).

انتظر أسامة، وبعد برهة فتحت الباب وخرج منها خالد وعلی وجهه آثار التعب والنعاس، نظر إلی وجه أسامة مستغربا وقال: (ما الخبر؟ هل حصل شیء لا سمح الله؟).

ص: 52

أمسک أسامة بید خالد وشده قائلا: (تعال لنجلس هناک وأحکی لک فقد رأیت حلما).

رمقه خالد بنظرة استهجان واستغراب وقال له: (حلم أی حلم، ألا یستطیع حلمک أن یصبر إلی الساعة العاشرة فقد کنت نائما، لأنی رجعت من المستشفی فی وقت متأخر من اللیل، ولم أنم غیر سویعات).

کان خالد یتکلم وأسامة یسحبه کأنه لا یسمع کلامه، وصلا إلی دکة دکان لم یفتح أبوابه بعد، جلس أسامة وبقی خالد واقفاً، شد أسامة ید خالد حتی أجلسه، قال أسامة: (أنا أعلم بان الأمر غریب بالنسبة لک، لکنی رأیتک فی الحلم فعلمت ان الأمر یخصک أیضا).

ازداد استغراب خالد وقال: (إذن قص علی حلمک الذی أثر فیک کل هذا الأثر).

فقال أسامة: (رأیت قبل الفجر أنی وسط أرض کبیرة، فیها خیام کثیرة، خیام قدیمة کأنها من زمن آخر، ومن حولها خیول وجمال مربوطة، وفی هذه الأرض الکبیرة حشود من الناس علی أشکال مختلفة وجنسیات شتی، فمنهم الأسود ومنهم الأبیض، ومنهم العربی ومنهم الصینی ومنهم الأوربی، وهم یلبسون لباس الحرب ویعدون العدة للمسیر إلی مکان ما، وکان قسم منهم یحمل السیوف لیضعها فی صنادیق خاصة، وقسم آخر یحمل الرماح لیضعها فی صنادیق ثانیة أکبر، وهنالک رجل جالس فی خیمة أمامه طابور من الرجال وأمامه سجل یقلب أوراقه کلما تقدم إلیه رجل من الواقفین.

ص: 53

فلما انتهی من تسجیلهم تقدمت إلیه وسلمت علیه وقلت له: هل لک أن تخبرنی ما هذا السجل الذی أمامک؟ ومن هؤلاء القوم المجتمعون؟ والی أین یریدون أن یسیروا؟ ومَن سیقاتلون؟.

 فرفع رأسه وقال: هذا الجیش سیذهب لقتال القاسطین، معاویة وجیشه، وسیتحرک عن قریب بقیادة الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام.

فقلت له: أولیست الحرب بین الإمام علی علیه السلام وبین معاویة قد انتهت؟.

فأجابنی وهو یهز برأسه: کلا لم تنتهِ.

فقلت له: وما هذا السجل الذی بین یدیک؟

فقال: هذا السجل فیه أسماء الأفراد الذین سیخرجون فی هذا الجیش، فمن وجد اسمه هنا خرج معنا، ومن لم یوجد اسمه أرجعناه.

ثم فتح السجل وأخرج آخر ورقة فیه وقال: بقی شخصان فقط لم یأتیا، فقلت له: هل لی أن أری هذین الاسمین؟ قال: نعم، فنظرت فی السجل فإذا هو مکتوب أسامة وخالد، فصعقت وصحت أنا أسامة أنا أسامة، وخالد هو صدیقی.

فقال لی ذلک الرجل: وهل ترید ان تذهب لحرب القاسطین؟

فأجبته ومن دون تردد: نعم أرید.

فقال: اذهب إذن إلی ذلک التل لیتم اختبارک.

خرجت من الخیمة، واتجهت صوب التل، صعدت إلی أعلاه وإذا برجل لا

ص: 54

أذکر ملامحه الآن جالس وأمامه مجموعة من الأسلحة، وحینما رآنی قال لی: ما هو اسمک؟

فقلت: أسامة.

فقال: وهل تجید القتال؟

فخفت أنی إن قلت له لا أجید القتال فإنه یرجعنی حینئذ، فقلت له: أعتقد ذلک.

فرفع هذا الرجل رمحا من علی الأرض، وقال لی: ارمه لأری مدی قوة رمیتک، وحاول التصویب علی تلک الصخرة، وکسرها فی ضربة واحدة، فوضع الرمح بیدی فمالت یدی نحو الأسفل من ثقل الرمح، وعرفت بأنه مصنوع من الحدید، وان وزنه یزید علی العشرة کیلو غرامات، فتکلفت فی حمله ورفعه، ثم قمت بتصویبه نحو الصخرة التی کانت تبعد عشرة أمتار تقریبا، واستطعت أن أوصله إلی الصخرة لکنه لم یؤثر فیها سوی شدخ صغیر علی سطحها.

نظر إلی ذلک الرجل وقال: سأقبل برمیتک وعلیک أن تعدنی بأنک ستتدرب فی المستقبل کی تصبح مقاتلا قویا.

فرحت بذلک وقلت له: نعم أعدک بذلک، فقال لی: الآن اذهب واستعد للمعرکة، وبمجرد أن قال لی ذلک، فزعت من نومی، واستیقظت من حلمی).

نظر أسامة إلی وجه خالد فرأی عینیه مفتوحتین وآثار النعاس قد طارت منهما، فقال: (فعلا حلم عجیب، ما تظن تفسیره؟).

ص: 55

أسامة: (أنا اعلم تفسیره لان لهذا الحلم مقدمات سبقته).

خالد: (وما تفسیره وما هی المقدمات التی تتحدث عنها)، فأخبره أسامة عن الأشیاء التی اکتشفها نتیجة مطالعته البارحة، وعن ندمه وبکائه وعزمه علی مواجهة ذلک الأستاذ المشکک عسی أن تکون مواجهته کفارة لذنبه، کما وأخبره عن نیته باصطحابه معه فی هذه المعرکة، وان الحلم الذی رآه یشیر إلی هذه الأشیاء التی وقعت أمس.

  أبدی خالد استعداده للوقوف مع صدیقه أسامة فی مواجهته لذلک الأستاذ المشکک واتفقا أن یرجعا إلی البیت ویکون موعدهما أمام باب المسجد الساعة التاسعة صباحا، وان یحضر کل منهما ما یمکنه من الأدلة والوثائق لیکون ردهما علمیاً ومنطقیاً یقنع الجمیع ویفوت الفرصة علی کل محاولة للتهرب والتلاعب بمشاعر وعقول الحاضرین.

دخل أسامة وخالد درس المسجد، وبدأ الحوار، واحتدم النقاش، وکانت الغلبة للحق والدلیل، وأبلی أسامة وخالد بلاءً حسناً، واستطاعا ان یثبتا للشبان المنبهرین بهذا الأستاذ ان أقواله وتشکیکاته لا تنسجم مع إجماع علماء الشیعة ولا تصمد أمام الحوار(1)، وقد جاءت ثورتهما ضد هذا المشکک بثمارها فها هو الیوم


1- لم أحب الإطالة فی الرد علی أقوال وتشکیک أستاذ المسجد، لأنها مبحوثة ومردود علیها فی عدة کتب ألفت لهذا الغرض، وبإمکان القارئ العزیز أن یرجع إلی کتابی (مأساة الزهراء) و (خلفیات کتاب مأساة الزهراء) للسید جعفر مرتضی العاملی، وکذلک کتاب (حوار مع فضل الله حول الزهراء) للسید هاشم الهاشمی، وکتاب (الحوزة العلمیة تدین الانحراف) لمؤلفه محمد علی الهاشمی المشهدی، ففیها أجوبة تفصیلیة عن هذه الشبهات الواهیة.

ص: 56

درسه وقد انفض عنه أکثر من کان یحضره، ولم یبق معه إلا شرذمة من البسطاء الذین یمیلون مع کل ریح، وحتی هؤلاء البسطاء لم یحظوا بفرصة کبیرة، فقد حضروا ذات یوم درس أستاذهم کالمعتاد، لکنهم اکتشفوا بأن أستاذهم قد رحل عن حیهم إلی مکان غیر معلوم، ولم یخبر أحداً لا عن مکانه ولا عن أسباب رحیله، لکن البعض یقول ان أسامة وخالد هما سبب رحیله، والبعض الآخر یقول انه رحل کی یجد له مکانا آخر ینشر فیه سمومه.

ص: 57

ضیف فی بیت خالد

بقی خالد بعد حادثة المسجد أیاما لا یخرج من بیته، لان حال زوج أخته الصحیة کانت فی تدهور مستمر، فکان یخطو کل یوم نحو الموت خطوة، مما استدعی وجود خالد إلی قربه باستمرار للقیام برعایته ومداراته، ولاستقبال الضیوف الذین لم ینقطعوا عن زیارتهم لیلا ولا نهارا، ولکن ضیف لیلة الجمعة کان ممیزا.

کانت الساعة التاسعة لیلا، دقت باب بیت خالد، فتحت الباب، دخلت إلی البیت عائلة أم فاطمة، وأم فاطمة هی الأخت الثانیة لخالد، والتی کانت تسکن فی محافظة أخری بحکم عمل زوجها أبی فاطمة، والذی کان یعمل مهندسا فی حقول النفط.

استقر الجمیع فی غرفة استقبال الضیوف، نظرت أم فاطمة إلی زوج أختها المریض وهو ممدد لا یعی شیئا ولا یتحرک، نشجت وبکت وبکی معها أغلب الحاضرین، ثم أخذوها خارج الغرفة لتهدئتها، وخرج معها زوجها، نظر خالد إلی ابنة أخته فاطمة وقال: (هیا لنذهب نحن أیضا إلی الحدیقة ونترک المریض لیرتاح).

ص: 58

خرج الاثنان إلی الحدیقة وجلسوا علی الأرجوحة الموجودة وسط الحدیقة، وبدأ خالد یدفع برجله الأرض وبدأت الأرجوحة تتحرک، ونظر إلی ابنة أخته وقال: (ما شاء الله أصبحتِ أکبر بکثیر من تلک المرة التی رأیتکِ فیها!!).

فاطمة: (بالطبع أکبر، لأنک لم ترنی منذ ثلاث سنوات تقریبا).

خالد: (لم یکن الذنب ذنبی فقد أتیتکم مرتین فلم أجدکِ فی البیت).

فاطمة: (أتیتنا یا خالی مرتین ولکن کل مرة کنت تجلس عندنا ساعتین أو ثلاثاً ثم ترجع، وقد صادفت هاتین المرتین مع وقت ذهابی إلی الدرس).

خالد: (وأین وصلتِ فی المدرسة؟).

فاطمة: (لا تقل مدرسة یا خالی، بل قل کلیة، فانا الآن ادرس فی کلیة الفقه، قسم علوم القرآن والحدیث الشریف).

خالد: (عظیم، نعم الاختیار ونعم القسم، أسأل الله أن یوفقکِ).

فاطمة: (لیس هذا فحسب، فانا الآن فی سنتی الأخیرة).

قالت فاطمة هذه الجملة فسکتت قلیلا ثم أکملت: (ولکن توجد عندی مشکلة).

خالد: (وما المشکلة؟ فقد بدأ الخوف یدب إلی قلبی، هل عندکِ مشکلة مع الأساتذة أو الطلبة؟ هل من أحد یضایقکِ؟ أخبرینی هیا).

فاطمة: (اطمئن یا خالی، فلیس الموضوع کما تتصور، فأنا بحمد الله لا مشکلة لی مع أی إنسان، لا داخل الکلیة ولا خارجها، وإنما مشکلتی فی بحث

ص: 59

التخرج الذی سأقدمه).

خالد: (وعن أی شیء یتکلم بحثکِ؟).

فاطمة: (إنه یتکلم عن أفضلیة السیدة فاطمة الزهراء علی الصحابة والملائکة والأنبیاء).

نظر إلیها خالد وقال: (فکرة ممتازة، وبحث جمیل، فانی لم أرَ بحثا مستقلا فی هذا الموضوع، فأین الصعوبة فی الأمر؟).

فاطمة: (صعوبته تکمن فی أمرین: الأمر الأول ما تفضلت به من ان مصادره قلیلة، والکتب المؤلفة فی هذا الأمر تکاد تکون معدومة، أو هی معدومة بالفعل، وهذا یصعب عملیة البحث، لان البحث الناجح عندنا هو البحث الذی تتوفر فیه مصادر کثیرة.

والأمر الثانی: إنی لا أرید مجرد ذکر روایات أو آیات، بل أرید أن أقف علی کل دلیل روائی أو قرآنی وأمحصه بحثا ومناقشة، ولکنی قلیلة الخبرة فی هذا المجال).

خالد: (أنا أختلف معکِ فی هذین الأمرین، لأنی أعتقد بأن البحث الناجح هو البحث الذی لا یکون مبحوثا سابقا ونادر الوجود، لان البحث إذا تکرر طرحه أصبح فاقداً للأهمیة وأصبحت المعلومات المثارة فیه مکررة ومملة.

وأما ما یخص تمحیص الروایات ومناقشتها فبإمکاننا التعاون معا لإنجاح هذه المهمة).

ص: 60

وما إن أکمل خالد جملته هذه حتی تفاجأ بیدی فاطمة تلتف حول عنقه وبالقبلات تنهال علیه من کل جهة، وفاطمة تنادیه: (خالی الحبیب، أرجعت لی الأمل، فدتک نفسی، یا لک من خال عظیم! هل صحیح انک ستساعدنی علی مناقشة الأدلة والروایات، صحیح، قل لی صحیح)؟!!.

ضحک خالد وقال لها: (نعم صحیح، ولکن کیف، فأنتِ فی بلدة وأنا فی أخری؟).

فاطمة: (سآتی إلی النجف وأبقی عندکم إلی أن أکمل بحثی).

خالد: (ولکنی هنا منذ مدّة ولا أعلم متی سأرجع، وأعتقد بأنی سأبقی إلی أن یتحسن زوج خالتک، وقد أتأخر علیکِ فیضر هذا التأخیر ببحثکِ).

فاطمة: (إذن سأبقی هنا معک، وسنعمل علی إنجاز البحث فی المکتبة، ألیس توجد هاهنا مکتبة؟).

خالد: (نعم توجد مکتبة، وهی عامرة بالکتب، ولکن من یقول بأن أباک سیرضی بأن تبقی هنا؟!).

فاطمة: (لا أعتقد بأنه سیمانع ذلک، ومع هذا سأذهب وأسأله، وسأعود إلیک حالاً، انتظرنی).

رفع خالد برأسه إلی السماء متأملا نجومها مستغیثا بخالقها أن یخلص زوج أخته من مرضه دمعت عیناه وسالت علی خده، وقال: (یا رب العالمین أنت القادر علی أن تحیی العظام وهی رمیم ارحم هذا المسجی علی فراشه، وارحم قلوب أطفاله، وقلب زوجته التی بدأت تتهاوی کلما رأت زوجها یتهاوی، فلیس لهم من

ص: 61

الدنیا إلا هو، فارحم عبراتهم، ونحیبهم، وتعلقهم به، یا من هو أشفق علی الإنسان من أمه وأبیه، بل ومن نفسه).

ما هی إلا دقائق حتی عادت فاطمة تجری والفرحة بادیة علی محیاها، وهی تنادی: (خالی، خالی، لقد وافق أبی علی بقائی).

ابتسم خالد وقال لها: (الحمد لله، ولکن یجب ان تعدینی بأنکِ ستبذلین أقصی جهدکِ فی البحث کی تعودی إلی بیتکم سریعا).

فأجابته فاطمة: (أعدک یا أحلی خال فی الدنیا).

ص: 62

محاولة أسامة الانضمام إلی النقاش

دقت باب بیت خالد فی الساعة العاشرة صباحاً، خرج خالد إلی الباب، وجد صدیقه أسامة یقف أمامه مبتسماً، دعا خالد أسامة للدخول إلی البیت، لکن أسامة اعتذر کی لا یسبب للعائلة ومریضهم أی حرج أو إزعاج.

أسامة: (إذا لم یکن عندک عمل مهم تعال لنتمشی أو لنجلس فی حدیقة المتنزه).

خالد: (أرجو ان تمهلنی لحظة ریثما أخبر الأهل ولأتهندم وآتی إلیک).

خرج الاثنان یمشیان ویتحادثان، وفی أثناء الحدیث قال خالد: (لم تخبرنی أین تقضی وقتک الآن؟).

أسامة وهو یضحک: (صرت مدمنا).

التفت إلیه خالد التفاتة مدهوش وقال: (مدمن؟ أستغفر الله، ما هذا الکلام)؟!

اشتد ضحک أسامة وقال: (ولماذا تستغفر الله؟ وأنا ما تعلمت الإدمان إلا علی یدیک).

ص: 63

خالد: (ما لک یا رجل؟ هل أنت علی ما یرام؟! ما هذا الکلام؟ وأی إدمان علمتک إیاه، وأنا لم أرک الا منذ أیام).

استمر أسامة بالضحک وقال: (أنا مدمن علی القراءة، ولیس علی الأشیاء التی فی بالک).

هدأ خالد وقال وهو یضحک: (أرعبتنی یا رجل قل هذا منذ البدایة).

وصل خالد وأسامة إلی ظل شجرة کبیرة فجلسا تحتها، وقال خالد: (أخبرنی یا أسامة علی أی صنف مدمن أنت الآن؟).

ضحک أسامة وقال: (أنا الآن أنفذ وعدی الذی وعدته لذلک الرجل الذی رأیته فی الحلم).

فقال خالد: (لا أتذکر، أی رجل؟).

فقال أسامة: (أتذکر أنی رأیت حلما قبل ان نواجه ذلک الأستاذ فی المسجد؟).

قال خالد: (نعم أذکر).

فقال أسامة: (أتذکر أنی قد صعدت إلی التل لیختبرنی رجل کان موجودا هناک، وطلب منی توجیه الرمح إلی صخرة، وحینها ضربت الصخرة ولکنی لم أحدث فیها إلا شدخا سطحیا، فقال لی ذلک الرجل سأقبل منک هذه الضربة ولکن یجب أن تعدنی بأن تتدرب أکثر وتتقوی لتصبح مقاتلا قویا، أتذکر هذا؟).

قال خالد: (نعم أذکر).

ص: 64

فقال أسامة: (فها أنا الآن أتقوی لأصبح مقاتلاً قویاً).

فقال خالد: (أحسنت، نعم العمل، ونعم النیة).

استلقی أسامة علی العشب وقال: (ها قد علمتَ أخباری فما هی أخبارک؟).

 خالد: (لم أخرج من البیت إلا الیوم، ولعلی سأذهب إلی المکتبة الیوم أو غداً عصراً.

 أسامة: (إذن سأنتظرک هناک).

خالد: (لا تنتظر، فانا سأکون برفقة فاطمة).

انتفض أسامة من نومته وقال: (فاطمة! ومن هی فاطمة؟ ها، الآن عرفت سبب عدم مجیئک إلی المکتبة وبقائک فی البیت، فالظاهر أنک استفدت من بقائک وحیداً استفادة جیدة).

ابتسم خالد وقال: (لیس الأمر کما تظن ففاطمة هی بنت أختی).

رجع أسامة مرة أخری واستلقی علی العشب وهو یقول: (وما الذی یجعلک تأتی بطفلة إلی المکتبة، ألا تخاف أن تضیع منک، أو أن تبکی علی أمها فتلهیک عن القراءة، أو لعلها تکسر شیئا أو تمزق کتابا فتغضب منک أمینة المکتبة، أو لعلها تقطف وردة فینتقم منک حارس المکتبة أشد الانتقام).

ضحک أسامة وهو یجیل بنظره نحو غصون الشجرة التی تظلهم وتابع وهو یقول: (یعجبنی کثیراً أن أری الحارس وهو یصرخ بوجهک بینما دخان سیجارته یخرج مع صرخاته، لأنه یعدّ الأشجار والأوراد مثل بناته أو مثل أخواته، ویا له من

ص: 65

منظر رائع حینما تقطع فاطمة وردة من الحدیقة فیسمعک ما لذ وطاب من الکلام!).

خالد: (لا تسبح فی خیالک کثیراً ففاطمة لیست طفلة، بل هی فتاة کبیرة، وهی تدرس فی الکلیة، وفی سنتها الأخیرة).

رفع أسامة کفه وضرب به علی جبهته وقال: (یا لی من أحمق! تصورت بأنها طفلة، ولکن ماذا ستفعل معها فی المکتبة؟ ولماذا لا تذهب هی وحدها وتأتی أنت معی؟).

خالد: (حضوری معها ضروری، لأنها تعد بحثا لنیل شهادة البکالوریوس، وتحتاج إلی مساعدتی، فهی تکتب بحثا حول أفضلیة السیدة فاطمة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی الصحابة والملائکة والأنبیاء، وتحتاج إلی مساعدة فی تمحیص أسانید الروایات ومناقشة مضامینها).

انتصب أسامة جالسا وهو یقول: (بحث جدید لم أسمع به من قبل، وهل صحیح ان السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أفضل من الملائکة ومن الأنبیاء؟ فانا مؤمن بأفضلیتها علی الصحابة نساء ورجالا، وحتی علی مریم العذراء، ولکن علی الملائکة أو الأنبیاء فهذا ما لم أفکر فیه ولم أقرأه).

 خالد: (أفضلیتها (صلوات الله و سلامه علیها) علی الملائکة والأنبیاء ثابتة بأدلة کثیرة، وبعض تلک الأدلة ذکرها العلماء الأعلام ولکنها متناثرة فی کتبهم وتحتاج إلی جمع، وبعض هذه الأدلة جدیدة لم تطرح من قبل وأنوی أن أضعها فی بحث ابنة أختی فاطمة).

ص: 66

سکت أسامة برهة من الزمن ثم نظر إلی عینی خالد وقال: (أرید أن اطلب منک طلبا وارجو أن لا تردنی فیه).

ابتسم خالد وقال: (تفضل أطلب ما شئت، وأنا سأکون طوع أمرک بشرط أن أقدر علی تلبیة طلبک).

أسامة: (أرید أن أطلب الحضور معکما فی جلسات حوارکما وتحضیرکما لهذا الموضوع).

سکت خالد ثم قال: (الأمر لیس بیدی ولست أنا صاحب الرسالة، وعلی أن أسأل فاطمة عن إمکان حضورک، فربما کان حضورک یسبب لها إحراجا).

أسامة: (حسنا أخبرها، ولکن کن فی صفّی، ودافع عنی، وبین لها حسن نیتی وشوقی للمشارکة فی مثل هذا المشروع، والذی أعتقد بأن رضا السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) سیکون فیه، ورضا فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) یعنی رضا الله سبحانه).

خالد وهو یضحک: (حسنا سأحاول، وسأخبرها بأن أحد المدمنین یرید الحضور معنا فی جلسات الحوار وإعداد الرسالة).

غضب أسامة وقال: (بالله علیک کیف تریدها أن تقبل، وأحد المدمنین سیحضر معها؟!

ضحک خالد ونهض من مکانه وهو یقول: (قم لنذهب إلی البیت فقد تأخرت کثیراً، وسأتصل بک إذا استجد شیء معین).

ص: 67

أول جلسات الحوار

اتصل خالد فی مساء ذلک الیوم لیخبر أسامة بموافقة ابنة أخته فاطمة علی حضوره جلسات الحوار والمناقشة، فابتهج أسامة أشد الابتهاج، وعدّ هذا الأمر عنایة خاصة من السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، وأعد دفتراً جدیداً وعدة أقلام بألوان مختلفة، کیما یسجل کل صغیرة وکبیرة، ثم فکر بأن یأخذ معه جهاز التسجیل، لکنه تردد خوف أن لا تقبل فاطمة بتسجیل صوتها أو حوارها، فقرر أخیراً أن یأخذ دفتره وقلمه وکذلک جهاز تسجیله، فان وافق خالد وفاطمة علی استعمال جهاز التسجیل فبها، وإلا فسیستعمل دفتره وأقلامه.

مر النهار ببطء علی أسامة، حتی خیل إلیه بأن الساعة لا تتحرک، إلی أن جاءت الساعة الرابعة عصراً، لبس أسامة ملابس الخروج وحمل معه حقیبته التی کان فیها دفتره وأقلامه وجهاز التسجیل، خرج من غرفته ووضع رجله علی أول درجة لینزل فسمع صوت جرس الباب یرن، وبینما هو ینزل سمع صوت أمه وهی تقول: (نعم، نعم، أسامة موجود، انتظر لحظة)، قال أسامة فی نفسه: (ویلای، لعلهم أصحابی وبسببهم سأتأخر عن الموعد).

ص: 68

خرج أسامة إلی الباب فرأی صدیقه محمداً واقفاً ینتظر، سلم علیه وتبادلا القبلات، وبعد السؤال عن الحال والأحوال قال محمد: (أتیت الیوم إلیک لنذهب معا إلی المکتبة، فمنذ أن ترکت درس أستاذ المسجد وأنا أشعر بحاجة إلی القراءة، وبصراحة فقد سئمت من الخروج مع الأصدقاء، فلیس عندهم إلا المزاح المستمر، وتبدید الوقت علی أشیاء لا قیمة لها، وغالبا ما ینتهی مزاحنا بالعراک والخصومة، وقد بدأت أتیقن بأن طریقتک فی تمضیة الوقت وقضاء العطلة بین الکتب هی الطریقة الأنجع، فأتیت إلیک الیوم لنذهب معاً فهل أنت مستعد؟).

کان محمد یتکلم وأسامة یندب حظه ویقول: (وهل هذا وقت مناسب للتوبة یا محمد؟! ترکت کل الأیام وأحسست بالندم الیوم، ماذا سأصنع یا ربی؟ هل أعتذر إلیه وأدخل البیت ثم أذهب بعدما یذهب هو، أو آخذه إلی هناک وأجلسه فی مکان وأذهب أنا إلی خالد، یا لها من حیرة!).

انتبه أسامة إلی نفسه وقال: (ما لک أیها الأنانی، الرجل یستعین بک وقد قطع المسافة إلی بیتک طالبا العون، فلعل الله سبحانه یعینک إن أعنته، خذه معک وصارحه بالحقیقة وأخبره ان عندک موعداً مع خالد ثم أجلسه فی زاویة یقرأ شأنه شأن الآخرین واذهب أنت إلی موعدک مع خالد).

 جالت هذه الکلمات فی عقل أسامة بأقل من لحظة، ثم قال لمحمد: (هیا لنذهب وتوکل علی الله سبحانه).     

وصل أسامة ومحمد إلی بنایة المکتبة، فسمع صوتا عالیاً یرتفع من وراء جدار المکتبة، فما ان دخلا إلی الباب الخارجی حتی شاهدا الحارس وهو ممسک

ص: 69

بعصا صغیرة بیده الیمنی، وبیده الیسری وردة، وبفمه السیجارة کعادته، وهو یصیح بوجه شاب فی مقتبل عمره قائلا له: (ألا تستحی تقطع هذه الوردة؟! فهذه الحدیقة لیست حدیقة أبیک حتی تقطع منها ما شئت، اذهب إلی حدیقة بیتکم واقطف منها ما ترید، هل تعلم کم تعبت وسقیت ووقفت فی الشمس إلی أن خرجت هذه الزهرة، وتأتی أنت وتقطعها، اذهب، هیا اذهب قبل أن أقطع أذنک وأزرعها فی الحدیقة).

فر الشاب مولیاً مذعوراً، فقال أسامة لمحمد: (إذا أردت أن تسلم علی أذنیک أو رأسک فإیاک أن تقطف وردة أو تهین شجرة فی هذه المکتبة، لأن هذا الحارس لدیه شیئان مقدسان فی هذه الحیاة سیجارته التی یحاول بکل ما أوتی من قوة أن لا تطفأ، فما إن یکمل واحدة حتی یسرع بإشعال الأخری، والشیء الآخر أشجار وأوراد الحدیقة، فلو انک تقطع قمیصه أهون علیه من أن تقطع وردة أو تنظر إلی شجراته نظرة غیر مؤدبة).

ضحک الاثنان ودخلا إلی بنایة المکتبة، واتجه أسامة وصدیقه إلی الحدیقة، نظر أسامة فلم یجد صدیقه خالداً قد حضر بعد، فجلس هو ومحمد وأخبره بأنه فی موعد مع صدیقه خالد، وأخبره عن مشروع فاطمة، واعتذر إلیه من عدم تمکنه من مواصلة الجلوس معه ومشارکته القراءة، وان علیه أن یبحث بنفسه عن کتاب یفیده، ثم یجلس لیقرأه.

أحس أسامة بأن محمداً قد تضایق من کلامه، وبدت علامات عدم الارتیاح واضحة علی ملامح وجهه، فقال له أسامة: (لا تغضب لأنی قد اتفقت معهم فی

ص: 70

وقت سابق، وأنت لم تخبرنی بنیتک فی المجیء إلی المکتبة معی، ولم أخبرک بهذا عند باب البیت أو فی الطریق خوفاً من أن تظن بأنی لا أرغب بمجیئک معی إلی المکتبة).

محمد: (إذن دعنی احضر معکم جلساتکم).

فرد علیه أسامة وبسرعة: (الأمر لیس بیدی، فلست أنا إلا ضیفاً، وضیفاً ثقیلاً أیضا، فبالتوسل استطعت أن ألصق نفسی بهم، فکیف لی أن أقول لهم بشأنک؟! لا أعذرنی).

فقال محمد: (صدقنی سوف لن أتکلم بأی کلمة، وسأسمع فقط، ولیعدّونی غیر موجود بینهم، بل فلیعدّونی مثل الطاولة أو الکرسی أو هذه الشجرة التی خلفنا، لا أصدر أی صوت، ولا أشتت کلامکم بأی حرف، أرجوک، أرجوک).

وبینما کان محمد یسترسل بکلمات رجائه دخل خالد إلی الحدیقة ومعه فتاة ترتدی عباءة، وهی بکامل حجابها، تمشی خلف خالد لا ترفع نظرها من علی الأرض، وتحمل بیدها الیمنی حقیبة جلدیة سوداء، أشار خالد بیده إلی طاولة فی طرف الحدیقة، فذهبت فاطمة هنالک وجاء خالد نحوهما، وقف فوقفا، ومدوا أیدیهم فتصافحوا، فقال خالد لأسامة: (هیا تفضل لنبدأ).

 بدأت علامات الحیرة علی وجه أسامة، وبدأ یتلعثم فی کلامه، فقال له خالد: (ما لک؟ هل أنت بخیر؟ هل کل شیء علی ما یرام؟).

 بقی أسامة ساکتا لبرهة ثم قال لخالد: (تعال أریدک فی أمر).

مشیا خطوات ووقفا فقال أسامة: (أنا محرج منک کثیراً ولکنی وقعت فی

ص: 71

موقف محرج) وقص أسامة له قصة صدیقه محمد وطلبه الحضور معهم علی شرط أن یستمع فقط ولا یتکلم.

 خالد: (دعنی أتکلم مع فاطمة وإذا أشرت لک من بعید فتعال أنت وصدیقک محمد).

ذهب خالد وتکلم مع فاطمة، فأشار إلی أسامة أن تعالا، ذهبا إلی الطاولة سلما وجلسا، فبدأ خالد بالکلام قائلا: (بحسب اطلاعی القاصر فانه توجد روایات کثیرة جدا لإثبات أفضلیة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی الصحابة والملائکة والأنبیاء، وهذه الروایات منها الصحیح ومنها الضعیف، وسنقتصر فی بحثنا علی الروایات الصحیحة فقط، لأن جمع الغث والسمین لا یقطع القال والقیل، ولا یلقم الخصم الحجر، وتصیر الروایات الضعیفة سببا للطعن فی باقی الروایات الثابتة الصحیحة، وبما أنکم جمیعا تریدون المشارکة فسیکون العمل جماعیا، وسنبدأ البحث علی وفق المراحل الزمنیة لحیاة الصدیقة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، قبل خلقها، ثم بعد ولادتها وتسمیتها، ثم زواجها وأسرتها، وهکذا إلی القیامة والمحشر والجنة، هذه هی خطة البحث، فاستعدوا وأخرجوا أوراقکم وأقلامکم لنبحث حول أول روایة).

ص: 72

خلق نور فاطمة قبل خلق السماوات والأرض

اشارة

أخرج الجمیع أوراقهم وأقلامهم وتهیأوا، فقال خالد: (قال الشیخ الصدوق (قدس الله روحه) فی کتابه معانی الأخبار: «حدثنا محمد بن موسی بن المتوکل __ رضی الله عنه __ قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحمیری، عن یعقوب بن یزید، قال: حدثنا الحسن بن علی بن فضال، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن سدیر الصیرفی، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبیه، عن جده علیهم السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: خلق نور فاطمة علیها السلام قبل أن تخلق الأرض والسماء. فقال بعض الناس: یا نبی الله فلیست هی إنسیة؟ فقال صلی الله علیه وآله: فاطمة حوراء إنسیة قال: یا نبی الله وکیف هی حوراء إنسیة؟ قال: خلقها الله عز وجل من نوره قبل أن یخلق آدم إذ کانت الأرواح فلما خلق الله عز وجل آدم عرضت علی آدم. قیل: یا نبی الله وأین کانت فاطمة؟ قال: کانت فی حقة تحت ساق العرش، قالوا: یا نبی الله فما کان طعامها؟ قال: التسبیح، والتهلیل، والتحمید. فلما خلق الله عز وجل آدم وأخرجنی من صلبه أحب الله عز وجل أن یخرجها من صلبی جعلها

ص: 73

تفاحة فی الجنة وأتانی بها جبرئیل علیه السلام فقال لی: السلام علیک ورحمة الله وبرکاته یا محمد، قلت: وعلیک السلام ورحمة الله حبیبی جبرئیل. فقال: یا محمد إن ربک یقرئک السلام. قلت: منه السلام وإلیه یعود السلام. قال: یا محمد إن هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إلیک من الجنة فأخذتها وضممتها إلی صدری. قال: یا محمد یقول الله جل جلاله: کلها. ففلقتها فرأیت نورا ساطعا ففزعت منه فقال: یا محمد مالک لا تأکل؟ کلها ولا تخف، فإن ذلک النور المنصورة فی السماء وهی فی الأرض فاطمة، قلت: حبیبی جبرئیل، ولم سمیت فی السماء المنصورة وفی الأرض فاطمة؟ قال: سمیت فی الأرض فاطمة لأنها فطمت شیعتها من النار وفطم أعداؤها عن حبها، وهی فی السماء " المنصورة " وذلک قول الله عز وجل: «وَیَوْمَئِذٍ یَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ یَنْصُرُ مَنْ یَشَاءُ» یعنی نصر فاطمة لمحبیها)(1).

کتب الجمیع الروایة، فقال لهم خالد: (الیوم سندرس إسناد هذه الروایة، وستأخذون الروایة معکم اللیلة فتقرأونها جیداً وتتأملون فیها وتستخرجون أکبر قدر ممکن من الملاحظات لنقوم بنقاشها غدا إن شاء الله).

التفت أسامة إلی خالد وقال: (هل یمکن أن توضح معنی «الإسناد» أو «السند» فکثیراً ما أسمع به ولا أعرف معناه؟

 خالد: (سأترک الجواب لفاطمة لأنها تدرس علم الحدیث والروایة ولأن الموضوع موضوعها).

فاطمة: (الإسناد والسند هم سلسلة الرواة الذین نقلوا الحدیث عن مصدره


1- معانی الأخبار للشیخ الصدوق ص396.

ص: 74

الأول أی عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أو عن أحد الأئمة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وسند الروایة التی نحن بصدد نقاشها هو «محمد بن موسی بن المتوکل __ رضی الله عنه __ قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحمیری، عن یعقوب بن یزید، قال: حدثنا الحسن بن علی بن فضال، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن سدیر الصیرفی عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبیه، عن جده علیهم السلام » فهذه السلسلة من الرواة هم الذین نقلوا الحدیث عن مصدره الأول وهو الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهم الذین نسمیهم بالإسناد).

خالد: (أحسنتِ التوضیح یا فاطمة).

أسامة: (وما أهمیة أن نعرف بأن الحدیث قد نقله فلان عن فلان عن فلان، فأنا قد اعتدت أن أقفز أسماء الرجال الذین نقلوا الحدیث حینما أقرأ روایة فیها حدثنی فلان وروی فلان وعن فلان وما شاکل).

خالد: (أهمیة الإسناد نابعة من أهمیة ثمرته، وأهم ثماره هی معرفة الروایة الصحیحة من غیرها، لأن الرواة الذین نقلوا الحدیث هم بشر کسائر البشر، فیهم الصادق، وفیهم الکاذب، وفیهم الأمین، وفیهم الخائن، وفیهم من کذب علی النبی فی حیاته وبعد وفاته، ومنهم من کذب علی أهل البیت ونسب إلیهم ما لم یقولوه(1)، فلا یمکن معرفة صدق الحدیث وکذبه، إلا بمعرفة الرجال الذین نقلوا


1- روی الشیخ الطوسی (قدس الله روحه) فی (اختیار معرفة الرجال ج2 ص489) (...هشام بن الحکم أنه سمع أبا عبد الله علیه السلام یقول: لا تقبلوا علینا حدیثا الا ما وافق القرآن والسنة، أو تجدون معه شاهدا من أحادیثنا المتقدمة، فان المغیرة بن سعید لعنه الله دس فی کتب أصحاب أبی أحادیث لم یحدث بها أبی، فاتقوا الله ولا تقبلوا علینا ما خالف قول ربنا تعالی وسنة نبینا صلی الله علیه وآله فانا إذا حدثنا، قلنا قال الله عز وجل، وقال رسول الله صلی الله علیه وآله ). وروی الشیخ (قدس الله روحه) فی نفس المصدر (ج2 ص491) (قال یونس: وافیت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبی جعفر علیه السلام ووجدت أصحاب أبی عبد الله علیه السلام متوافرین، فسمعت منهم وأخذت کتبهم، فعرضتها من بعد علی أبی الحسن الرضا علیه السلام فأنکر منها أحادیث کثیرة أن یکون من أحادیث أبی عبد الله علیه السلام. وقال لی: ان أبا الخطاب کذب علی أبی عبد الله علیه السلام لعن الله أبا الخطاب، وکذلک أصحاب أبی الخطاب یدسون هذه الأحادیث إلی یومنا هذا فی کتب أصحاب أبی عبد الله علیه السلام، فلا تقبلوا علینا خلاف القرآن فانا ان تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة، انا عن الله وعن رسوله نحدث، ولا نقول قال فلان وفلان، فیتناقض کلامنا، ان کلام آخرنا مثل کلام أولنا، وکلام أولنا مصادق لکلام آخرنا، فإذا أتاکم من یحدثکم بخلاف ذلک فردوه علیه وقولوا أنت اعلم وما جئت به، فان مع کل قول منا حقیقة وعلیه نورا، فما لا حقیقة معه ولا نور علیه فذلک من قول الشیطان).

ص: 75

لنا الحدیث والروایة، فان ثبت صدقهم وورعهم وصحة عقیدتهم أطمأن القلب إلیهم ووثقنا بما ینقلونه، وإن ثبت کذبهم وعدم عدالتهم تخوفنا وتوقفنا عن الأخذ بروایتهم، فهذه ثمرة من ثمرات وفوائد معرفة رجال السند، وهنالک ثمرات أخری مذکورة فی کتب علماء الرجال والمحدثین).

انتهی خالد من حدیثه ومد یده إلی قنینة الماء وشرب منها جرعات ثم حمد الله وشکره وذکر عطش الإمام الحسین ولعن قاتله ثم قال: (والآن لنقسم العمل، ولیأخذ کل واحد منا رجلین من رجال السند، ومن ثم نذهب إلی کتب الرجال ونستخرج أقوال أئمة الجرح والتعدیل بحقهم، ولنرَ ما سنخرج به من نتیجة، فخذی أنتِ یا فاطمة «محمد بن موسی بن المتوکل وعبد الله بن جعفر

ص: 76

الحمیری»، وخذ أنت یا أسامة «یعقوب بن یزید والحسن بن علی بن فضال»، وسنأخذ أنا ومحمد «عبد الرحمن بن الحجاج وسدیر الصیرفی» ثم نعود بعد البحث لنری ما توصلتم إلیه).

 ذهب الجمیع إلی الکتب التی اهتمت بتوثیق الرجال وجرحهم، وبمعونة وإرشاد من خالد أخرج کل واحد منهم ما یمکن أن یجده من معلومات حول رجال السند وبعد ساعة رجع الجمیع إلی الطاولة، فقال لهم خالد: (الآن لنبدأ بعرض ما جمعناه ولتبدأ فاطمة بالکلام).

1: وثاقة محمد بن موسی بن المتوکل

بدأت فاطمة ترتب الأوراق التی أمامها ثم قالت: (محمد بن موسی بن المتوکل __ رضی الله عنه __ هو شیخ الصدوق (قدس الله روحه) وقد أکثر الروایة عنه فی کتبه، وترضی وترحم علیه کلما مر علی ذکر اسمه فی أسانیده، وقد صرح العلامة الحلی بوثاقته فی کتابه «خلاصة الأقوال» بقوله: «محمد بن موسی بن المتوکل، ثقة»(1).

وقال السید الخوئی فی «معجم رجال الحدیث»: (قد أکثر الصدوق الروایة عنه، وذکره فی المشیخة فی طرقه إلی الکتب فی ثمانیة وأربعین موردا... وقد وثقه العلامة... وابن داود... وادعی ابن طاوس فی فلاح السائل... الاتفاق علی وثاقته... فالنتیجة أن الرجل لا ینبغی التوقف فی وثاقته»(2)).


1- خلاصة الأقوال للعلامة الحلی ص 251.
2- معجم رجال الحدیث للسید الخوئی ج 18 ص 300.

ص: 77

2: وثاقة عبد الله بن جعفر الحمیری

ثم أخرجت ورقة أخری وبدأت تقرأ منها: (وأما عبد الله بن جعفر الحمیری فقد وقع فی إسناد جملة من أسانید کتاب «کامل الزیارات» وکتاب «تفسیر القمی» لمؤلفه علی بن إبراهیم القمی، وفضلا عن هذا فقد ورد توثیق صریح فی حقه، فقد قال الشیخ الطوسی فی رجاله: «عبد الله بن جعفر الحمیری، قمی، ثقة»(1).

وقال العلامة الحلی فی «خلاصة الأقوال»: «شیخ القمیین ووجههم، قدم الکوفة سنة نیف وتسعین ومائتین، ثقة من أصحاب أبی محمد العسکری علیه السلام»(2)). أراد خالد أن یتکلم فقاطعه أسامة قائلا: (لحظة لو سمحت، فعندی سؤال، فالأخت فاطمة قالت بأن عبد الله بن جعفر الحمیری قد وقع فی إسناد کتاب «کامل الزیارات» وکتاب «تفسیر القمی» فما ربط هذا الأمر بتوثیق الرجال وهل کل من وقع اسمه فی أسانید کتابی کامل الزیارات وتفسیر القمی یعدّ ثقة؟).

فأجابته فاطمة بقولها: (ان ابن قولویه صاحب کتاب «کامل الزیارات» وعلی ابن إبراهیم القمی صاحب کتاب «تفسیر القمی» قد شهدا بوثاقة کل من یقع فی أسانید کتابیهما، لذلک فقد ذهب جمع من العلماء إلی وثاقة کل من وقع فی أسانید هذین الکتابین، وبعضهم خالف هذا الرأی، وبعضهم قد فصل وقال بوثاقة شیوخ ابن قولویه وعلی بن إبراهیم فقط دون غیرهم، والموضوع فیه بحث طویل ومفصل ولکل فئة أدلة یستدلون بها).


1- رجال الطوسی ص 400.
2- خلاصة الأقوال للعلامة الحلی ص 193 __ 194.

ص: 78

أسامة: (إذا لم تکن مسألة توثیق کل من فی أسانید ابن قولویه والقمی مسألة اتفاقیة فلماذا تستشهدون بها وتعدّونها دلیلاً علی وثاقة عبد الله بن جعفر الحمیری؟).

فاطمة: (أنا إنما جئت بهذا الأمر کمؤید ولیس دلیلاً مستقلاً، وقد قدمت دلیلاً آخر علی وثاقته ولم اکتف بمجرد وجود الحمیری فی أسانید کتابی ابن قولویه والقمی، وهذا أمر معمول به کثیرا فی کتب العلماء والباحثین).

فهز خالد رأسه مؤیدا لکلام فاطمة وقال: (صحیح ما تقولینه).

ثم التفت خالد إلی أسامة وقال: (هیا أیها المعترض أخبرنا ماذا وجدت عن الرجلین اللذین أوصیناک بهما؟).

3: وثاقة یعقوب بن یزید الأنباری

فتح أسامة ورقة من بین أوراق دفتره وقال: (قد راجعت الکتب التی دللتنی علیها فوجدت ان الشیخ النجاشی (قدس الله روحه) قد وثق یعقوب بن یزید بقوله: « یعقوب بن یزید بن حماد الأنباری السلمی، أبو یوسف، من کتاب المنتصر، روی عن أبی جعفر الثانی علیه السلام، وانتقل إلی بغداد، وکان ثقة صدوقا»(1).

ووجدت ان الشیخ الطوسی (قدس الله روحه) قد وثقه أیضا فی کتابه «الفهرست» بقوله: «یعقوب بن یزید الکاتب الأنباری، کثیر الروایة، ثقة. له کتب...»(2).

وأما العلامة الحلی فقد قال عنه فی کتابه «خلاصة الأقوال»: «وکان یعقوب


1- رجال النجاشی ص 450.
2- الفهرست للشیخ الطوسی ص 264.

ص: 79

من أصحاب الرضا علیه السلام، وروی یعقوب عن أبی جعفر الثانی علیه السلام وانتقل إلی بغداد، وکان ثقة صدوقا»(1)).

4: وثاقة الحسن بن فضالة

ثم أخرج أسامة ورقة ثانیة من بین أوراق دفتره وقال: (وأما الحسن بن فضال فهو ثقة أیضا، وقد قال عنه الشیخ الطوسی (قدس الله روحه) کلاماً عظیماً، ففی کتابه «الفهرست» انقله لکم مع حذف الزائد: « الحسن بن علی بن فضال... روی عن الرضا علیه السلام وکان خصیصا به، کان جلیل القدر، عظیم المنزلة، زاهدا ورعا، ثقة فی الحدیث وفی روایاته»(2).

وأما العلامة الحلی (قدس الله روحه) فقد قال عنه فی کتابه «خلاصة الأقوال»: «روی عن الرضا علیه السلام، وکان خصیصا به، وکان جلیل القدر عظیم المنزلة، زاهدا ورعا، ثقة فی روایاته»(3).

وقال عنه ابن داود الحلی (قدس الله روحه): «الحسن بن علی بن فضال... ممدوح معظم... کان خصیصا بالرضا علیه السلام جلیل القدر عظیم المنزلة زاهدا ورعا»(4)، هذا ما استطعت أن أجده وأعتقد بأنه یفی بالغرض ألیس کذلک؟).

خالد: (بلی یفی بالغرض سلمت یمینک، وأحب أن أضیف إلی قولک بأن


1- خلاصة الأقوال للعلامة الحلی ص 298.
2- الفهرست للشیخ الطوسی ص 97 __ 98.
3- خلاصة الأقوال للعلامة الحلی ص 98.
4- رجال ابن داود لابن داود الحلی ص 76.

ص: 80

کلّاً من یعقوب بن یزید والحسن بن فضال قد ورد ذکرهما فی کتابی «کامل الزیارات» و«تفسیر القمی» فیعد هذا تأییداً لوثاقتهما رضوان الله تعالی علیهما).

5: وثاقة عبد الرحمن بن الحجاج

نظر خالد إلی محمد وقال له: (اخرج یا محمد ورقتک التی کتبناها معاً وقل لهما ماذا وجدنا بخصوص «عبد الرحمن بن الحجاج»).

أخرج محمد ورقته وقال: (فی البدء أرید أن أشکر خالدا الذی علمنی ودربنی فی هذه الساعة التی قضیتها معه علی کیفیة البحث والتوثیق لعبد الرحمن ابن الحجاج، کما وأرجو منه أن لا یترکنی فی المستقبل، وان یأخذ بیدی لأتقوی أکثر فأکثر).

ابتسم خالد وقال: (أنا فی خدمتک وخدمة الباقین وإنی لأعترف بأنک بذلت الیوم جهداً جباراً للحصول علی المعلومة الصحیحة فی المکان الصحیح، والآن أخبرنا ماذا کتب فی ورقتک).

قرأ محمد ما هو مکتوب فی ورقته: (عبد الرحمن بن الحجاج ورد ذکره فی أسانید تفسیر القمی، وفی کتاب کامل الزیارات، وقد وثقه الشیخ النجاشی فی رجاله بقوله: «عبد الرحمن بن الحجاج. البجلی... وکان ثقة ثقة، ثبتا، وجها»(1).

وقد نقل الشیخ الطوسی فی کتابه «اختیار معرفة الرجال» ان الإمام الکاظم علیه السلام شهد له بالجنة وأورد فیه مدحا عن الصادق علیه السلام فقال نقلا عن أبی قاسم نصر بن الصباح: «عبد الرحمن بن الحجاج شهد له أبو الحسن علیه


1- رجال النجاشی ص 237 __ 238.

ص: 81

السلام بالجنة، وکان أبو عبد الله علیه السلام یقول لعبد الرحمن: یا عبد الرحمن کلم أهل المدینة فإنی أحب أن یری فی رجال الشیعة مثلک»(1).

وکما وثقه ابن أبی داود فی رجاله بقوله: «عبد الرحمن بن الحجاج البجلی مولاهم کوفی بیاع السابری... وکان ثقة ثقة، شهد له الصادق علیه السلام بالجنة»(2)).

6: وثاقة سدیر الصیرفی

فلما أکمل محمد قراءة ورقته أخرج خالد علی الفور ورقة وقال: (لم یبق لدینا إلا «سدیر الصیرفی» وسأبین لکم حاله، فقد ورد اسمه فی أسانید کتاب «کامل الزیارات» وکتاب «تفسیر القمی».

کما وقد صرح ابن داود (قدس الله روحه) فی رجاله بأنه کان ممدوحا إذ قال: «سدیر بن حکیم، بالفتح، أبو الفضل ممدوح»(3).

أما السید الخوئی (قدس الله روحه) وبعد أن استعرض عدة روایات فی مدح وقدح سدیر الصیرفی قال: «فتحصل مما مر أنه لا یمکن الاستدلال بشیء من الروایات علی مدح سدیر ولا علی قدحه، لکنه مع ذلک یحکم بأنه ثقة من جهة شهادة علی ابن إبراهیم فی تفسیره بوثاقته»(4).

ولکن السید علی بن أحمد العقیقی قد اتهم سدیراً بأنه کان مخلطا، وهذا


1- اختیار معرفة الرجال للشیخ الطوسی  ج 2 ص 741.
2- رجال ابن داود الحلی ص 128.
3- رجال ابن داود ص 101.
4- معجم رجال الحدیث للسید الخوئی ج 9 ص 39.

ص: 82

الوصف قد یقلل من وثاقة الراوی، إلا أن جملة من علمائنا قاموا برد وتفنید قول العقیقی هذا وأثبتوا براءة سدیر من التخلیط، وأثبتوا ضعف وتخلیط العقیقی، وسأختار قول السید الخوئی (قدس الله روحه) فی هذا الشأن حیث قال: «ولا یعارض ذلک بما رواه العلامة من قوله: وقال السید علی بن أحمد العقیقی: سدیر الصیرفی وکان اسمه سلمة کان مخلطا... فإن العقیقی لم تثبت وثاقته، علی أن التخلیط بمعنی روایة المعروف والمنکر، وهذا لا ینافی وثاقة الراوی. ثم إن ما نقله العلامة عن العقیقی من أن اسم سدیر سلمة لا محصل له، فإن سدیرا من الأسماء ولا معنی لان یقال اسمه سلمة، ولعل فی العبارة تحریفا»(1).

فخلاصة الکلام ان سدیرا الصیرفی ممدوح بشهادة ابن داود (قدس الله روحه)، وثقة بشهادة السید الخوئی (قدس الله روحه)، وبذلک تثبت وثاقة جمیع أفراد سند الروایة، وتکون الروایة معتبرة، ویصح الاعتقاد بصدورها عن أئمة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)).

انتهی خالد من کلامه هذا ونظر إلی السماء فوجد ان وقت الغروب قد حل، فقال: (سنکتفی الیوم بهذا القدر من البحث وسنکمل غداً إن شاء الله فی نفس الموعد، ولا تنسوا أن تتأملوا هذه اللیلة فی فقرات الروایة جیدا وتکتبوا کل ما یخطر علی بالکم من ملاحظات أو أسئلة ترونها ضروریة).

نهض الجمیع وودع بعضهم بعضا متمنین لبعضهم قضاء أمسیة جمیلة، وانصرف کل منهم إلی منزله، علی أمل اللقاء غداً.


1- المصدر السابق.

ص: 83

الدلیل الأول علی أفضلیة السیدة الزهراء علیها السلام

اشارة

مضت ساعات اللیل سریعة، وجاء النهار، ثم حل وقت العصر، واجتمع الکل، وجلسوا جلستهم المعتادة، وبدأ خالد بالکلام وقال: (هل قرأتم الروایة جیدا؟ وهل تأملتم فیها؟).

اکتفی بعض الحاضرین بالإشارة برأسه، وأجاب البعض الآخر بنعم، فقال خالد: (حسنا، سیلقی کل واحد منا ملاحظة واحدة، فنجیبه علیها، ثم ینتقل الدور إلی الشخص الآخر، ثم نرجع من جدید إلی الشخص الأول وهکذا، ولیبدأ محمد أولا ولیقل ما عنده، هیا تفضل).

نظر محمد فی وجوه الحاضرین وقال: (قد عرفنا البارحة ان السند هو الرجال الذین نقلوا لنا الحدیث عن قائله الأصلی وهو النبی (صلوات الله و سلامه علیها)، فلماذا بحثنا بالأمس عن ستة من الرواة ولم نبحث عن الإمام الصادق وأبیه وجده، مع أنهم من ضمن السند؟).

خالد: (نحن نبحث عن الرواة الذین یوصلوننا إلی الإمام المعصوم علیه السلام، فإذا وصلنا إلیه اکتفینا، لأن غرضنا من الروایة هو الوصول إلی رأی المعصوم وقوله، ولا یهم حینئذ أن یکون المعصوم علیه السلام هو القائل المباشر

ص: 84

لهذا الحدیث، أو هو ناقلاً عن غیره من المعصومین).

أسامة: (أما أنا فقد وجدت بأن فقرة: «خلق نور فاطمة علیها السلام قبل أن تخلق الأرض والسماء» والتی ورد ذکرها فی الروایة تدل دلالة واضحة علی أفضلیة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی الملائکة وعلی الأنبیاء وعلی جمیع البشر سواء کانوا صحابة أم لا، لسبق وجودها واصطفائها علی کل هؤلاء).

هل السبق الزمانی فی الخلق یدل علی الأفضلیة؟

فاطمة: (ولکن ما الدلیل علی ان السبق فی الخلق یدل علی الأفضلیة؟ فقد خلق الله إبلیس قبل آدم، ولکن مع هذا فآدم أفضل من إبلیس؟!).

   نظر أسامة إلی خالد مستنجداً، فقال خالد: (نحن لا نقول بأن مجرد السبق فی الخلق یدل علی الأفضلیة، وإنما نقول إن التقدم الزمنی فی الخلق إذا کانت معه عنایات إلهیة خاصة تمیزه عن غیره فحینئذ یصبح أفضلیة، أما إذا کان التقدم الزمنی فی الخلق فیه خذلان الهی فانه یدل حینئذ علی النقص).

فاطمة: (هل یمکن ان توضح کلامک أکثر؟).

خالد: (لننظر إلی المثال الذی أتیتِ به، فإبلیس وان کان أقدم من حیث الوجود الزمنی بالنسبة إلی آدم، ولکن لو رجعنا إلی کلمات القرآن التی قیلت فیه، فلسوف لن نجدها تتحدث عنه إلا بشکل سلبی، فتارة یقول عنه: «أَبَی وَاسْتَکْبَرَ وَکَانَ مِنَ الْکَافِرِینَ».

وتارة أخری یطرده الله سبحانه من المنزلة التی کان فیها قائلا له: «فَاهْبِطْ

ص: 85

مِنْهَا فَمَا یَکُونُ لَکَ أَنْ تَتَکَبَّرَ فِیهَا فَاخْرُجْ إِنَّکَ مِنَ الصَّاغِرِینَ»، أو: « فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّکَ رَجِیمٌ * وَإِنَّ عَلَیْکَ اللَّعْنَةَ إلی یَوْمِ الدِّینِ».

فمن هذا الخذلان واللعن والطرد والإبعاد علمنا أن إبلیس لم ینفعه سبق وجوده وخلقه علی آدم (صلوات الله و سلامه علیه)، وان آدم (صلوات الله و سلامه علیه) وان کان وجوده متأخرا إلا انه أفضل.

والآن نأتی إلی الروایة التی ذکرت خلق السیدة الزهراء قبل السماوات والأرض، لنری هل إن الروایة کانت تتحدث عنها بشکل إیجابی أم سلبی، فالنبی (صلی الله علیه و آله و سلم) کان فی صدد مدح ابنته (صلوات الله و سلامه علیها) علی رؤوس الأشهاد وهذا أمر إیجابی، وإنها حوراء إنسیة وهو مدح ثانٍ، وان الله سبحانه قد خلقها من نوره وهذا مدح ثالث، وان الله سبحانه قد وضعها فی حقة وهی الخزنة الصغیرة التی یوضع فیها النقود والجواهر، فشبهها بالجوهر الذی یوضع فی الخزنة خوفا علیه وتکریما له، وهو مدح رابع، وانها کانت تعیش فی ذلک العالم علی التسبیح والتهلیل والتکبیر وهو طعامها وشرابها، وهذا مدح خامس، وهکذا بقیة فقرات الروایة، فلما وجدنا ان أسبقیتها (صلوات الله و سلامه علیها) قد حفت بهذه الکرامات والألطاف علمنا ان هذه الأسبقیة کانت لها کرامة وفضلاً، بعکس أسبقیة إبلیس لعنه الله علی آدم التی کانت له مذمة ونقصاً لأنها لم تزده إلا خسراناً مبیناً).

هل الزهراء أفضل من النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) ومن الإمام علی (صلوات الله و سلامه علیه)؟

تنفس أسامة الصعداء وقال: (الحمد لله، فاستنتاجی صحیح إذن، ولکن عندی سؤال: فالروایة تقول: إن الله سبحانه قد خلق نورها قبل السماوات

ص: 86

والأرض، یعنی ان نورها أقدم مخلوق، وهذا یعنی انها قد خلقت قبل النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وقبل الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه)، فهل هذا التقدم الزمنی فی الخلق یدل علی أفضلیتها (صلوات الله و سلامه علیها) علیهما؟).

خالد: (السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) لم تخلق قبل النبی (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولا قبل أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه)، فقد صرحت روایات أخری بأن الله سبحانه خلق نور النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) أولا، ثم خلق علیا من نوره، ثم خلق فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) من نورهما، ثم خلق الحسن والحسین (صلوات الله و سلامه علیهما) من نور علی وفاطمة (صلوات الله و سلامه علیهما)، فأصل نور فاطمة من نوریهما فیکونان أفضل منها، فضلاً عن إجماع الشیعة قدیماً وحدیثاً علی أفضلیة النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمیر المؤمنین علی فاطمة وعلی سائر الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)).

هل النور المذکور فی الروایة مادی؟

فاطمة: (ألیس النور موجوداً مادیاً؟ وإذا کان مادیاً فإنه یحتاج إلی زمان ومکان، فکیف خلق قبل السماوات والأرض اللتین یقاس بهما الزمان والمکان؟).

خالد: (الروایة تدل بشکل واضح علی أن النور الذی خلقت منه فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) هو لیس نوراً مادیاً، وهو خارج عن إطار الزمان والمکان، بدلیل خلقه قبل الزمان والمکان، وقبل الأرض والسماوات، فهو نوع من الوجود الذی لا یعلمه إلا الله سبحانه، ولسنا مکلفین بالبحث عن ذلک، والمهم أن نعرف ان السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) کانت مخلوقة قبل خلق هذا العالم، وان نوع وجودها فی تلک المرحلة من الخلق لم یکن مادیاً، لذلک کان طعامها التسبیح والتهلیل والتکبیر،

ص: 87

یعنی طعامها غیر مادی بل هو معنوی، والمهم أیضا أن نعرف بأن خلقها فی تلک المرحلة سببه أفضلیتها ولمحبة الله سبحانه لها،أما کیف وأین وغیر ذلک من الاستفهامات فهی مما حجب عنا فهمه ولم نکلف معرفته).

فاطمة: (لم تجبنی عن السؤال یا خالی، ألیس النور موجوداً مادیاً؟).

خالد: (النور المعروف عندنا فی هذا العالم مادی، لأنه محکوم بقوانین المادة وحدودها، أما فی الشرع فقد أطلق النور فی بعض الأحیان وأرید به ما فوق عالم المادة والطبیعة کقوله تعالی: «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» والله سبحانه لیس موجوداً مادیاً ومع ذلک وصف نفسه بالنور، لأن للنور قابلیة الهدایة، والله الهادی لأهل السماوات والأرض، ولو کان المقصود هو النور والضوء المادی لما أظلمت الأرض لیلاً ولا نهاراً، فیتبین لنا من هذا کله ان النور المقصود فی الروایة لیس نوراً مادیاً، بل هو نوع من الوجود الخارج عن حد المادة بحدودها الزمانیة والمکانیة، وقد استعمل لفظ النور فی الروایة للدلالة علیه لمناسبة لعلها لا تخفی علیکم).

النور ظاهر بنفسه ومظهر لغیره وکذلک السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)

أسامة: (بل هی خافیة علینا، فهل یمکنک أخی خالد من تبیان المناسبة ما بین هذا النور المادی وما بین ذلک الوجود الذی خلقت منه السیدة الزهراء؟).

فقال خالد: (کلنا یعرف ان من خواص النور هو إیضاحه وإظهاره للأشیاء، فما یشع النور فی مکان حتی تتبدد الظلمات ویصبح کل ما کان مستتراً واضحاً

ص: 88

منیراً قابلا للرؤیة، فهو کما یقولون ظاهر بنفسه ومظهر لغیره، وکذلک هی السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، فقد ورد فی عدة روایات بأن الله سبحانه أظهر بعض أجزاء هذا العالم من برکات وجودها (صلوات الله و سلامه علیها)(1)).

أسامة: (ألیس هذا الکلام غریبا بعض الشیء؟ فکیف یعقل ذلک؟!).

خالد: (وما الغرابة فی هذا الشیء؟).

أسامة: (کیف یعقل ان تخلق السماوات والأرض من نورها؟ ألیس هذا غلوا؟).

خالد: (لا غلو فی هذا فالله سبحانه قادر علی أن یخلق ما یشاء مما یشاء، والأمر الذی لا نعقله أو لا تمیل إلیه نفوسنا لا یحق لنا أن نکذبه، ولا یوجد أی


1- روی العلامة المجلسی فی (بحار الأنوار ج15 ص10) عن: (کنز جامع الفوائد وتأویل الآیات الظاهرة: عن محمد بن الحسن الطوسی رحمه الله فی کتابه مصباح الأنوار بإسناده عن أنس عن النبی صلی الله علیه وآله قال: إن الله خلقنی وخلق علیا وفاطمة والحسن والحسین قبل أن یخلق آدم علیه السلام حین لا سماء مبنیة، ولا أرض مدحیة، ولا ظلمة ولا نور ولا شمس ولا قمر ولا جنة ولا نار، فقال العباس: فکیف کان بدء خلقکم یا رسول الله؟ فقال: یا عم لما أراد الله أن یخلقنا تکلم بکلمة خلق منها نورا "، ثم تکلم بکلمة أخری فخلق منها روحا "، ثم مزج النور بالروح، فخلقنی وخلق علیا " وفاطمة والحسن والحسین، فکنا نسبحه حین لا تسبیح، ونقدسه حین لا تقدیس، فلما أراد الله تعالی أن ینشئ خلقه فتق نوری فخلق منه العرش فالعرش من نوری، ونوری من نور الله، ونوری أفضل من العرش، ثم فتق نور أخی علی فخلق منه الملائکة، فالملائکة من نور علی، ونور علی من نور الله، وعلی أفضل من الملائکة، ثم فتق نور ابنتی فخلق منه السماوات والأرض فالسماوات والأرض من نور ابنتی فاطمة، ونور ابنتی فاطمة من نور الله، وابنتی فاطمة أفضل من السماوات والأرض...).

ص: 89

غلو فی الموضوع، ألیس الله سبحانه قد صرح فی القرآن بأنه خلق السماوات من دخان(1)، وکذلک ذکر القرآن الکریم ان الله سبحانه قد خلق کل شیء یمشی علی الأرض من ماء(2)، وانه سبحانه قد خلق هذا الإنسان الذی حیر العقول بحسن ترکیبه ونظامه من طین أو من منی أو ماء مهین(3)، فکیف نصدق ان الله یخلق من الدخان هذه الکواکب والمجرات والشموس ولا نعدّه غلوا؟!!، أو ان الله یخلق هذا الإنسان بأعصابه وعقله ولحمه ودمه من طین أو من منی ولا نعدّه غلوا؟!!، ولکن حینما یقال لنا ان السماوات قد خلقت من نور فاطمة نستفظع ذلک ونعدّه غلوا، وهل هذا الا من قبیل الکیل بمکیالین، أو الإیمان ببعض الکتاب والکفر ببعضه الآخر؟!).

فاطمة: (السبب فی إنکار الناس واستثقالهم لخلق السماوات والأرض من نور فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) هو ان القرآن الکریم قد صرح بخلق الإنسان من طین وبخلق السماوات من دخان فلذلک صدقوا، ولکن القرآن لم یذکر لنا ان الله سبحانه قد خلق السماوات من نور فاطمة ولو کان قد ذکر لما اعترض علی هذا


1- قال سبحانه فی سورة فصلت الآیة رقم 11: (ثُمَّ اسْتَوَی إلی السَّمَاءِ وَهِیَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِیَا طَوْعًا أَوْ کَرْهًا قَالَتَا أَتَیْنَا طَائِعِینَ).
2- قال سبحانه فی سورة النور الآیة 45: (وَاللَّهُ خَلَقَ کُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلَی بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلَی رِجْلَیْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ یَمْشِی عَلَی أَرْبَعٍ یَخْلُقُ اللَّهُ مَا یَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَی کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ).
3- قال سبحانه فی سورة السجدة الآیة رقم 7و8: (الَّذِی أَحْسَنَ کُلَّ شَیْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِینٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِینٍ).

ص: 90

الأمر أحد).

خالد: (ان کان القرآن الکریم لم یذکره فقد ذکره النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) فی حدیث صحیح، وقول النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) من حیث التشریع وبیان الحقائق الغیبیة بقوة قول القرآن الکریم وبیانه، فکلاهما له نفس الحجیة من هذه الجهة، وقد أکد القرآن الکریم علی حجیة جمیع أقوال النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) بقوله: «وَمَا آَتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»، وقوله: «وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَی».

أضف إلی ذلک ان القرآن الکریم لم یبین لنا کل شیء علی نحو التفصیل، فمثلا لم یذکر لنا عدد رکعات الصلاة، ولا ذکر لنا ما نقوله فی الصلاة، وغیر ذلک الکثیر الکثیر، وإنما أخذنا کل ذلک عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وصدقنا قوله، فلماذا نصدق قول النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) حینما یقول لنا ان صلاة الصبح رکعتان، ولا نصدق قوله حینما یقول لنا ان فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) نور، أو ان الله سبحانه قد خلق من نورها السماوات أو الأرض، وهل هذا التصرف منا إلا شبیه بتصرف أهل الکتاب من الکفار الذین وبخهم الله سبحانه بقوله: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْکِتَابِ وَتَکْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ یَفْعَلُ ذَلِکَ مِنْکُمْ إِلَّا خِزْیٌ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَیَوْمَ الْقِیَامَةِ یُرَدُّونَ إلی أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»(1)).

أسامة: (بقی عندی سؤال یحیرنی وهو:إذا کان الله سبحانه قد خلق السماوات من نور السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) فلماذا یقول فی القرآن بأنه سبحانه


1- سورة البقرة الآیة رقم 85.

ص: 91

قد خلقها من دخان؟).

فقال خالد: (إن القرآن الکریم اعتاد ذکر مراحل خلق الموجودات فی آیات متفرقات، ولم تجمع هذه المراحل فی آیة واحدة بحسب الظاهر، فمراحل خلق الإنسان مثلا قد فرقت ووزعت فی آیات القرآن الکریم، ففی بعض الآیات یذکر سبحانه بأنه خلقه من تراب، وفی بعضها الآخر انه سبحانه خلقه من طین، وفی آیات أخری یذکر بأنه خلقه من طین لازب، وفی آیات أخری ذکر بأن الإنسان مخلوق من نطفة، وفی بعضها الآخر انه مخلوق من صلصال من حمإ مسنون، وفی بعضها الآخر من علقة وهی الدم، وغیر ذلک، وعلیه فلو قلنا ان الإنسان مخلوق من طین لصح قولنا، ولو قلنا انه مخلوق من ماء لصح قولنا أیضا، ولو قلنا انه مخلوق من علقة أو منی لصح قولنا أیضا.

وکذلک السماوات فهی مخلوقة من دخان کما صرح بذلک القرآن الکریم، وهی مخلوقة من نور فاطمة الذی هو من نور الله سبحانه کما فی الحدیث النبوی الصحیح، ولا تناقض فی ذلک، وغایة ما فی ذلک ان القرآن الکریم ذکر لنا الدخان ولم یذکر النور، والنبی (صلی الله علیه و آله و سلم) قد ذکر لنا نور السیدة الزهراء وکلاهما حجة، ویجب الإقرار بما یخبران به عن الغیب).

محمد: (وکیف یکون نورها وهو غیر مادی سبباً لظهور العالم المادی؟).

خالد: (إن مسألة الخلق مسألة معقدة جداً لا یمکن لنا تعقلها أو فهمها، ولسنا مطالبین بتفسیرها ولله الحق وحده فی خلق ما یشاء کیفما یشاء، وخلق العالم المادی من شیء غیر مادی هو شبیه بخلق السماوات من دخان، أو الإنسان من

ص: 92

طین میت لا حیاة فیه، فمثلما ان خلق الحی من المیت أمر لا یمکن للمخلوقین فهمه کذلک خلق المادی من غیر المادی أمر لا یمکن لمثلنا فهمه ولسنا مطالبین بذلک شرعاً وعقلاً).

سکت الجمیع فقال خالد: یظهر ان أسئلتکم علی هذه النقطة قد اکتملت فإن کان ظنی صحیحا فلننتقل إلی النقطة الثانیة)، فهز الجمیع رأسه علامة علی الموافقة.

للنور خاصیة الهدایة والدلالة والحجیة وکذلک السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)

خالد: (وللنور خصوصیة أخری هی الهدایة والدلالة والحجیة، فبالنور یهتدی الإنسان لرؤیة طریقه، وبه یستدل علی حقائق الأشیاء، لذلک کانوا یضعون منارة علی الشاطئ ویضعون أعلاها نوراً، لیهتدی ولیستدل به التائهون فی ظلمات البحر ومجاهیله.

ولهذا السبب أطلق وصف النور علی القرآن فی آیات عدیدة(1)، فکما أن النور یهدی الإنسان إلی طریقه فی ظلمات اللیل ونحوه، کذلک القرآن یهدی الإنسان إلی طریقه فی ظلمات الحیاة.

ولهذا السبب أیضا أطلق وصف النور علی النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وباقی الأئمة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فقد ورد فی الروایة: «نحن نور لمن تبعنا، ونور


1- قال سبحانه فی سورة النساء الآیة رقم 174: «یَا أَیُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَکُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَیْکُمْ نُورًا مُبِینًا»، وقال سبحانه فی الأعراف الآیة رقم 157: «فَالَّذِینَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِی أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

ص: 93

لمن اقتدی بنا»(1)، فالنبی (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) من دلالات الله وآیاته التی یهتدی بها إلی التوحید ومصالح الدین وشرائع الإسلام والفرائض والسنن(2)، فصح إطلاق النور علیهم.

وبناء علی هذا التوضیح یصح إطلاق لفظ النور علی السیدة فاطمة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لان لها صفة الحجیة والدلالة والهدایة، فهی کباقی الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) من دلالات الله سبحانه وآیاته التی یهتدی بها إلی التوحید ومصالح الدین وشرائع الإسلام والفرائض والسنن، وهی حجة من حجج الله سبحانه علی سائر أهل التوحید وهی حجة حتی علی الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)(3)).

فقالت فاطمة: (وهل توجد نصوص وروایات تدل علی ان السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) هی کباقی الأئمة من دلالات الله سبحانه وآیاته التی یهتدی بها أهل التوحید؟).

فقال خالد: (نعم توجد، وهی کثیرة، وسأختار لکم واحدة من تلک الروایات الشریفة، فقد روی الشیخ الصدوق بأسانید متعددة عن جابر بن عبد الله الأنصاری، عن النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: «اقتدوا بالشمس، فإذا غابت الشمس


1- تفسیر القمی لعلی بن إبراهیم القمی ج2 ص104.
2- قال الشیخ الصدوق فی کتابه التوحید ص157: (عن الصادق علیه السلام أنه سئل عن قول الله عز وجل: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره کمشکاة فیها مصباح) فقال: هو مثل ضربه الله لنا، فالنبی صلی الله علیه وآله والأئمة صلوات الله علیهم أجمعین من دلالات الله وآیاته التی یهتدی بها إلی التوحید ومصالح الدین وشرائع الإسلام والفرائض والسنن، ولا قوة إلا بالله العلی العظیم).
3- کما سیأتی فی محله من هذا الکتاب ان شاء الله سبحانه.

ص: 94

فاقتدوا بالقمر، فإذا غاب القمر فاقتدوا بالزهرة، فإذا غابت الزهرة فاقتدوا بالفرقدین، فقالوا: یا رسول الله فما الشمس؟ وما القمر؟ وما الزهرة؟ وما الفرقدان؟ فقال: أنا الشمس، وعلی القمر، والزهرة فاطمة، والفرقدان الحسن والحسین»(1)، فهذه الروایة صریحة فی جعل السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) من دلالات الله سبحانه وآیاته التی یهتدی بها فی ظلمات الحیرة والجهل، فهی إذن نور لأنها تحمل صفات النور وخواصه).

أسامة: (قلت انها (صلوات الله و سلامه علیها) حجة علی المؤمنین وحجة علی الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فکیف یکون ذلک؟).

خالد: (أما مسألة حجیتها علی المؤمنین فأعتقد بأنها واضحة ألیس کذلک؟).

أسامة: (لیس تماما، فأوضحوها تؤجرون).

خالد: (کونها حجة علی سائر المؤمنین مفروغ منه عند علمائنا (رضوان الله تعالی علیهم)،ولهم أدلة کثیرة علی ذلک، منها حدیث الثقلین(2)، والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أحد أفراد العترة الهادیة التی أمر النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) بالتمسک بهم وأخبر بأنهم لن یفترقوا عن کتاب الله حتی یردا علیه الحوض، والتمسک یعنی الاقتداء بکل ما یصدر عنهم من قول أو فعل، وهذا یعنی ان أقوال وأفعال السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) حجة علی جمیع المسلمین.


1- معانی الأخبار للشیخ الصدوق ص115 وما بعدها.
2- روی عن النبی الاعظم متواترا انه قال: (إنی تارک فیکم الثقلین: کتاب الله عز وجل وعترتی أهل بیتی، ألا وهما الخلیفتان من بعدی، ولن یفترقا حتی یردا علی الحوض).

ص: 95

ویدل علی کونها حجة علی المؤمنین أیضا ما رواه محمد بن جریر الطبری فی کتابه دلائل الإمامة بسنده عن الإمام الباقر علیه السلام انه قال: «ولقد کانت طاعتها مفروضة علی جمیع من خلق الله من الجن، والإنس، والطیر، والوحوش(1)، والأنبیاء، والملائکة»(2)، وفیها دلیل علی ان للسیدة الزهراء حجیة وولایة علی جمیع الموجودات حتی الأنبیاء والملائکة والإنس والجان والحجر والمدر).

أسامة: (وهذه الروایة تدل أیضا علی حجیتها علی الأئمة لأنها تقول ان طاعتها مفروضة علی جمیع من خلق الله والأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ممن خلق الله سبحانه).

 خالد: (أحسنت، وتوجد أدلة أخری علی حجیتها (صلوات الله و سلامه علیها) علی سائر الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ستأتی لاحقا إن شاء الله فلا تستعجلوا واترکوا هذا البحث لوقته المناسب).

للنور خاصیة الصفاء واللطافة والنقاء وکذلک السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)

خالد: (وللنور خاصیة أخری، فإذا قسناه بالظلام فان للنور نقاء وصفاء، وللظلام کدورة ودرن، وللنور لطافة وصفاء، وللظلمة عتمة واسوداداً، فإذا أردنا أن نصف شیئاً طاهراً صافیاً نقیاً من کل عیب ونقص شبهناه بالنور، وإذا أردنا أن نصف موجودا معتما لا خیر فیه مشتهراً بالجهل والخطیئة والدرن والرجس شبهناه بالظلمة.


1- وفی بعض النسخ (والبهائم).
2- دلائل الإمامة لمحمد بن جریر الطبری الشیعی ص106.

ص: 96

ووصف السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بالنور فی الروایة هو لتبیان صفائها ونقائها ولطافة ذاتها، وخلوها من کل جهل أو عیب أو نقص، ونزاهتها عن کل رجس وقبیح، ودلیل ذلک فی قوله تعالی: « إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا»(1)، ولا خلاف بین المسلمین ان فاطمة أحد المشمولین بهذه الآیة المبارکة، وان الله سبحانه قد طهرها بجمیع مراتب ومعانی التطهیر، وأذهب عنها الرجس بجمیع مراتبه ومعانیه، وبسبب هذا الصفاء والخلوص والتنزه عن کل ظلمانیة صح إطلاق وصف النور علیها (صلوات الله و سلامه علیها)).

لا بقاء للکون من دون نور کما لا بقاء له من دون فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها)

وقال خالد: (والنور سبب لبقاء الحیاة، فلا یمکن لموجود حی أن یستمر فی الحیاة من دون أن یستفید من النور، وأعظم مصدر من مصادر النور هو الشمس، فلولاها ولولا نورها لعاش الکون کله فی وحشة قاتلة، ولتحولت الدنیا إلی ظلام یمیت کل حی، وکذلک هی السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) فلولا وجودها النورانی المقدس لما وجدت سماء ولا أرض، لأنها حجة الله، وأم الحجج الأطهار (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، ولولا وجودها الأقدس لما ولد الحسن والحسین ولما ولد الأئمة من ذریة الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، ولساخت الأرض بأهلها(2)، فهی شمس هذا الوجود التی لولاها لعاش الکون کله فی ظلمة وتلاشی).


1- سورة الأحزاب الآیة رقم 33.
2- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج1 ص179 عن أبی حمزة قال: (قلت لأبی عبد الله علیه السلام: أتبقی الأرض بغیر إمام؟ قال: لو بقیت الأرض بغیر إمام لساخت)، وفی نفس المصدر عن الإمام الباقر (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال: (لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها، کما یموج البحر بأهله).

ص: 97

النور أکبر مصدر من مصادر الطاقة وکذلک السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)

خالد: (وللنور أهمیة عظیمة فی حیاتنا، فهو من أعظم مصادر الطاقة قدیما وحدیثا، ففی السابق کان الإنسان یستفید من النور استفادة محدودة بسبب جهله وقلة خبرته، أما الیوم فتوجد مصانع ومحطات تولید الطاقة الکهربائیة ومحطات تولید المیاه وغیر ذلک، کلها تعمل علی أشعة الشمس ونورها.

ومن یتابع الروایات الشریفة التی تحدثت عن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) یجد بأن هذه السیدة العظیمة من أعظم مصادر الطاقة الروحیة والشرعیة والعلمیة التی تفضل الله سبحانه بها علینا، وقد بلغ عظیم نفعها وبرکتها ان الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) کانوا یعدّونها مصدرا من مصادر التشریع(1)، حیث کان لدیهم کتاب خاص أطلقت علیه الروایات اسم «مصحف فاطمة»، کما ان الروایات قد صرحت أیضا بأن هذا الکتاب فیه کل ما یحتاج إلیه الناس والی یوم القیامة(2)، ونحن الیوم بأمس الحاجة إلی علم هذه السیدة الجلیلة ونورها، مثلما نحن بحاجة


1- مصادر التشریع عند الشیعة الإمامیة أربعة کما هو معروف، القرآن والسنة والعقل والإجماع، والسنة التی هی المصدر الثانی من مصادر التشریع یقصد بها قول المعصوم وفعله وتقریره، والمعصوم یشمل النبی الأعظم (صلوات الله و سلامه علیه) والأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لأنها تدخل فی ضمن المعصومین، فهی مصدر من مصادر التشریع عندنا بقولها وفعلها وتقریرها.
2- ففی بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار (ص170) عن الحسین بن أبی العلاء قال: (سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول عندی الجفر الأبیض. قال: قلنا: وأی شیء فیه؟ قال: فقال لی: زبور داود وتوراة موسی وإنجیل عیسی وصحف إبراهیم والحلال والحرام ومصحف فاطمة ما أزعم ان فیه قرآنا وفیه ما یحتاج الناس إلینا ولا نحتاج إلی أحد حتی أن فیه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش...).

ص: 98

إلی نور الشمس وضوئها، بل ان حاجتنا إلیها أعظم وافتقارنا إلی طاقتها المعرفیة والروحیة أشد، والإنسانیة التی کانت تجهل قدر وأهمیة ضوء ونور الشمس ما زالت إلی یومنا تجهل أهمیة وقدر نور فاطمة وعلمها).

کیف تکون السیدة الزهراء بشراً وفی الوقت نفسه نوراً؟

خالد: (هذه هی أهم الأسباب التی أدت إلی تشبیه السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) بالنور).

أسامة: (بقی عندی سؤال لو سمحت، ألیس القول بأن السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) کانت نوراً ینافی کونها بشراً، لان القرآن الکریم قد وصف النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وباقی الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بأنهم بشر مخلوقون من لحم ودم، فکیف نوفق بین کونها بشراً وبین کونها نوراً؟).

خالد: (قد أجبنا علی هذا السؤال فی ضمن کلامنا السابق، لأنی قد أوضحت بأن لخلق الإنسان مراحل وتطورات، ففی مرحلة من مراحل خلقه کان ترابا، وفی مرحلة أخری کان نطفة، وفی مرحلة أخری کان علقة وهی الدم، وفی مرحلة أخری کان مضغة وهی القطعة الصغیرة من اللحم(1) ثم یعود ترابا فی القبر، فاختلاف الشکل أو المظهر المادی لا یؤثر فی الجوهر الإنسانی أو البشری للشخص، فأسامة فی مرحلة التراب هو نفسه أسامة النطفة، وأسامة النطفة هو نفسه


1- قال تعالی فی سورة الحج الآیة رقم 5: («یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنْ کُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاکُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَیْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَیِّنَ لَکُمْ وَنُقِرُّ فِی الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلی أَجَلٍ مُسَمًّی ثُمَّ نُخْرِجُکُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّکُمْ وَمِنْکُمْ مَنْ یُتَوَفَّی وَمِنْکُمْ مَنْ یُرَدُّ إلی أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِکَیْلَا یَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَیْئًا».

ص: 99

الجنین الذی یتحول تارة علقة وتارة مضغة، وهو نفسه فی مرحلة الطفولة أو الشباب أو الرجولة، وهو نفسه التراب بعد موته، فیتبین من هذا کله ان کون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) نورا فی مرحلة من مراحل خلقها لا یخرجها عن کونها بشرا، مثلما ان خلقنا من تراب أو دم لا یخرجنا عن کوننا بشرا).

أسامة: (ألا تعتقدون بأن هذا الحدیث یوجب سخریة المذاهب الأخری منا؟ فمن یسمعه منهم یعتقد بأننا نؤله أئمتنا والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فیکون الحدیث هذا سبباً لتکفیرنا وقتلنا).

فقال خالد: (لا ینبغی لعاقل أن یکفر الشیعة لمجرد قولهم بأن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وباقی الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) نور من نور الله سبحانه، وعلی من یکفر الشیعة لهذا السبب أن یکفر بقیة المسلمین لأنهم یقولون ان عیسی روح الله وکلمة الله(1)، فمثلما ان وصف عیسی بروح الله وکلمة الله لا یخرجه عن البشریة ولا یصیره إلها کذلک وصف السیدة الزهراء علیها السلام بأنها نور الله لا یخرجها عن البشریة ولا یصیرها إلها. ثم ان أهل السنة قد وصفوا بالنورانیة ما هو أقل من السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) فلماذا یستفظعون علینا وصفها بذلک وهی سیدة نساء الأولین والآخرین، فقد رووا عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: «لا تنتفوا الشیب؛ فإنه نور یوم القیامة»(2)، فکیف لا یستثقلون بأن الشیبة وهی الشعرة البیضاء


1- قال تعالی فی سورة النساء الآیة رقم 171: (إِنَّمَا الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَکَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلی مَرْیَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ).
2- صحیح ابن حبان ج7 ص253.

ص: 100

ستتحول من صورتها الدنیویة هذه إلی صورة أخری نورانیة، بینما یستثقلون أن تکون السیدة الزهراء __ وهی أعظم من الشعرة البیضاء بإجماع المسلمین __ نورا قبل خلقها فی عالم الدنیا.

إضافة إلی کل هذا فأهل السنة قد رووا أحادیث مشابهة لما رویناه نحن فی حق الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، فقد رووا عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: «ان الله تعالی خلقنی من نوره، وخلق أبا بکر من نوری، وخلق عمر وعائشة من نور أبی بکر، وخلق المؤمنین من أُمّتی من الرجال من نور عمر، وخلق المؤمنات من أُمّتی من النساء من نور عائشة، فمَن لم یحبّنی ویحبّ أبا بکر وعمر وعائشة فما له من نور»(1).

وأهل السنة لو کفروا الشیعة لأنهم قالوا بخلق الله السماوات من نور فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) فعلیهم أیضا أن یکفروا صاحب کتاب السیرة الحلبیة لأنه یقول بخلق السماوات والأفلاک وحتی آدم أبو البشر من نور النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)).

فقال أسامة: (عجیب! وهل لک أن تخبرنا ماذا قال الحلبی بالضبط؟!).

قال خالد: (قال الحلبی فی سیرته: «...وجاء: أول ما خلق الله نوری، وفی روایة أول ما خلق الله العقل، قال الشیخ علی الخواص ومعناهما واحد، لأن حقیقته صلی الله علیه وسلم یعبر عنها بالعقل الأول وتارة بالنور، فأرواح الأنبیاء والأولیاء مستمدة من روح محمد صلی الله علیه وسلم، هذا کلامه، وهذا هو المعنی بقول بعضهم: لما تعلقت إرادة الحق بإیجاد خلقه، أبرز الحقیقة المحمدیة من الأنوار الصمدیة فی الحضرة الأحدیة، ثم سلخ منها العوالم کلها علوها وسفلها... وحینئذ


1- الکشف والبیان عن تفسیر القرآن (تفسیر الثعلبی) للثعلبی ج7 ص111.

ص: 101

لا یخالف ذلک ما جاء أن الله خلق آدم من طین العزة من نور محمد صلی الله علیه وسلم، فهو صلی الله علیه وسلم الجنس العالی لجمیع الأجناس، والأب الأکبر لجمیع الموجودات والناس...»).

أسامة: (یظهر ان هذا القول لیس قول الحلبی وحده لأنه ینقل عن جماعة من أهل السنة ألیس کذلک؟).

فاطمة: (نعم أحسنتم فإنه یقول: «قال الشیخ علی الخواص...» ویقول أیضا: «وهذا هو المعنی بقول بعضهم...» مما یدل علی ان القائل بهذا القول جماعة من أهل السنة).

خالد: (أحسنتما الاستنتاج، وأزیدکم ان أهل السنة یقرون بأن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) حینما ولد وفی أثناء المخاض رأت أمه بأنها قد خرج منها نور أضاءت له قصور الشام(1)، وفی نص آخر أضاءت له قصور بصری(2)، کما واعترفت مصادرهم الروائیة أن آدم علیه السلام وحینما رأی ذریته فی عالم الذر رأی الأنبیاء علیهم السلام علیهم نورا(3)، وللمناوی کلام مهم فی هذا المجال، لأنه یعتقد بأن ذات النبی الأعظم کلها نور ظاهرا وباطنا، بل ان باستطاعة النبی الأعظم


1- الطبقات الکبری لابن سعد ج1 ص102 وما بعدها.
2- الجامع الصغیر لجلال الدین السیوطی ج1 ص67 الرقم 4359.
3- قال الوادعی فی (صحیح دلائل النبوة ص383) نقلا عن ابی هریرة عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم): (خلق الله آدم بیده , ونفخ فیه من روحه... وإذا آدم قد کتب له عمر ألف سنة , وإذا قوم علیهم النور فقال: یا رب من هؤلاء الذین علیهم النور؟ فقال: هؤلاء الأنبیاء والرسل الذین أرسل إلی عبادی , وإذا فیهم رجل هو أضوؤهم نورا , ولم یکتب له من العمر إلا أربعون سنة...).

ص: 102

أن یمنح هذا النور لمن یرید من الأشخاص، فقد قال فی شرحه لکتاب الجامع الصغیر ما نصه: «کانت ذاته الشریفة کلها نورا ظاهرا وباطنا، حتی أنه کان یمنح لمن استحقه من أصحابه، سأله الطفیل بن عمرو آیة لقومه وقال: اللهم نور له، فسطع له نور بین عینیه، فقال: أخاف أن یکون مثلة، فتحول إلی طرف سوطه، وکان یضیء فی اللیل المظلم، فسمی ذا النور، وأعطی قتادة بن النعمان لما صلی معه العشاء فی لیلة مظلمة ممطرة عرجونا وقال: انطلق به فإنه سیضیء له من بین یدیک عشرا ومن خلفک عشرا، فإذ دخلت بیتک فستری سوادا فاضربه لیخرج فإنه الشیطان، فکان کذلک، ومسح وجه رجل فما زال علی وجهه نور، ومسح وجه قتادة بن ملحان فکان لوجهه بریق، حتی کان ینظر فی وجهه کما ینظر فی المرآة...»(1)، وهذا یدل علی ان نورانیة النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بیته (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) قد بقیت ملازمة لهم حتی فی هذا العالم(2)، بل وان لهم القدرة علی منح هذه النورانیة لمن یشاءون ویرتضون).

ثم ختم خالد کلامه قائلا: (فلنؤجل الکلام إلی یوم الغد فالوقت قد أدرکنا، وها هو وقت الصلاة قد حان).

قام الجمیع وودع بعضهم بعضاً، فخرج خالد وفاطمة أولاً، ثم تبعهما أسامة ومحمد، فمشیا معاً عائدین کل إلی بیته فلما وصلا إلی مفترق الطریق ودع کل منهما صاحبه وتفرقا علی أمل اللقاء غداً إن شاء الله.


1- فیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی ج5 ص93.
2- روی ان السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) کانت تزهر وتشرق کلما وقفت علی محراب صلاتها، حتی یحس أهل المدینة بنور إشراقها وهو أحد أسباب تسمیتها بالزهراء.

ص: 103

الدلیل الثانی من أدلة تفضیلها علیها السلام

السیدة الزهراء حوراء إنسیة

اجتمع الأصحاب فی الیوم الثانی لإکمال ما بدأوه، وبعد إخراج الجمیع أوراقهم وجهاز التسجیل الذی حرص أسامة علی عدم نسیانه قال خالد: (قد وصل الدور إلیکِ یا فاطمة لتبینی ما سجّلتِهِ لنا من ملاحظات علی الروایة، فتفضلی وأسمعینا ما عندکِ).

فاطمة: (ان الروایة قد نصت علی ان السیدة الزهراء حوراء إنسیة، وهذه فضیلة لها علی سائر نساء العالمین من الأولین والآخرین، إذ لا توجد عندنا امرأة إلا وهی إنسیة، إلا السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها)، والتی صارت  ترکیبتها فی الخلق عبارة عن مزیج بین عالم الجنة وحورها وبین عالم الدنیا وإنسها، أو بعبارة ثانیة أصبحت (صلوات الله و سلامه علیها) موجوداً سماویاً أرضیاً فی الوقت نفسه(1)، وهی من هذه الناحیة أفضل حتی من الرجال بما فیهم الأنبیاء والأوصیاء، بل وأفضل من الملائکة لأنهم لم یخلقوا بهذه الکیفیة).


1- ویدل علیه قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): (ان فاطمة خلقت حوریة فی صورة إنسیة)، راجع البحار ج43 ص7.

ص: 104

معنی کون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) حوراء إنسیة

محمد: (أنا أستطیع أن أفهم معنی الإنسیة، ولکن هل لکم أن تخبرونی ما معنی الحور؟).

خالد: (الحور هن نساء الجنة واللاتی خلقن کما فی بعض الروایات من تربة الجنة النورانیة، واللاتی ذکرهن القرآن الکریم فی أکثر من آیة فی القرآن الکریم، کما فی قوله تعالی: «فِیهِنَّ خَیْرَاتٌ حِسَانٌ... حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِی الْخِیَامِ...لَمْ یَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ»(1)، أو قوله تعالی: «وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِینٌ * کَأَنَّهُنَّ بَیْضٌ مَکْنُونٌ»(2)).

فاطمة: (هذا الذی تفضل به خالی هو أحد الأقوال فی تفسیر معنی الحور، والتفسیر الآخر هو ان خلقها کان من مادة العالم السماوی، بینما بقیة نساء العالمین قد خلقوا من مادة العالم الأرضی، فمثلما ان نساء أهل الجنة قد خلقن من تراب الجنة فکذلک فاطمة قد خلقت من طینة مخزونة مکنونة من تحت العرش، کما فی بعض الروایات الصحیحة(3)، وإلا فمن الظلم والإجحاف ان نشبه السیدة


1- سورة الرحمن الآیة رقم 70 __ 74.
2- سورة الصافات الآیة رقم 48 __ 49.
3- قال الشیخ محمد تقی المجلسی فی کتابه «روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه ج1 ص222) (وفی القوی کالصحیح، عن محمد بن مروان عن أبی عبد الله علیه السلام قال: سمعته یقول: إن الله خلقنا من نور عظمته، ثمَّ صور خلقنا من طینة مخزونة مکنونة من تحت العرش، فأسکن ذلک النور فیه، فکنا نحن خلقا وبشرا نورانیین، لم یجعل لأحد فی مثل الذی خلقنا منه نصیبا...).

ص: 105

الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بالحور العین، لأنها أفضل منهن قطعا).

أسامة: (إذا کان معنی حوراء هو لیس نفس معنی الحور العین فی الجنة فلماذا شبهت بهن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)).

خالد: (لعل واحداً من أسباب تشبیهها (صلوات الله و سلامه علیها) بالحور العین هو لتقریب المعنی إلی السامعین، فالمسلمون قدیماً وحدیثاً یمکن لهم ان یتخیّلوا ویتصوروا الحور العین فی أذهانهم، فتشبیه السیدة الزهراء بهن لتقریب وتشبیه المعقول بالمحسوس، إضافة إلی ان الحور العین فیهن خاصیة أخری وهی مع کونها من عالم الجنة إلا انه یمکن لهن ان یتفاعلن ویتعایشن مع بقیة بنی آدم، فالحوریة مع کونها حوریة إلا انه یمکن للمؤمن من بنی آدم التعایش معها کالحدیث معها والأکل معها والزواج بها شأنهن فی ذلک شأن الإنسیات، فلا یمنع کونهن حور عین وقد خلقن من عالم هو غیر عالمنا من التفاعل والانفعال مع عالمنا، وکذلک هی السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، فمع کونها مخلوقة من طینة خاصة إلا أنها کسائر الإنسیات تتفاعل وتنفعل مع محیطها، فتجوع وتشبع، وتفرح وتحزن، وتتزوج وتنجب، شأنها فی ذلک شأن جمیع البشر، فلا یخرجها کونها حوریة عن حد البشریة).

ألیس من الأفضل تسمیتها بغیر الحوراء؟

قالت فاطمة: (ألم یکن من الأفضل وصف السیدة الزهراء بوصف غیر وصف الحوراء ما دام ان المقصود منه هو لیس حور الجنة؟).

ص: 106

خالد: (لو عبر النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) بأی لفظ آخر لما أمکن للمسلمین فهمه وتصوره، فی ذلک العصر، لأنهم کانوا یعیشون البساطة فی التفکیر والتصورات، فلو قال لهم ان السیدة الزهراء موجود سماوی، أو قال لهم انها  موجود «میتافیزیقی»، أو انها موجود مجرد، لما فهم کلامه أحد منهم، وبما ان الأنبیاء وأوصیاءهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) أمروا أن یکلموا الناس علی قدر عقولهم، فکان یجب علیه (صلی الله علیه و آله و سلم) تشبیه هذه السیدة الطاهرة بموجود یعرفونه ویستطیعون هضمه وفهمه فلذلک شبهها بالحور).

کیف یمکن أن تکون السیدة الزهراء أسوة وقدوة وهی حوریة؟

أسامة: (کیف یمکن أن تکون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أسوة وقدوة لنا وهی لیست من جنسنا ولیس لنا إمکاناتها الروحیة والنورانیة؟ فالقدوة لا یمکن أن یقتدی به ما لم یکن من عالمنا ویحمل نفس إمکانیاتنا البدنیة والروحیة).

خالد: (للجواب عن هذا الذی تفضلت به لابد من معرفة عدة أمور، الأمر الأول هو اننا لا نقول: إن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لیست من جنسنا، فهی بشر مثلنا، تعیش کما نعیش، وتأکل کما نأکل، تفرح وتحزن، وتنشط وتتعب، وتموت وتحیا، فهی قدوة لأنها من جنسنا.

الأمر الثانی: من قال إن القدوة یجب أن یکون من مستوانا حتی یمکن الاقتداء به؟ فهذا النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) فوق مستوی جمیع البشر روحاً وعلماً واتصالاً بالله سبحانه ومع ذلک أمرنا القرآن بأن نتخذه قدوة وأسوة فی قوله سبحانه: « لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کَانَ یَرْجُو اللَّهَ وَالْیَوْمَ

ص: 107

الآخر وَذَکَرَ اللَّهَ کَثِیرًا»(1)، فالاقتداء یکون من جهة إمکانه لا مطلقا، فالواجب علینا کمکلفین هو أن نوقع أفعالنا العبادیة الواجبة والمندوبة کما أوقعه (صلی الله علیه و آله و سلم)(2)، ونقول بقوله فی عقائدنا ومبادئنا الشرعیة، أما الأمور التی یختص بها فلا دلیل شرعیّاً یوجب الاقتداء به فیها(3)، وذلک لعدم استطاعتنا لذلک.

وبعبارة أخری: للأنبیاء والأوصیاء والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) توجد جنبتان:

1:جنبة بشریة یتعایشون بها مع الناس، فبها یأکلون ویشربون ویتزوجون ویؤدون تکالیفهم العبادیة الواجبة منها والمستحبة وغیر ذلک من الأفعال المتعلقة بهذه الجنبة.

2: وجنبة إلهیة یستطیعون من خلالها أن یتصلوا بالله سبحانه ویطلعوا علی الغیب وتکشف لهم به الحجب.

والذی أمرنا بالاقتداء به هو الجنبة البشریة فیهم، وان نوقع أعمالنا وعباداتنا الواجبة منها والمستحبة علی وفق ما أوقعوه هم، أما الجنبة الغیبیة والإلهیة فیهم فلا یوجد دلیل یوجب علینا التأسی بهم فیها، فلا یوجد دلیل مثلا یقول لنا یجب أن


1- سورة الأحزاب الآیة رقم 21.
2- لقد جاء فی شرح (إیضاح الفوائد) لابن العلامة ج1 ص78: (معنی التأسی إیقاع الواجب کما أوقعه علیه السلام والندب إذا فعله فعله کفعله).
3- قال العلامة الحلی فی منتهی المطلب ج6 ص7: (إذا فعل رسول اللَّه صلَّی اللَّه علیه وآله فعلا علی جهة الوجوب وجب علینا اتّباعه، فیه إلَّا أن یعلم تخصیصه به، لقوله تعالی: « لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کَانَ یَرْجُو اللَّهَ وَالْیَوْمَ الآخر»).

ص: 108

یوحی لنا کما یوحی إلی النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو أن نعلم الغیب مثلما یعلم، لأن هذه من مختصاته التی لا طاقة للبشر علیها ولا سبیل لهم لاستحصالها.

  وللسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أیضا جنبتان جنبة إنسیة یمکن التأسی بها واتخاذها قدوة، ففی عمل البیت وفی عبادتها وفی تعاملها فی البیت وداخل المجتمع وفی جهادها ودفاعها وغیر ذلک، کل هذه الأمور کانت تمارسها بعنوانها إنسیة، فهی إذن قدوة فیها، لأنها معصومة فی کل ممارساتها الإنسیة.

وأما بعنوان کونها حوریة نورانیة لها قابلیة الاتصال بالغیب ورؤیة الملائکة والتحدث إلیهم وغیر ذلک فلیس من الواجب ولا الضروری الاقتداء بها؛ لأن ذلک لیس فی طاقتنا ولا باستطاعتنا).

  وقالت فاطمة: (أنا أری أن التأسی بها وهی حوراء إنسیة أبلغ مما لو کانت إنسیة فقط، لأن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وبالرغم من کونها خلقت من ثمار الجنة، وبالرغم من منزلتها الغیبیة واتصالها بالله سبحانه، وبالرغم من أن الوجود والملائکة مسخرون لها وفی خدمتها وطوع إشارتها إلا أننا لم نسمع یوماً ان السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) تکبرت أو أصابها العجب والغرور، فقد کانت قمة فی تواضعها وبساطتها، فقد کانت لها عباءة قدیمة قد خیطت اثنی عشر مکانا بسعف النخل(1)، وطحنت الحبوب بالرحی حتی مجلت(2) یداها، واستقت بالقربة حتی أثرت فی نحرها وصدرها، وکنست البیت حتی اغبرت ثیابها، وأوقدت تحت


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج8 ص303.
2- مجلت الید: أی تقرحت وتجمع فیها بین الجلد واللحم ماء بسبب العمل.

ص: 109

القدر حتی دکنت ثیابها(1)، فإذا کانت الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) تفعل کل هذا وهی صاحبة المقام السامی العالی الذی یتمنی جبرائیل أن یخدمها، فکیف حال من هو دونها فی الفضل والمنزلة من سائر نساء المسلمین؟! فان التواضع أحق بهن وأولی).

فأیدها الجمیع قائلین لها: (أحسنتِ، التفاتة جیدة).


1- دکن الثوب: اتسخ فتغیر لونه إلی الغبرة.

ص: 110

الدلیل الثالث من أدلة تفضیلها علیها السلام

سکت الجمیع برهة من الزمن، فعلم خالد أن النقاش فی هذه النقطة قد أخذ استحقاقه وان لا مزید من الأسئلة حولها، فقرر أن ینتقل إلی نقطة أخری جدیدة فقال: (وفی الروایة دلیل آخر لفضلها علی سائر نساء ورجال العالمین حتی الأنبیاء علیهم السلام والملائکة، فالروایة تقول ان الله سبحانه خلقها من نوره قبل ان یخلق آدم علیه السلام، وانه سبحانه أسکن نورها فی حقة وهو الصندوق الذی توضع فیه الجواهر والذهب وجعل طعامها التسبیح والتهلیل والتحمید، وکل هذه الأمور مما انفردت به السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) ولم یشارکها فیها أحد من الأنبیاء والملائکة والناس أجمعین، طبعا باستثناء النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام أمیر المؤمنین والحسن والحسین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، لان أنوارهم کانت متقارنة فی الإیجاد والوجود).

أسامة: (کیف یضع الله سبحانه نورها فی حقة __ صندوق __ ونحن قلنا ان نورها قد خلق قبل عالم المادة والزمان والمکان، أولیس الصندوق مکانا مادیا؟).

فاطمة: (جواب هذا الإشکال قد تبین سابقا، لأننا قلنا سابقا ان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) کان یکلم الناس علی قدر عقولهم، وذکر الصندوق هنا هو لتقریب

ص: 111

المعنی إلی أذهان الناس، فالروایة ترید ان تقول ان السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) جوهرة هذا العالم، ومثلما ان أحدنا یضع أشیاءه الثمینة والغالیة فی صندوق لحمایتها وللحفاظ علیها کذلک وضعها الله سبحانه فی مکان یتناسب مع أهمیتها وعظمتها، فالتعبیر مجازی یراد منه تنبیه السامعین إلی القدر العظیم لهذه السیدة العظیمة).

خالد: (صدقتِ یا فاطمة، فکثیر من الصحابة الذین عاشوا مع النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) کانوا لا یملکون سعة الأفق والأنس بما هو غیر مادی، ألا تراهم یفسرون کل جملة من کلام النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) بتفسیر مادی بسیط وساذج، فالنبی (صلی الله علیه و آله و سلم) من أول الروایة یحاول إفهامهم بان وجود السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) فی تلک المرحلة لم یکن وجودا مادیا، وانها قد خلقت قبل عالم المادة، ولکنهم مع ذلک یقولون له: «یا نبی الله فما کان طعامها؟» فهم وبسبب انشدادهم لعالم المادة لا یستطیعون ان یتصوروا موجوداً لا یأکل ولا یشرب، أو موجوداً یستغنی عن المکان والزمان، ولذلک کان النبی الأعظم یجیبهم علی قدر عقولهم، ویقرب لهم الفکرة عن طریق التشبیه تارة والمجاز تارة أخری).

ص: 112

الدلیل الرابع من أدلة تفضیلها علیها السلام

اشارة

خالد: (هل بقی شیء تریدون إضافته قبل أن ننهی الکلام عن هذه الروایة؟).

فاطمة: (نعم، فإن الروایة فیها دلیل آخر علی أفضلیة السیدة الزهراء علی سائر الخلق أجمعین، لان الروایة تصرح بأن السیدة الزهراء لم تستقر فی صلب إنسان آخر غیر نبینا الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، حتی فی صلب آدم وغیره من الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وان نطفتها المبارکة قد خلقت من أقدس مکان قد خلقه الله سبحانه وهو الجنة، وانها نزلت من الجنة إلی صلب النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) مباشرة، وهذه فضیلة لا یشارکها فیها أحد من العالمین ولا حتی الأنبیاء والمرسلون (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فکلهم قد جری فی صلب الآباء والأجداد إلا فاطمة فإنها لم تجر إلا فی صلب أعظم موجود عرفته البشریة).

خالد: (صدقت، وقد کان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) کلما اشتاق إلی الجنة قبل فاطمة وشمها، وهذا یدل علی ان رائحة الجنة ورائحة تفاح الجنة قد بقیت

ص: 113

ملازمة للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) حتی بعد ولادتها ونشوئها وبلوغها مبلغ النساء، وهذا یدل علی ان هذه الرائحة الطیبة التی یسمیها النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) برائحة الجنة کانت من ذاتیات السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) ولیست رائحة عرضیة).

محمد: (قولنا بأن رائحة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) رائحة الجنة وانها من ذاتیاتها ألا یعدّ هذا غلوا ومبالغة؟ فهل یعقل أن یوجد إنسان یعطی رائحة طیبة بینما الناس جمیعهم یعطون روائح کریهة حینما تتعرق أجسامهم وتتسخ أبدانهم، ألیست السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بشرا کسائر البشر؟).

فقال خالد: (لیس کل البشر سواسیة فی هذه المسألة، وقد ثبت بالدلیل الروائی عند الشیعة ومخالفیهم ان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) کانت رائحة بدنه الشریف لا تشبه رائحة بقیة البشر، وکانت أطیب من رائحة المسک والعنبر(1)، وأطیب من أجمل أنواع الطیب(2)، وکان (صلی الله علیه و آله و سلم) إذا مر فی طریق من طرق المدینة وجدوا منه رائحة الطیب، وقالوا: مر رسول الله فی هذا الطریق(3)، وکانت بعض النساء المقربات إلی النبی الأعظم یجمعن عرق بدنه الشریف فی زجاجة


1- روی مسلم فی صحیحه (ج7 ص81) وغیره عن أنس بن مالک انه قال: (کان رسول الله صلی الله علیه وسلم أزهر اللون کأن عرقه اللؤلؤ إذا مشی تکفأ ولا مسست دیباجة ولا حریرة ألین من کف رسول الله صلی الله علیه وسلم ولا شممت مسکة ولا عنبرة أطیب من رائحة رسول الله صلی الله علیه وسلم).
2- إمتاع الأسماع للمقریزی ج2 ص151.
3- البدایة والنهایة لابن کثیر ج6 ص30.

ص: 114

لیستخدمنه کطیب یعطرن به أبدانهن(1) ویداوین به صبیانهن(2)، والزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بضعة من النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ولیس من العجیب ان یورثها صفاته، وتکون رائحتها وطیبها کطیب النبی ورائحته، هذا إذا ترکنا الأمور بمجراها الطبیعی، وإلا فان الدلیل قد دل علی ان للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) طیباً خاصاً وعطراً مختلفاً تتمیز به حتی عن أبیها (صلی الله علیه و آله و سلم) مما یدعوه إلی شم طیبها کلما اشتاق إلی رائحة الجنة).

سکت خالد ونظر إلی ساعته وقال: (یجب علی المغادرة لشراء الدواء من الصیدلیة، وسنلتقی غدا للشروع فی روایة جدیدة إن شاء الله سبحانه).

أسامة: (ولکن یوجد فی الروایة دلیلان یمکن استخراجهما أحدهما یتعلق باسمها (صلوات الله و سلامه علیها) والآخر یتعلق بنصرتها لشیعتها یوم القیامة).

قال خالد: (نعم هذا صحیح، ولکننا سنؤجل ذکرهما إلی وقت آخر، لأننا


1- روی مسلم فی صحیحه (ج7 ص81) عن أنس بن مالک انه قال: (عن أنس بن مالک قال دخل علینا النبی صلی الله علیه وسلم فقال عندنا فعرق وجاءت أمی بقارورة فجعلت تسلت العرق فیها فاستیقظ النبی صلی الله علیه وسلم فقال یا أم سلیم ما هذا الذی تصنعین قالت هذا عرقک نجعله فی طیبنا وهو من أطیب الطیب).
2- وروی مسلم فی صحیحه أیضا (ج7 ص82) (عن أنس بن مالک قال کان النبی صلی الله علیه وسلم یدخل بیت أم سلیم فینام علی فراشها ولیست فیه قال فجاء ذات یوم فنام علی فراشها فأتت فقیل لها هذا النبی صلی الله علیه وسلم نام فی بیتک علی فراشک قال فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه علی قطعة أدیم علی الفراش ففتحت عتیدتها فجعلت تنشف ذلک العرق فتعصره فی قواریرها ففزع النبی صلی الله علیه وسلم فقال ما تصنعین یا أم سلیم؟ فقالت: یا رسول الله نرجو برکته لصبیاننا قال أصبت).

ص: 115

سنتناول أسماءها (صلوات الله و سلامه علیها) ومنزلتها یوم القیامة فی بحث خاص فلا تستعجل) قام الجمیع وودع بعضهم بعضا علی أمل اللقاء غداً.

خلق فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) من ثمار الجنة

اجتمع الجمیع وجلسوا جلستهم المعتادة وبعد البسملة وحمد الله سبحانه والصلاة علی النبی الأعظم وآله ولعن أعدائهم قال خالد: (سنستعرض الیوم روایة ثانیة وسنحاول من خلالها إثبات أفضلیة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی الصحابة والملائکة والأنبیاء علیهم السلام، وهی مرویة فی کتاب الأمالی(1) للشیخ الصدوق (قدس الله روحه)، والروایة کما رواها الشیخ الصدوق طویلة نختار منها ما یتعلق ببحثنا: «حدثنا أحمد بن زیاد بن جعفر الهمدانی رحمه الله، قال: حدثنا علی بن إبراهیم، عن أبیه إبراهیم بن هاشم، عن عبد السلام بن صالح الهروی، قال: قلت لعلی بن موسی الرضا علیه السلام: ... وقال النبی (صلی الله علیه و آله و سلم): لما عرج بی إلی السماء أخذ بیدی جبرئیل علیه السلام فأدخلنی الجنة، فناولنی من رطبها فأکلته، فتحول ذلک نطفة فی صلبی، فلما هبطت إلی الأرض واقعت خدیجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسیة، فکلما اشتقت إلی رائحة الجنة شممت رائحة ابنتی فاطمة»).

إثبات صحة سند الروایة

اشارة

التفت خالد إلی الجمیع وقال: (لقد کلفت فاطمة فی البحث عن إسناد هذه الروایة تسهیلا علیکم واختصارا للوقت، وستتلو علینا ما توصلت إلیه).


1- الأمالی للشیخ الصدوق ص545.

ص: 116

أخرجت فاطمة من حقیبتها مجموعة أوراق مکتوبة وجعلت ترتبها ثم قالت مبتسمة: (ینبغی الإشارة أولا إلی ان الروایة التی تلاها خالی هی من الروایات الصحیحة سندا، وقد تتبعت رجالها فوجدتهم کالآتی:

1: أحمد بن زیاد بن جعفر الهمدانی أو الهمذانی

قال عنه العلامة الحلی فی کتابه «خلاصة الأقوال»:«أحمد بن زیاد بن جعفر الهمذانی __ بالذال المعجمة __ کان رجلا ثقة دینا فاضلا رضی الله عنه»(1).

وقد وثقه ابن داود أیضا فی رجاله(2).

وقال عنه السید الخوئی فی رجاله: «أحمد بن زیاد الهمدانی من مشایخ الصدوق _ قدس سره _ روی عن علی بن إبراهیم، وروی عنه الصدوق، وترضی علیه فی المشیخة فی عدة موارد... وقال الصدوق: وکان رجلا، ثقة، دینا، فاضلا، رحمة الله علیه ورضوانه»(3).

2: علی بن إبراهیم

وهو ثقة أیضا، قال عنه الشیخ النجاشی فی رجاله: «علی بن إبراهیم بن هاشم أبو الحسن القمی، ثقة فی الحدیث، ثبت، معتمد، صحیح المذهب، سمع فأکثر وصنف کتبا وأضر(4) فی وسط عمره»(5). وقد وثقه العلامة الحلی فی


1- خلاصة الأقوال للعلامة الحلی ص70.
2- رجال ابن داود الحلی ص38.
3- معجم رجال الحدیث للسید الخوئی ج2 ص128.
4- اضر بمعنی أصبح ضریرا، أی فقد حاسة البصر فی أواسط عمره.
5- رجال النجاشی ص260.

ص: 117

خلاصة الأقوال ونقل کلام النجاشی نفسه(1)، وکذا فعل ابن داود الحلی فی رجاله(2).

3: إبراهیم بن هاشم

قال عنه الشیخ النجاشی: «إبراهیم بن هاشم أبو إسحاق القمی أصله کوفی، انتقل إلی قم... وأصحابنا یقولون: أول من نشر حدیث الکوفیین بقم هو»(3)، وذکر الشیخ الطوسی فی کتابه «الفهرست» نفس کلام النجاشی تقریبا(4).

وقال المحقق الداماد فی «الرواشح السماویة»: «الأشهر الذی علیه الأکثر عدُّ الحدیث من جِهة إبراهیم بن هاشم أبی إسحاق القمّی فی الطریق حسناً، ولکن فی أعلی درجات الحُسن، التالیة لدرجة الصحّة ؛ لعدم التنصیص علیه بالتوثیق.

والصحیح الصریح عندی أنّ الطریق من جِهته صحیح، فأمره أجلّ، وحاله أعظم من أن یَتعدّل ویتوثّق بمعدِّل وموثِّق غیره بل غیره یتعدّل ویتوثّق بتعدیله وتوثیقه إیّاه، کیف وأعاظم أشیاخنا الفِخام __ کرئیس المحدّثین والصدوق والمفید وشیخ الطائفة ونظرائهم، ومَن فی طبقتهم ودرجتهم ورتبتهم ومرتبتهم من الأقدمین والأحدثین __ شأنهم أجلّ وخَطْبهم أکبر من أن یُظنّ بأحد منهم أنّه قد حاج إلی تنصیصِ ناصٍّ وتوثیق موثّق، وهو شیخ الشیوخ، وقطب الأشیاخ، ووتد


1- خلاصة الأقوال للعلامة الحلی ص187.
2- رجال ابن داود الحلی ص135.
3- رجال النجاشی ص16.
4- الفهرست للشیخ الطوسی ص36.

ص: 118

الأوتاد، وسند الإسناد، فهو أحقّ وأجدر بأن یستغنی عن ذلک، ولا یَحوجَ إلی مثله، علی أنّ مدحهم إیّاه بأنّه أوّل من نشر حدیث الکوفیّین بقمّ، و هو تلمیذ یونس بن عبد الرحمن لفظة شاملة، وکلمة جامعة، وکلّ الصید فی جوف الفَرا... وبالجملة: فمسلکی ومذهبی جعْل الطریق من جِهته صحیحاً»(1).

وقد استدل السید الخوئی فی رجاله علی وثاقته بثلاثة أدلة فقال: «لا ینبغی الشک فی وثاقة إبراهیم بن هاشم، ویدل علی ذلک عدة أمور:

1: أنه روی عنه ابنه علی فی تفسیره کثیراً، وقد التزم فی أول کتابه بأن ما یذکره فیه قد انتهی إلیه بواسطة الثقات....

2: أن السید ابن طاوس ادعی الاتفاق علی وثاقته، حیث قال عند ذکره روایة عن أمالی الصدوق فی سندها إبراهیم بن هاشم: «ورواة الحدیث ثقات بالاتفاق»(2).

4: عبد السلام بن صالح الهروی

قال الشیخ النجاشی فی رجاله: « عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروی روی عن الرضا علیه السلام، ثقة، صحیح الحدیث»(3)، وکذا قال العلامة الحلی وغیره(4).


1- الرواشح السماویة للمحقق الداماد ص82.
2- فلاح السائل للسید ابن طاوس، الفصل التاسع عشر، ص158.
3- رجال النجاشی ص245.
4- خلاصة الأقوال للمحقق الحلی ص209.

ص: 119

وقال السید الخوئی فی معجم رجاله: «...إن عبد السلام بن صالح أبا الصلت لا إشکال فی وثاقته، ولعلها من المتسالم علیه بین المؤالف والمخالف، ولم یضعفه إلا الشاذ من العامة کالجعفی والعقیلی...»(1).

سکتت فاطمة، ثم لملمت أوراقها وقالت: (هذا کل ما عندی، ومنه یثبت ان الروایة صحیحة أو هی حسنة فی أعلی درجات الحسن).


1- معجم رجال الحدیث للسید الخوئی ج11 ص19.

ص: 120

الدلیل الخامس من أدلة تفضیلها علیها السلام

التفت خالد إلی الجالسین وقال: (هل لکم أن تخبرونا عن دلالة هذه الروایة علی أفضلیة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی الصحابة وعلی الملائکة والأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)؟).

فأجاب أسامة: (أعتقد بان الدلیل واضح، فالروایة تصرح بأن النطفة التی خلقت منها السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) تکونت من ثمار الجنة، وهذه فضیلة لا یشارکها فیها أحد من العالمین).

ص: 121

الدلیل السادس من أدلة تفضیلها علیها السلام

اشارة

خالد: (أحسنت، وهل توجد فضیلة أخری نستطیع أن نستنتجها من هذه الروایة؟).

فاطمة: (ان رائحتها رائحة الجنة، ولیس یشارکها أحد فی هذه الفضیلة، وأنا أری ان الروایة دقیقة فی تعبیرها فهی تقول «فکلما اشتقت إلی رائحة الجنة شممت رائحة ابنتی فاطمة» ففیها إشارة إلی أن السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) تجمع جمیع روائح الجنة وعطرها، لان فی الجنة روائح متعددة ففیها المسک وفیها العنبر وفیها الورد وفیها ما لا یعلمه إلا الله سبحانه، والنبی لم یقل ان رائحة فاطمة تذکرنی برائحة مسک الجنة أو عنبرها، وإنما قال برائحة الجنة، أی إنّ عطرها (صلوات الله و سلامه علیها) ورائحتها مزیج من کل روائح الجنة وعطرها، وهو امتیاز امتازت به الزهراء علی جمیع الملائکة والأنبیاء وحتی الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)).

قال خالد: (أحسنتم التفاتة جمیلة).

وقال محمد: (وأیضا یوجد فی الروایة تأکید وتصدیق لما ذکرناه سابقا من أدلة ککونها حوراء إنسیة وکونها نزلت فی صلب النبی مباشرة من دون أن تکون فی صلب أحد غیره آدم فما دون).

ص: 122

متی ولدت السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) قبل البعثة أم بعدها؟

خالد: (لقد احتوت هذه الروایة الشریفة علی عدة نقاط جدیرة بالبحث، منها ان الروایة تنص وبصراحة علی ان مولد السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) قد کان بعد ان بعث الله سبحانه نبیه (صلی الله علیه و آله و سلم) بالرسالة، وبالتحدید بعد الإسراء والمعراج).

محمد: (وهل یوجد اختلاف فی زمان ولادتها؟).

خالد: (نعم، فقد اختلف الشیعة والسنة فی زمن ولادتها (صلوات الله و سلامه علیها)، فالشیعة قد اجتمعت کلمتهم علی ان ولادة السیدة الزهراء وقعت بعد البعثة، أما أهل السنة فقد خالفوهم، فمنهم من قال انها ولدت سنة إحدی وأربعین من مولد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)(1)، وبعضهم قال انها (صلوات الله و سلامه علیها) ولدت والنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ابن خمس وثلاثین سنة، وبعضهم قال بان ولادتها کانت قبل البعثة بقلیل نحو سنة أو أکثر(2).


1- روی ذلک الحاکم النیسابوری (المستدرک ج3 ص160) قال: (خبرنا أبو إسحاق إبراهیم بن محمد بن یحیی المزکی وأبو الحسین بن یعقوب الحافظ (قالا ) ثنا محمد بن إسحاق بن إبراهیم قال سمعت عبد الله بن محمد بن سلیمان بن جعفر الهاشمی یذکر عن أبیه عن جده قال ولدت فاطمة رضی الله عنها سنة إحدی وأربعین من مولد رسول الله صلی الله علیه وآله ).
2- قال ابن حجر فی الإصابة ج8 ص263: (واختلف فی سنة مولدها فروی الواقدی عن طریق أبی جعفر الباقر قال: قال العباس ولدت فاطمة والکعبة تبنی والنبی صلی الله علیه وسلم ابن خمس وثلاثین سنة وبهذا جزم المدائنی ونقل أبو عمر عن عبید الله بن محمد بن سلیمان بن جعفر الهاشمی أنها ولدت سنة إحدی وأربعین من مولد النبی صلی الله علیه وسلم وکان مولدها قبل البعثة بقلیل نحو سنة أو أکثر وهی أسن من عائشة بنحو خمس سنین).

ص: 123

ولا اعتبار بآراء المخالفین وأقوالهم ما دامت کلمة أهل البیت علیهم السلام وشیعتهم قد اتفقت علی ان ولادتها کانت بعد البعثة، وما دامت هنالک روایات صحیحة صریحة ذکرت بأن ولادتها (صلوات الله و سلامه علیها) قد کانت بعد البعثة بخمس سنین(1)).

فقال أسامة: (وماذا یمکن أن یؤثر الاختلاف فی وقت ولادتها (صلوات الله و سلامه علیها)؟ فما الفرق بین أن تکون ولادتها بعد البعثة أو قبلها؟).

فقال خالد: (الفرق واضح یا أخی، فلو قلنا بأن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) مولودة قبل البعثة فسوف نکذب جمیع الأحادیث التی تقول بأنها خلقت من ثمر الجنة، وسنضرب عرض الحائط جمیع الروایات التی تقول بأن النبی أکل عند معراجه من رطب الجنة أو تفاحها فخلقت نطفتها منها، لان المعراج وقع بعد البعثة، وأهل السنة حینما یقولون بولادتها (صلوات الله و سلامه علیها) قبل المبعث النبوی الشریف إنما یریدون ان یحققوا هذا الغرض).

فاطمة: (ولماذا لا یرید أهل السنة الاعتراف بأن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) قد خلقت من ثمار الجنة؟ فما الضرر فی مثل هذا القول علیهم؟).

خالد: (ان لهذه المسألة جذوراً مذهبیة قدیمة جدا، فقد احتدم النزاع قدیما


1- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج1 ص457 عن: (عبد الله بن جعفر وسعد بن عبد الله جمیعا، عن إبراهیم بن مهزیار، عن أخیه علی بن مهزیار، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن حبیب السجستانی قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: ولدت فاطمة بنت محمد صلی الله علیه وآله بعد مبعث رسول الله بخمس سنین وتوفیت ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون یوما).

ص: 124

وما زال إلی یومنا هذا حول من هو أفضل الرجال بعد النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، ومن هی أفضل النساء بعده (صلی الله علیه و آله و سلم).

فاجتمعت کلمة أتباع أهل البیت علیهم السلام علی أن أفضل الرجال بعد النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) هو الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (صلوات الله و سلامه علیه)، وان أفضل النساء هی السیدة الزهراء فاطمة بن محمد (صلوات الله و سلامه علیها).

أما أهل السنة فقد اجتمعت کلمتهم تقریبا علی ان أفضل الرجال هو أبو بکر، وذهب أکثرهم إلی ان زوجات النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) هن أفضل من جمیع نساء الأمة، وان عائشة هی أفضل نساء النبی (صلی الله علیه و آله و سلم)، واستثنوا من ذلک تفضیل السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وبقیة بنات النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) من حیث النسب، فقالوا انهن أفضل من جهة النسب، أما من جهة العلم واحتیاج الأمة إلیها فعائشة هی الأفضل بزعمهم(1).


1- قال ابن القیم الجوزیة فی کتابه (بدائع الفوائد ج3 ص682) (فائدة التفضیل بین عائشة وفاطمة: الخلاف فی کون عائشة أفضل من فاطمة أو فاطمة أفضل إذا حرر محل التفضیل صار وفاقا فالتفضیل بدون التفصیل لا یستقیم فإن أرید بالفضل کثرة الثواب عند الله عز و جل فذلک أمر لا یطلع علیه إلا بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارح  وکم من عاملین أحدهما أکثر عملا بجوارحه والآخر أرفع درجة منه فی الجنة. وإن أرید بالتفضیل التفضل بالعلم فلا ریب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة وأدت إلی الأمة من العلم ما لم یؤد غیرها واحتاج إلیها خاص الأمة وعامتها  وإن أرید بالتفضیل شرف الأصل وجلالة النسب فلا ریب أن فاطمة أفضل فإنها بضعة من النبی وذلک اختصاص لم یشرکها فیه غیر). وقال المتعصب ابن کثیر فی کتابه (البدایة والنهایة ج 3  ص 159) (... فإنه لم یکن فی الأمم مثل عائشة فی حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها... وروت بعده عنه علیه السلام علما جما کثیرا طیبا مبارکا فیه حتی قد ذکر کثیر من الناس الحدیث المشهور «خذوا شطر دینکم عن الحمیراء»). أقول: وقد جمعت فی کتابی (فضائل أهل البیت بین تحریف المدونین وتناقض مناهج المحدثین) الأقوال فی تفضیل عائشة علی السیدة خدیجة وفاطمة صلوات الله وسلامه علیهما ودحضتها بالدلیل والبرهان فمن أحب التفصیل فلیرجع الحدیث الثالث من الفصل الرابع من الکتاب.

ص: 125

وقد حاول علماء أهل السنة ومحدثوهم تکذیب أو تحریف کل ما من شأنه أن یشیر إلی أفضلیة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی عائشة، وتقویة کل ما من شانه أن یدل علی أفضلیة عائشة علی غیرها من النساء وبالخصوص السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، حتی وان کان الدلیل واهیا سندا أو متنا کحدیث (الثرید) المروی فی فضائلها، ولأجل هذه العلة حاولوا تکذیب الأحادیث التی صرحت بأن السیدة الزهراء قد خلقت من ثمار الجنة؛ لان فی إثبات هذه الفضیلة دلیلاً قاطعاً علی أفضلیتها (صلوات الله و سلامه علیها) علی عائشة وعلی سائر نساء أهل الدنیا، وهذا ما لم تکن تستسیغه نفوسهم).

سکت خالد وتصفح وجوه البقیة، فابتسم وقال: (أری اننا استوفینا الکلام حول هذه النقطة فهل توجد عندکم نقاط أخری ترونها مناسبة للطرح والنقاش؟).

أثر الطعام علی تکوین النطفة وصلاحها أو فسادها

أسامة: (الروایة تصرح بأن الرطب الذی أکله النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) تحول إلی نطفة فی صلبه، وان السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) صارت حوراء إنسیة نتیجة هذا التحول، وبعبارة أخری ان أحد أسباب عظمة السیدة الزهراء هو تکون نطفتها من هذه الثمرة المقدسة، وهذا یعنی ان الغذاء الطاهر المقدس یتحول إلی

ص: 126

نطفة طاهرة ومقدسة، وبعکسه الغذاء الحرام أو غیر الطاهر فانه یتحول إلی نطفة غیر طاهرة، فهل تؤیدون ما استنتجته من الروایة أم لا؟).

فاطمة: (أنا اتفق معکم فی هذا الرأی، فقد درسنا فی البحوث الأکادیمیة أن النطفة هی فی حقیقتها خلاصة الغذاء الذی یأکله الإنسان، ومن الثابت أن لکل غذاء خاصیة وأثراً خاصاً به ؛ فتتشکل النطفة من تشکیل الغذاء وتأثیره علیها أشد من تأثیر الطعام علی الإنسان إذا بلغ إنساناً سویاً(1)، ولهذا فإن قسطاً کبیراً من النجاح الباهر الذی أحرزه بعض العظماء فی العالم یرجع إلی طهارة المولد، واهم أسباب الطهارة هی طهارة الغذاء الذی خلق منه ذلک المولود، وکذلک الانتکاسات التی تحدث لبعض الأفراد فانها ترجع إلی انحرافات الدور الجنینی(2)).

خالد: (الدین الإسلامی أشار إلی هذه الحقیقة قبل العلوم الأکادیمیة، وتوجد عندنا نصوص روائیة کثیرة تصرح بتأثیر الطعام علی النطفة وعلی الجنین، فقد ورد الاستحباب بإطعام المرأة الحامل السفرجل لأنه یؤثر علی جمال المولود(3).


1- راجع کتاب عبقریة مبکرة لأطفالنا للمؤلف توفیق بوخضر ص28، الناشر مؤسسة الفکر الإسلامی __ هولندا، الطبعة الأولی 1423 ه_ __ 2002 م.
2- راجع کتاب الطفل بین الوراثة والتربیة لمحمد تقی فلسفی ج1 ص90، بتصرف بسیط.
3- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج6 ص22 عن: (محمد بن یحیی  عن سلمة بن الخطاب  عن عثمان بن عبد الرحمن، عن شرحبیل بن مسلم أنه قال  فی المرأة الحامل تأکل السفرجل فإن الولد یکون أطیب ریحا وأصفی لونا). وعن محمد بن یحیی، عن علی بن الحسن التیملی، عن الحسین بن هاشم، عن أبی أیوب الخزاز، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله علیه السلام ونظر إلی غلام جمیل: ینبغی أن یکون أبو هذا الغلام آکل السفرجل).

ص: 127

وکذلک ورد الاستحباب فی إطعام المرأة النفساء للرطب والتمر البرنی لأنه یجعل من المولود حلیما وذکیا(1).

ولمن یرید ان یخرج ولده شجاعا شدید القلب شدید الذکاء فعلیه أن یطعم زوجته النفساء اللبان(2).


1- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج6 ص22 عن: (...زرارة، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام: خیر تمورکم البرنی، فأطعموه نساءکم فی نفاسهن تخرج أولادکم زکیا حلیما). وعن (... علی بن أسباط، عن عمه یعقوب بن سالم رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: لیکن أول ما تأکل النفساء الرطب فإن الله تعالی قال لمریم: " وهزی إلیک بجذع النخلة تساقط علیک رطبا جنیا " قیل: یا رسول الله فإن لم یکن أوان الرطب؟ قال: سبع تمرات من تمر المدینة، فإن لم یکن فسبع تمرات من تمر أمصارکم، فإن الله عز وجل یقول: وعزتی وجلالی وعظمتی وارتفاع مکانی لا تأکل نفساء یوم تلد الرطب فیکون غلاما إلا کان حلیما وإن کانت جاریة کانت حلیمة). وعن (... صالح بن عقبة قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: أطعموا البرنی نساءکم فی نفاسهن تحلم أولادکم).
2- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج6 ص22: (... عن الحسن بن علی علیهما السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: أطعموا حبالاکم اللبان فإن الصبی إذا غذی فی بطن أمه باللبان اشتد قلبه وزید فی عقله، فإن یک ذکرا کان شجاعا...). وعن (...محمد بن سنان، عن الرضا علیه السلام قال: أطعموا حبالاکم ذکر اللبان فإن یک فی بطنها غلام خرج ذکی القلب عالما شجاعا وإن تک جاریة حسن خلقها وخلقتها...).

ص: 128

ولیس الطعام وحده الذی یؤثر علی الطفل ومستقبله فقد ورد ان اسم المولود أیضا له الأثر علی صلاحه وشقائه، وقد ورد فی الروایات ان لاسم محمد وعلی وفاطمة والحسن والحسین تأثیرا علی المولود وعائلته، وان الدار التی فیها مولود باسم محمد تقدس کل یوم من قبل الملائکة(1)، وان الفقر لا یدخل بیتا فیه اسم محمد أو علی أو الحسن أو الحسین أو فاطمة(2)، وان الشیطان لیذوب کما یذوب الرصاص إذا سمع منادیا ینادی یا محمد أو یا علی، وان واحدة من أسباب التحصن والاحتماء من کید الشیطان ووساوسه هو تسمیة الابن باسم محمد وعلی(3).


1- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج6 ص39: (عن أبی هارون مولی آل جعدة قال: کنت جلیسا لأبی عبد الله علیه السلام بالمدینة ففقدنی أیاما ثم إنی جئت إلیه فقال لی: لم أرک منذ أیام یا أبا هارون، فقلت: ولد لی غلام، فقال: بارک الله فیه فما سمیته؟ قلت: سمیته محمدا قال: فأقبل بخده نحو الأرض وهو یقول: محمد محمد محمد حتی کاد یلصق خده بالأرض ثم قال: بنفسی وبولدی وبأهلی وبأبوی وبأهل الأرض کلهم جمیعا الفداء لرسول الله صلی الله علیه وآله، لا تسبه ولا تضربه ولا تسئ إلیه، واعلم أنه لیس فی الأرض دار فیها اسم محمد، إلا وهی تقدس کل یوم...).
2- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج6 ص19: (عن سلیمان الجعفری قال: سمعت أبا الحسن علیه السلام یقول: لا یدخل الفقر بیتا فیه اسم محمد أو أحمد أو علی أو الحسن أو الحسین أو جعفر أو طالب أو عبد الله أو فاطمة من النساء).
3- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج6 ص20 عن: (... جابر قال: أراد أبو جعفر علیه السلام الرکوب إلی بعض شیعته لیعوده، فقال: یا جابر إلحقنی فتبعته، فلما انتهی إلی باب الدار خرج علینا ابن له صغیر فقال له أبو جعفر علیه السلام: ما اسمک؟ قال: محمد قال: فبمَ تکنی؟ قال: بعلی، فقال له أبو جعفر علیه السلام: لقد احتظرت من الشیطان احتظارا شدیدا إن الشیطان إذا سمع منادیا ینادی یا محمد یا علی ذاب کما یذوب الرصاص حتی إذا سمع منادیا ینادی باسم عدو من أعدائنا اهتز واختال).

ص: 129

هذا وقد غیر النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) أسماء کثیر من الصحابة بعد إسلامهم(1)).

محمد: (الذی أفهمه من کلامکم ان الوالدین یأکلان من الحلال ویحسنان تسمیة أبنائهما فینتج عنهما ذریة صالحة لا یخاف علیها من الانحراف أو السقوط، فالأمر بسیط جداً).

خالد: (کلا یا محمد لیس الأمر کما تظن، فمجرد أکل الحلال وتسمیة الولد بمحمد أو علی أو فاطمة لا یجعل من الولد مستقیما حتماً، فهنالک عشرات الأمور الأخری التی یجب مراعاتها فیما لو أردنا تحصین أولادنا من الانحراف، فهنالک التربیة، وصدیق الخیر، وغیرهما من المسائل التی لا غنی عنها والتی لها الأثر الکبیر فی التحصین من الانحراف، وکما یقول الفلاسفة فکل واحد من هذه الأمور __ الأکل الحلال، التسمیة، التربیة، الرفیق والصاحب... __ تسمی جزء علة لصلاح واستقامة الولد، ومجموعها یسمی علة تامة لذلک الصلاح والاستقامة).

 فاطمة: (ولا تقتصر المحافظة علی طهارة طعام الولد علی مرحلة النطفة أو الجنین، بل تتعدی ذلک، فالأم والأب لا یجوز لهما إعطاء طفلهما الطعام والشراب


1- قال النووی فی المجموع ج8 ص427: (السنة تغییر الاسم القبیح کما فی الحدیث الصحیح ... قال أبو داود وغیر النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم اسم العاص وعزیز وعتلة __ بإسکان التاء وفتحها __ وشیطان والحاکم وغراب وحباب وشهاب فسماه هاشما وسمی حربا سلیما وسمی المضطجع المنبعث وأرضا یقال لها عقرة سماها خضرة وشعب الضلالة سماه شعب الهدی وبنو الدنیة سماهم بنی الرشد وسمی بنی مغویة ببنی رشدة والله أعلم).

ص: 130

النجس أو المحرم(1)، لترتب الآثار التکوینیة المعنویة علیه، کإذهاب المروءة والغیرة، کما فی أکل لحم الخنزیر، حتی لو لم یبلغ الطفل سن التکلیف الشرعی(2).

ومن مصادیق الأکل الحرام أکل هذه المنتجات التی تأتینا من الدّول غیر الإسلامیّة، والتی تکون بشکل جذّاب ومغرٍ، وخصوصًا الحلوی التی تستهوی قلوب الأطفال والتی تحتوی علی الجلاتین المستخرج من حیوان نجس العین مثل الخنزیر، أو من حیوان غیر مذکّی __ أی غیر مذبوح علی الطّریقة الإسلامیّة __ فتکون هذه المادّة حراماً أیضاً.

ومن مصادیق الأکل الحرام أیضا ما یسمی بخلاصة اللّحم، أو الدّجاج التی کثیرًا ما تستعمله النساء فی عمل الحساء وغیره، فهذا أیضا لا یجوز شرب حسائه


1- ورد فی کتاب صراط النجاة للسید الخوئی: (سؤال 1071: الأطفال قبل البلوغ غیر مکلفین، فهل یجوز أن نعطیهم طعاما نجسا أو متنجسا کالحلیب أو لحم المیتة بلا ضرورة، أو عذر، مع أنه لا إثم علیهم لعدم تکلیفهم؟ _ فأجاب السید _ الخوئی: لا یجوز إعطاؤهم من لحوم المیتة نجسة أو غیر نجسة ولا الخمر أو الخنزیر، ولا بأس ولا إثم بإعطائهم غیر ذلک مما لیس فیه ضرر علیهم). وقد سئل السید الکلبایکانی فی کتابه إرشاد السائل ص131: (« س494»: هل یجوز أن نطعم الأطفال المأکولات المتنجسة، أو التی فیها لحوم غیر مذکاة؟ _ فأجاب السید _ بسمه تعالی: لا یجوز ذلک، والله العالم).
2- سئل السید الخوئی فی کتاب صراط النجاة ج3 ص276: (س835 : إذا أکل المؤمن ما یحرم أکله، أو شرب ما یحرم شربه غفلة، أو جهلا، فهل یترتب علی ذلک الآثار التکوینیة المعنویة، کإذهاب المروءة والغیرة، کما فی أکل لحم الخنزیر، والتأثیر علی النطفة کما فی شرب الخمر، وما شاکل ذلک؟ __ فأجاب السید __ الخوئی: نعم یترتب علیه الآثار التکوینیة فی الجملة، والله العالم).

ص: 131

إذا کان مستوردا من بلد غیر إسلامی، أو لم یحصل الاطمئنان بأنه ذبح علی الطریقة الإسلامیة، فأطفالنا أمانة فی أعناقنا والغذاء الحلال یفتح لهم الطریق نحو السعادة والتوفیق، بعکس الطعام الحرام فانه یفتح لهم أبواب الشقاء والانحراف).

خالد: (بقی هنالک نقطة مهمة یجب التنبیه علیها وهی ان اللقمة الحرام لا یقتصر تأثیرها علی الصغار فقط، بل یعم شرها الکبار أیضا، فقد ورد فی الروایات الشریفة ان أکل الحرام له تأثیرات مادیة ومعنویة، وهو من موانع قبول العمل(1)، وهو أیضا من موانع قبول الدعاء واستجابته(2)، بل ان لقمة الحرام تؤدی بآکلها إلی الوقوف بوجه الأنبیاء وقتل الأوصیاء، فقتلة سید شباب أهل الجنة الإمام الحسین بن علی (صلوات الله و سلامه علیهما) کانوا ممن ملئت بطونهم من أکل الحرام، وقد صرح الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) بهذه الحقیقة فی إحدی خطبه یوم عاشوراء(3)).


1- روی ابن فهد الحلی (قدس الله روحه) فی کتابه (عدة الداعی ونجاح الساعی ص139 __ 141) («وقال  _ الصادق _ : ترک لقمة الحرام أحب إلی الله من صلاة ألفی رکعة تطوعا» ... «وقال صلی الله علیه وآله: ان لله ملکا ینادی علی بیت المقدس کل لیلة من أکل حراما لم یقبل الله منه صرفا ولا عدلا _ والصرف: النافلة والعدل: الفریضة _ ... وعنه علیه السلام العبادة مع أکل الحرام کالبناء علی الرمل، وقیل: علی الماء».
2- روی الحسن بن محمد الدیلمی فی کتابه (إرشاد القلوب ج1 ص70) (وقال _ النبی الأعظم _ علیه السلام: إن أحدکم لیرفع یدیه إلی السماء فیقول یا رب یا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام فأی دعاء یستجاب لهذا وأی عمل یقبل منه وهو ینفق من غیر حل إن حج حج حراما وإن تصدق تصدق بحرام وإن تزوج تزوج بحرام وإن صام أفطر علی حرام فیا ویحه ما علم أن الله طیب لا یقبل إلا الطیب وقد قال فی کتابه «إِنَّما یَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِینَ»).
3- روی الشیخ المجلسی فی بحار الأنوار ج45 ص8: (...وأحاطوا بالحسین من کل جانب حتی جعلوه فی مثل الحلقة، فخرج علیه السلام حتی أتی الناس فاستنصتهم فأبوا أن ینصتوا حتی قال لهم: ویلکم ما علیکم أن تنصتوا إلی فتسمعوا قولی، وإنما أدعوکم إلی سبیل الرشاد، فمن أطاعنی کان من المرشدین، ومن عصانی کان من المهلکین، وکلکم عاص لأمری غیر مستمع قولی فقد ملئت بطونکم من الحرام، وطبع علی قلوبکم، ویلکم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟...)

ص: 132

لماذا رزق الله سبحانه نبیه (صلی الله علیه و آله و سلم) بنتا ولیس ولدا ذکرا؟

حینما سکت خالد من کلامه أدار محمد بعینیه فی وجوه الباقین وقال: (لدی سؤال وأخاف منکم أن تضحکوا علیه).

خالد: (إسأل ولا تخف).

محمد: (کنت أفکر فی أثناء کلامکم عن السبب الذی أعطی الله سبحانه نبیه (صلی الله علیه و آله و سلم) مولودا أنثی ولیس ذکراً، ألیس من الأفضل لو کان قد أعطاه ذکراً، فالرجل العظیم أشد حاجة للذکر، لیحمل اسمه، ویدیم نسله، ویرثه ویرث عظمته؟).

ضحک أسامة وقال: (وهل هذا سؤال یا محمد؟! أترید أن تعلم الله سبحانه ماذا یعطی وماذا لا یعطی) قال أسامة کلماته هذه وأکمل قهقهته وهو یهز برأسه.

خالد: (سؤال وجیه ومهم وهو یقودنا إلی عدة أمور مهمة).

توقف أسامة عن ضحکه فجأة وقال: (ماذا؟ وهل تعدّ سؤالا مثل هذا مهماً؟!).

خالد: (نعم مهم، وهو یقودنا إلی حقائق عدیدة منها: أن البشریة لکی تتکامل فی ذلک الوقت والوقت الذی یلیه لم تکن بحاجة إلی ذکر بل إلی أنثی.

ص: 133

لان الحکمة الإلهیة تعلقت ومنذ الأزل بوجود خلفاء للنبی (صلی الله علیه و آله و سلم) أولهم الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب وآخرهم المهدی (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وکذلک تعلقت حکمة الله سبحانه بان لا یولد هؤلاء الحجج من أولاد علی (صلوات الله و سلامه علیه) إلا من أطهر صلب ورحم.

وبما ان الإمام علیّاً (صلوات الله و سلامه علیه) کان موجودا فانه کان یحتاج إلی أطهر رحم عرفته الإنسانیة، کی ینجب اطهر نسل عرفته البشریة، ولم یکن لعلی آنذاک کفؤ من النساء، لذلک خلق الله سبحانه السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لتکون له کفؤا ولتکون وإیاه اطهر سببین لإیجاد اطهر سبطین، ولیوجد هذان السبطان أطهر الأئمة وأفضل الخلفاء.

ومن هنا نستطیع القول بأن البشریة کلها ممتنة لوجود هذه الأنثی الطاهرة، إذ لولاها لما کان لعلی کفؤ، ولولاها لما وجد الأئمة والخلفاء، ولولا وجودها ووجودهم لساخت الأرض بأهلها، ولما کان هنالک أرض ولا فلک ولا سماء، وهو معنی الحدیث المعروف: «لولاک __ یا محمد __ لما خلقت الأفلاک، ولولا علی لما خلقتک، ولولا فاطمة لما خلقتکما»).

فاطمة: (وإعطاء الله سبحانه لنبیه أنثی بدل الذکر دلیل علی تکذیب ما هو معروف عند الناس من ان الذکر أفضل من الأنثی، إذ رب أنثی تعدل عند الله الأرض ومن علیها کالسیدة الزهراء والسیدة خدیجة ومریم العذراء، ورب أنثی أفضل من مئة رجل، کطوعة التی آوت مسلم بن عقیل علیه السلام حینما خذلته آلاف الرجال، والأمثلة علی هذه الحقیقة کثیرة جدا).

ص: 134

خالد: (إضافة إلی أن فی إعطاء الأنثی للنبی بدل الذکر ضرباً لعادات الجاهلیة وعصبیتها، لان العرب فی زمنه (صلی الله علیه و آله و سلم) کانت تستحقر الأنثی وتضطهدها، وکان قسم کبیر منهم یقتلها ویئدها حین ولادتها، فلما جاء الإسلام حرم قتلها وأذاها، وجعلها نعمة یثاب علیها الأب(1)، وکتب لمن أدخل الفرحة علی قلبها أن یفرح قلبه یوم القیامة(2)، وان من أعال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة، وکذلک من أعال اثنتین منهن أو واحدة(3)، وقد کرس الله سبحانه هذه المبادئ الشریفة عملیا بإعطاء النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) الأنثی بدل الذکر، وأخرج منها خیراً کثیراً، وجعلها أفضل من جمیع الأنبیاء والمرسلین باستثناء أبیها (صلی الله علیه و آله و سلم)، فمولدها (صلوات الله و سلامه علیها) کان أعظم ضربة لمبادئ الجاهلیة وسننها، فما أعظمها من مولود! وما أعظمها من نعمة!).


1- روی الشیخ الصدوق فی (من لا یحضره الفقیه ج3 ص481) عن: (أبان بن تغلب، عن أبی عبد اللَّه علیه السّلام قال: البنات حسنات والبنون نعمة، فالحسنات یثاب علیها والنعمة یسأل عنها).
2- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج6 ص6: (...عن سلیمان بن جعفر الجعفری، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: إن الله تبارک وتعالی علی الإناث أرأف منه علی الذکور، وما من رجل یدخل فرحة علی امرأة بینه وبینها حرمة إلا فرحه الله تعالی یوم القیامة).
3- المصدر السابق: (علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن هشام بن الحکم، عن عمر بن یزید، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة، فقیل: یا رسول الله واثنتین؟ فقال: واثنتین، فقیل: یا رسول الله وواحدة؟ فقال: وواحدة) .

ص: 135

هل الجنة والنار مخلوقتان أم لا؟

أسامة: (أنا عندی سؤال یحیرنی فمنذ أن قرأتم الروایة وأنا أفکر فیه، لان الروایة تقول: « لما عرج بی إلی السماء أخذ بیدی جبرئیل علیه السلام فأدخلنی الجنة، فناولنی من رطبها فأکلته...» وفی روایات ثانیة ان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) اطلع علی النار أیضا ورأی فیها رجالاً ونساء یتعذبون، وهذا یعنی ان الجنة والنار مخلوقتان منذ ذلک الزمن، فهل استنتاجی هذا صحیح؟).

فقال خالد: (نعم صحیح، وجمیع فرق المسلمین تقر بخلقهما قبل أن یبعث النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد عد الشیخ الصدوق (قدس الله روحه) فی کتابه الاعتقادات فی دین الإمامیة القول بخلقهما من المسلمات عند الطائفة(1)، وکذا فعل الشیخ المفید (قدس الله روحه) فی کتابه أوائل المقالات(2)، وقد سار أهل السنة علی نفس الطریق وقالوا بخلق الجنة والنار وأنهما لا تفنیان ولا تبیدان(3)، فالقول بخلقهما قول مجمع علیه عند کافة فرق المسلمین ومذاهبهم وإجماعهم حجة، ومن خالف


1- قال قدس سره فی (الاعتقادات فی دین الإمامیة ص79) (واعتقادنا فی الجنة والنار أنهما مخلوقتان، وأن النبی صلی الله علیه وآله وسلم قد دخل الجنة، ورأی النار حین عرج به).
2- راجع أوائل المقالات للشیخ المفید ص124: (إن الجنة والنار فی هذا الوقت مخلوقتان، وبذلک جاءت الأخبار وعلیه إجماع أهل الشرع والآثار، وقد خالف فی هذا القول المعتزلة والخوارج وطائفة من الزیدیة).
3- قال ابن أبی العز الحنفی فی (شرح العقیدة الطحاویة ص137) (...والجنة والنار مخلوقتان لا تفنیان أبدا ولا تبیدان وهذا مذهب الجمهور کما تقدم ولا شک فی فساد قول من منع ذلک فی الماضی والمستقبل کما ذهب إلیه الجهم وأتباعه وقال بفناء الجنة والنار).

ص: 136

هذا الإجماع لا یلتفت إلیه ولا یساوی رأیه عند المسلمین شیئا).

 وقالت: (ونفس الروایة التی نناقشها الآن تصرح بخلق الجنة والنار، لان عبد السلام الهروی راوی الروایة عن الإمام الرضا علیه السلام یسأل الإمام بقوله: «فقلت له یا بن رسول الله، فأخبرنی عن الجنة والنار، أهما الیوم مخلوقتان؟ فقال: نعم، وإن رسول الله صلی الله علیه وآله قد دخل الجنة ورأی النار لما عرج به إلی السماء. قال: فقلت له: فإن قوما یقولون إنهما الیوم مقدرتان غیر مخلوقین؟ فقال علیه السلام: ما أولئک منا ولا نحن منهم، من أنکر خلق الجنة والنار فقد کذب النبی صلی الله علیه وآله وکذبنا، ولیس من ولایتنا علی شیء، وخلد فی نار جهنم، قال الله عز وجل: «هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِی یُکَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * یَطُوفُونَ بَیْنَهَا وَبَیْنَ حَمِیمٍ آَنٍ»، وقال النبی صلی الله علیه وآله: لما عرج بی إلی السماء أخذ بیدی جبرئیل علیه السلام فأدخلنی الجنة، فناولنی من رطبها فأکلته، فتحول ذلک نطفة فی صلبی، فلما هبطت إلی الأرض واقعت خدیجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسیة، فکلما اشتقت إلی رائحة الجنة شممت رائحة ابنتی فاطمة»).

ذکر فاطمة علیها السلام وشم ریحها عبادة

أسامة: (عندی سؤال آخر لو سمحتم، لماذا کان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) دائم الشم لفاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) ألأن رائحتها طیبة وتذکره بالجنة أم انه یرید أن یفهم المجتمع یومئذ ویفهمنا شیئا آخر، وما هو هذا الشیء؟).

خالد: (یجب أن نعلم أولا ان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وبقیة الأئمة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) لا یعملون إلا ما فیه حکمة ومصلحة، وکل أعمالهم

ص: 137

عبادة، حتی المباحات، لأنها تقع وفق رضا الله سبحانه، فشربه للماء عبادة، وأکله للطعام عبادة، لأنه ینوی بهما التقوی علی العبادة فیؤجر علیها، وشمه للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) عبادة أیضا، لأنها تذکره بالجنة، والجنة تذکره بالله سبحانه، وبهذا تصبح السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) سبباً من أسباب العبادة، ولا تنحصر العبادة فی شمها فقط، فذکرها والحدیث عنها والکتابة عن فضائلها وأسرار شخصیتها فکل هذا وغیره عبادة والمکلف یؤجر علیه، لان جمیع تلک الأشیاء تذکر الإنسان بالعفاف والطهر والعبادة والرحمة والشفقة وغیر ذلک من المعانی المرضیة عند الله سبحانه فتدخل بهذا فی روح العبادة وجوهرها).

أسامة: (أظن بأن المخالفین لو سمعوا هذا الکلام منک لا تهموننا بالغلو والکفر).

فقال خالد: (لیس من حقهم اتهامنا بالغلو والکفر، لوجود مبدأ إسلامی متفق علیه عندهم وعندنا وهو ان کل ما یذکر بالله سبحانه یمکن أن یسمی عبادة، وکذلک کل ما یستجلب خشیة الله وتذکر الآخرة والخشوع والخوف من النار أو الشوق إلی الجنة فهو عبادة، وقد رووا فی کتبهم عدة أحادیث عن النبی أو عن الصحابة أو التابعین یؤید هذا المبدأ، فاعترفوا بأن النظر إلی بئر زمزم عبادة(1)، والنظر إلی وجه الأم والأب عبادة(2)، والنظر إلی الکعبة


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج9 ص326. وراجع سبل الهدی والرشاد للصالحی الشامی ج1 ص184.
2- روی المتقی الهندی فی کنز العمال ج16 ص478 عن عائشة: (النظر فی ثلاثة أشیاء عبادة: النظر فی وجه الأبوین وفی المصحف، وفی البحر).

ص: 138

عبادة(1)،  وهو عندهم  أفضل من الصلاة والقیام والجهاد(2)، وروی أن النظر إلیها یعدل عبادة سنة وأن من نظر إلیها خرج من ذنوبه کیوم ولدته أمه(3)، والنظر إلی البحر عندهم عبادة أیضا(4)، والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) عندنا وعندهم مؤمنة بل من سادة المؤمنین، والمؤمن أعظم حقا وحرمة من الکعبة(5)، فتکون الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أعظم حرمة وشأنا من الکعبة المشرفة، وأعظم من الأب والأم، ویکون النظر إلیها (صلوات الله و سلامه علیها) أفضل من الصلاة والقیام والجهاد(6)، وکذلک ذکرها وتقدیسها والاستماع إلی مفاخرها وفضائلها


1- راجع المصنف لابن أبی شیبة الکوفی ج4 ص432 __ 433، وقال المناوی فی فیض القدیر شرح الجامع الصغیر ج6 ص389: (قال الحکیم: ورد فی خبر أن النظر إلی البحر عبادة والنظر إلی العالم عبادة والنظر إلی الکعبة عبادة والنظر إلی وجه الأبوین عبادة، وإنما صار عبادة لأنه عبد الله بتلک النظرة فنظر إلی البحر بعین القدرة وإلی سعته وعرضه وأمواجه فاعتبر، ونظر إلی وجه العالم وإلی ما ألبس من نور العلم فأجله وهابه ووقره، ونظر إلی الکعبة تلذذا بها شوقا إلی ربها، ونظر إلی أبویه فذل لهما ورق وشکر لله لتربیتهما إیاه وتعظیما لحرمتهما).
2- قال المناوی فی فیض القدیر شرح الجامع الصغیر ج6 ص389: («النظر إلی الکعبة عبادة» أی من العبادة المثاب علیها، قال المصنف فی الشاجعة: وهو أفضل من الصلاة والقیام والجهاد وروی أن النظر إلیها یعدل عبادة سنة وأن من نظر إلیها خرج من ذنوبه کیوم ولدته أمه).
3- راجع المصدر السابق.
4- راجع الهامش رقم 2 من هذه الصفحة.
5- روی الطبرانی فی المعجم الأوسط (ج6 ص36) (...عن عمرو بن شعیب عن أبیه عن جده عن النبی صلی الله علیه وسلم نظر إلی الکعبة فقال لقد شرفک الله وکرمک وعظمک والمؤمن أعظم حرمة منک).
6- لان النظر إلی الأفضل أفضل، فإذا کان النظر إلی الکعبة المشرفة أفضل من صلاة النافلة وأفضل من الجهاد غیر الواجب والقیام، فان النظر إلی فاطمة أفضل من هذا الأفضل حتما.

ص: 139

کل ذلک عبادة بل من أفضل العبادات والقربات).

أسامة: (وهل یختص هذا الأمر بالسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)؟).

خالد: (هذا الأمر لا یختص بالسیدة الزهراء(صلوات الله و سلامه علیها) ویشمل النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام أمیر المؤمنین علیه السلام وباقی الأئمة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، لنفس السبب المتقدم(1) وقد ورد فی کتب أهل السنة إن النظر إلی علی عبادة(2)، وقد فسر المناوی هذا الحدیث بقوله: «أی رؤیته تحمل النطق بکلمة التوحید لما علاه من سیما العبادة قال الزمخشری: عن ابن الأعرابی: إذا برز قال الناس لا إله إلا الله ما أشرف هذا الفتی ما أعلمه ما أکرمه ما أحلمه ما أشجعه فکانت رؤیته تحمل علی النطق بالعبادة فیا لها من سعادة!»(3).


1- وهو ان کل ما یذکر بالله سبحانه وبنعمه وبجنته او ناره ویبعث فی القلب الخشوع أو الخوف من النار أو الشوق إلی الجنة فهو عبادة.
2- روی الحاکم النیسابوری فی المستدرک علی الصحیحین ج3 ص141: ((حدثنا ) دعلج بن أحمد السجزی ثنا علی بن عبد العزیز بن معاویة ثنا إبراهیم بن إسحاق الجعفی ثنا عبد الله بن عبد ربه العجلی ثنا شعبة عن قتادة عن حمید بن عبد الرحمن عن أبی سعید الخدری عن عمر ان بن حصین قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: النظر إلی علی عبادة). ثم علق علی هذا الحدیث بقوله: (هذا حدیث صحیح الإسناد وشواهده عن عبد الله بن مسعود صحیحة). وقال الفتنی فی (تذکرة الموضوعات ص97) بعد ان ذکر قول النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) (النظر إلی علی عبادة) (وهذا ورد من روایة أحد عشر صحابیا بعدة طرق وتلک طرق عدة التواتر فی رأیی). وقد حسن السیوطی هذا الحدیث فی کتابه تاریخ الخلفاء ص66، وابن حجر الهیثمی فی الصواعق المحرقة ص190 الفصل الثانی الحدیث الخامس.
3- فیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی ج6 ص388.

ص: 140

ونحن الشیعة نعتقد بأن النظر إلی جمیع أئمة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عبادة، لان رؤیتهم ومنطقهم وقراءة قصصهم وروایاتهم والکتابة حولهم کل هذه الأمور تذکر الإنسان بالله وبثوابه فهی عبادة بإجماع المسلمین).

محمد: (هنیئا لمن کان یعیش عصر النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وبقیة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فقد کانوا یستطیعون النظر إلیهم وکسب الحسنات بلا مشقة أو تعب، أما نحن فلا نستطیع ذلک، لعدم معاصرتنا لهم، ولغیبة إمام زماننا، فیا لها من حسرة عظیمة!).

خالد: (ان الله سبحانه لم یغلق عنا باب الرحمة هذا کما تظن یا أخی، فهذا الباب مفتوح إلی الیوم وسیبقی مفتوحا إلی یوم القیامة، وإذا کنا قد فقدنا أبدان الأئمة علیهم السلام وأعیانهم الخارجیة، فإن مشاهدهم الشریفة وحضرتهم المقدسة ماثلة بین أیدینا، ومشاهدهم ومحل قبورهم الشریفة تذکر بالله وبنعیم الجنة وبکل قیم الخیر والصلاح، وتستجلب للإنسان الزائر العبرة والخشوع والموعظة، وکل هذه عبادة فی عبادة، فیکون بذلک النظر إلی مراقدهم المقدسة وقبورهم المشرفة وزیارتها واللبث فیها وغیر ذلک کله عبادة یثاب علیها شیعة أهل البیت علیهم السلام، ولیس لأحد من المخالفین الاعتراض علینا لأنهم یذهبون أیضا إلی ان النظر إلی مقامات الأنبیاء کمقام إبراهیم (صلوات الله و سلامه علیه) وحجر إسماعیل، ومواضع النسک(1) کجبل عرفات أو الصفا والمروة کل ذلک عبادة).


1- قال علی بن سلیمان بن احمد المرداوی فی (الإنصاف ج4 ص50) (فوائد منها: یستحب أن یصلی بعد طواف الوداع رکعتین ویقبل الحجر ... ومنها: النظر إلی البیت عبادة قاله الإمام أحمد وقال فی الفصول: وکذا رؤیته لمقام الأنبیاء، ومواضع الأنساک).

ص: 141

أخلقت السیدة الزهراء من تفاحة أم من رطب أو من شیء آخر؟

نظر خالد إلی ساعته ثم قال: (بقی عندنا وقت قلیل وقبل أن نختم هذه الجلسة أود أن أنبه علی أمر مهم، فإن بعض الروایات نصت علی ان السیدة الزهراء خلقت من رطب الجنة، وبعضها أوضحت بأنها (صلوات الله و سلامه علیها) قد خلقت من تفاح الجنة، وفی بعضها الآخر أنها (صلوات الله و سلامه علیها) خلقت من شجرة طوبی، ویوجد اختلاف فی زمن أکل النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) لذلک الرطب أو لتلک التفاحة، فبعض الروایات صرحت بأن زمن الأکل کان فی الجنة حینما عرج بالنبی الأعظم إلی السماء، وفی بعض الروایات الأخری ان زمن أکله کان بعد رجوعه من المعراج، ولعل البعض یحسب ان هنالک تناقضاً أو تضارباً بین هذه الروایات الشریفة).

لم یکمل خالد کلامه حتی قاطعه أسامة بقوله: (صحیح، التناقض بیّن وواضح، وکلامک قد أوقعنا فی حیرة).

خالد: (لو ترکتنی أکمل لزالت عنک الحیرة، والروایات لا تناقض بینها، وتوجد روایة ثالثة صحیحة السند توضح لنا الأمور کاملة وتضع جمیع النقاط علی الحروف، فقد روی علی بن إبراهیم(1) قال: «حدثنی أبی(2)، عن الحسن بن محبوب(3)، عن علی


1- مر توثیق علی بن إبراهیم فی ص87 من هذا الکتاب فراجع.
2- مر توثیق إبراهیم بن هاشم فی ص88 من هذا الکتاب.
3- وهو من أصحاب الإجماع الذین قال فیهم الشیخ الطوسی فی (اختیار معرفة الرجال ج2 ص830) (أجمع أصحابنا علی تصحیح ما یصح عن هؤلاء وتصدیقهم وأقروا لهم بالفقه والعلم: وهم ستة نفر آخر دون الستة نفر الذین ذکرناهم فی أصحاب أبی عبد الله علیه السلام، منهم یونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن یحیی بیاع السابری، ومحمد بن أبی عمیر، وعبد الله بن المغیرة، والحسن بن محبوب..).

ص: 142

ابن رئاب(1)، عن أبی عبیدة(2)، عن أبی عبد الله علیه السلام قال:...کان رسول الله صلی الله علیه وآله یکثر تقبیل فاطمة علیها السلام، فأنکرت ذلک عائشة، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: یا عائشة، إنی لما أسری بی إلی السماء، دخلت الجنة، فأدنانی جبرئیل من شجرة طوبی، وناولنی من ثمارها فأکلته، فحول الله تعالی ذلک ماء، فی ظهری، فلما هبطت إلی الأرض، واقعت خدیجة فحملت بفاطمة، فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبی منها» وهذه الروایة توضح لنا بأن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) قد وصل إلی شجرة طوبی وأکل من ثمارها، وأشجار الجنة لها قابلیة أن تخرج عدة أنواع من الثمار فی وقت واحد ومن شجرة واحدة، فالمؤمن یستطیع أن یأکل من شجرة واحدة الموز والبرتقال والرطب والرمان وما شاء من الأصناف الأخری، وعلیه فلیس من الغریب أن یأکل النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) التفاح والرطب من شجرة طوبی التی هی أعظم أشجار الجنة وأکثرها برکة وکذلک الحال بالنسبة إلی وقت الأکل فنستطیع أن نجمع بین


1- قال الشیخ الطوسی فی (الفهرست ص151) (علی بن رئاب الکوفی، له أصل کبیر، وهو ثقة جلیل القدر. أخبرنا به جماعة، عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الولید، عن أبیه، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد وعبد الله ابنی محمد بن عیسی، عن الحسن بن محبوب، عنه).
2- وهو کما یقول النجاشی فی رجاله ص171: (زیاد بن عیسی أبو عبیدة الحذاء کوفی، ثقة ...وقال الحسن بن علی بن فضال: ومن أصحاب أبی جعفر أبو عبیدة الحذاء واسمه زیاد، مات فی حیاة أبی عبد الله علیه السلام وقال سعد بن عبد الله الأشعری: ومن أصحاب أبی جعفر أبو عبیدة وهو زیاد بن أبی رجاء، کوفی، ثقة، صحیح ...وقال العقیقی العلوی: أبو عبیدة زیاد الحذاء [ و ] کان حسن المنزلة عند آل محمد، وکان زامل أبا جعفر [ علیه السلام ] إلی مکة. له کتاب یرویه علی ابن رئاب).

ص: 143

الروایات ونقول إن النبی الأعظم أکل من ثمار الجنة فی أثناء معراجه إلی السماء، ثم إنه لما نزل إلی الأرض أتاه جبرائیل علیه السلام بثمار أخری فأکلها ومن مجموع هذه وتلک تکونت نطفة الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)).

أکمل خالد کلماته هذه وبدأ صوت المؤذن یملأ الأجواء، نهض الجمیع من أماکنهم وودع بعضهم بعضا علی أمل اللقاء غدا لیتناولوا روایة أخری جدیدة.

عقبة فی طریق الحوار

عاد أسامة إلی بیته، دخل المطبخ مسرعا، فتح الثلاجة بقوة، تناول قدحا من الماء بسرعة، وصب قدحا ثانیا وثالثا، فلما ارتوی جلس علی کرسی کان خلفه وهو یتنفس بقوة، نظر یمینا بعدما ارتاح فرأی ان أمه کانت ترصد حرکاته، فصاح علی استحیاء: (السلام علیکم أمی).

الأم: (وعلیک السلام، هل کنت فی الصحراء؟).

قام من مکانه وتوجه إلیها وهو یقول: (أی صحراء هذه یا أمی؟).

الأم: (رأیتک تشرب الماء کالمجنون من دون تسمیة ولا حمد ولا ذکر لعطش الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) فظننت أنک قد أتیتنا من الصحراء).

أسامة: (عفوا یا أمی فقد کنت عطشانا جداً ونسیت کل شیء حتی اسمی).

الأم: (وأین کنت حتی عطشت کل هذا العطش؟).

 أسامة: (فی المکتبة یا أمی).

الأم: (آه لو أعرف ماذا تفعل فی المکتبة، فمنذ مدّة وأنت دائم الذهاب

ص: 144

إلیها، فمع من تذهب؟ هیا أخبرنی).

أسامة: (مع فاطمة...).

فصاحت الأم قبل أن یکمل أسامة حدیثه: (ماذا!!! مع فاطمة!!! الآن قد فهمت سبب ترکک لأصحابک وذهابک إلی المکتبة یومیا، أما تستحی؟! تعبت کل تلک السنین علی تربیتک وفی الآخر تذهب مع بنات الناس إلی المکتبات!!).

کانت الأم تتکلم بعصبیة وأسامة یضحک، وکلما رأته یضحک ازداد غضبها وازداد هو ضحکا، إلی أن سکتت، فقال لها وهو لا یکاد یمسک نفسه من الضحک: (لیس الأمر کما تظنین، فأنتِ لم تترکینی أکمل کلامی، فأنا أذهب إلی المکتبة للمشارکة فی بحث عن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، وفاطمة تحضر مع خالها خالد، وأنت تعرفینه وتعرفین عائلتهم جیدا، وصدیقی محمد یحضر معنا أیضا، وأنتِ تعرفینه أیضا، وفاطمة التی طلمتیها تجلس إلی جنب خالها بکل أدب واحترام وبکل حشمة وحجاب ووقار، ولا نتکلم إلا بما یخص البحث).

هدأت الأم بعد معرفتها بأن فاطمة تعود بالقرابة إلی عائلة خالد، لأنها تعرف بأن هذه العائلة من العوائل المحافظة التی لا یمکن أن یصدر عنهم شیء یخالف الأدب، فبدلت من لهجتها لتقول له بلطف: (اسمع یا ولدی، أنت تعرف بأنی أخاف علیک وأحبک أکثر من نفسی، وإنما قلت ما قلت خوفا علیک؛ لأن الدنیا تغیرت والناس تبدلت، وأصبح الإنسان المؤمن فی هذا الزمن عملة نادرة).

سکتت الأم وقطرات الدمع تنهمر من عینیها، وقالت وهی تنشج: (إن کل ما أتمناه فی هذه الدنیا أن أراک متزوجاً وأطفالک یملؤون البیت بالصیاح واللعب،

ص: 145

وإذا کنت تری فی فاطمة مواصفات الصلاح والعفة والتقوی فإنی علی استعداد لأذهب وأخطبها لک من أهلها، وأنا أعلم بأنهم لا یردون لی طلباً).

ضحک أسامة وقال: (مهلا یا أمی فوقت زواجی لم یحن إلی الآن، فما زلت أدرس ومستقبلی غیر واضح إلی الیوم، وسأخبرک حالما أجهز، أطال الله فی عمرک) قال أسامة هذه الکلمات وانصرف بعدها خوفاً من أن یتطور الموضوع أکثر.

صعد أسامة إلی غرفته، تمدد علی سریره، وعادت کلمات والدته إلی ذهنه، ضرب السریر بیده وهو یقول: (یا لی من أحمق! فقد وصلت الفرصة إلی یدی، فلیتنی قلت لأمی نعم إذهبی واخطبی لی، ثم ما هذه الأعذار الطفولیة؟! ما زلت أدرس! ومستقبلی غیر واضح! ألیس الله الرزاق والمتکفل بعباده، ثم کم من شاب قد تزوج وأنجب الأطفال وهو ما زال یدرس، یا إلهی ماذا أصنع بحیائی الذی منعنی أن أقول لأمی نعم).

بینما کان أسامة یکلم نفسه وإذا بصوت أمه تنادیه للحضور علی سفرة العشاء، نزل ورأی أن والده قد حضر أیضا، جلسوا جمیعا وأکلوا، وبعدها مدد أسامة أمام التلفاز وهو یقشر بعض الفاکهة التی أحضرها والده معه، وبعد ساعة أحس بالملل لأن التلفاز لم یکن فیه ما یناسب الإنسان المتدین، فأینما یقلبه یجد فیه محذوراً شرعیاً، فقنواته ما بین رقص وغناء ولقطات غیر محتشمة، فقرر الذهاب إلی غرفته للقراءة أو النوم، فقام وأطفأ التلفاز؛ لأن والدیه قد سبقاه بالقیام، صعد إلی غرفته، اتجه إلی مکتبته، سحب کتاباً اسمه «قبس من القرآن فی

ص: 146

صفات الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) لمؤلفه الشیخ عبد اللطیف البغدادی».

استلقی علی سریره وفتح فهرست الکتاب ومن ثم اتجه للفصل الثالث منه، قرأ شیئاً لم یکن قد سمع به من قبل، وهو وجود اسم النبی الأعظم (صلوات الله و سلامه علیها) فی التوراة والإنجیل، وبشارة الأنبیاء السابقین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بنبینا الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بیته (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وتوسل نبی الله آدم (صلوات الله و سلامه علیه) بهم(1)، وتوسل بقیة الأنبیاء(2) (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بهم أیضا.


1- قال الشیخ المفید فی المسائل السروریة ص40: (وقد روی أن أسماءهم کانت مکتوبة إذ ذاک علی العرش، وأن آدم علیه السلام لما تاب إلی الله عز وجل وناجاه بقبول توبته سأله بحقهم علیه ومحلهم عنده فأجابه. وهذا غیر منکر فی العقول ولا مضاد للشرع المعقول، وقد رواه الصالحون الثقات المأمونون، وسلم لروایته طائفة الحق، ولا طریق إلی إنکاره، والله ولی التوفیق).
2- روی الشیخ الصدوق فی الأمالی ص288: (عن معمر بن راشد، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق علیه السلام: یقول: أتی یهودی النبی صلی الله علیه وآله، فقام بین یدیه یحد النظر إلیه، فقال: یا یهودی، ما حاجتک؟ قال: أنت أفضل أم موسی بن عمران النبی الذی کلمه الله، وأنزل علیه التوراة والعصا، وفلق له البحر، وأظله بالغمام؟ فقال له النبی صلی الله علیه وآله: إنه یکره للعبد أن یزکی نفسه، ولکنی أقول: إن آدم علیه السلام لما أصاب الخطیئة کانت توبته أن قال: اللهم إنی أسألک بحق محمد وآل محمد، لما غفرت لی، فغفرها الله له، وإن نوحا علیه السلام لما رکب فی السفینة وخاف الغرق، قال: اللهم إنی أسألک بحق محمد وآل محمد، لما أنجیتنی من الغرق. فنجاه الله منه، وإن إبراهیم علیه السلام: لما ألقی فی النار قال: اللهم إنی أسألک بحق محمد وآل محمد، لما أنجیتنی منها: فجعلها الله علیه بردا وسلاما، وإن موسی علیه السلام لما ألقی عصاه وأوجس فی نفسه خیفة قال: اللهم إنی أسألک بحق محمد وآل محمد، لما أمنتنی منها . فقال الله جل جلاله: «لا تخف إنک أنت الأعلی». یا یهودی: إن موسی لو أدرکنی ثم لم یؤمن بی وبنبوتی، ما نفعه إیمانه شیئا، ولا نفعته النبوة. یا یهودی، ومن ذریتی المهدی، إذا خرج نزل عیسی بن مریم لنصرته، فقدمه وصلی خلفه).

ص: 147

والأعجب من هذا کله هو ذلک الاکتشاف الذی قام به خبراء سوفیت لحطام سفینة نبی الله نوح (صلوات الله و سلامه علیه)، ووجود لوح فی السفینة مکتوب علیه اسم النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) واسم السیدة فاطمة والإمام علی والإمامین الحسن والحسین(1) (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، کما هو مذکور فی روایات الأئمة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فانتفض أسامة من سریره وأخرج هاتفه واتصل بخالد.

رفع خالد السماعة وأجاب بصوت مثقل وحزین، لکن أسامة ومن فرط حماسه لم ینتبه إلی ان صوت خالد کان یخفی وراءه حزناً عمیقاً ومشکلة کبیرة، أخذ أسامة یحکی لخالد ما وجده فی الکتاب وما یحتویه من أحادیث وأخذ یتکلم له عن الاکتشاف السوفیتی لبقایا سفینة نوح، ولکن خالد بقی ساکتاً کأنه لا یسمع ما یقوله أسامة، أحس أسامة بأن خالداً لا یجیب علی کلامه فظن ان الاتصال قد انقطع بینهما، فقال: (ألو، ألو، هل تسمعنی یا خالد؟).

فأجابه خالد بصوت ثقیل: (نعم أسمعک).


1- تجد هذا الاکتشاف مذکورا فی مصادر عدیدة منها: ألف: مجلة روسیة شهریة تصدر فی موسکو باسم (تفادینزوب) ص120  عددها تشرین الثانی سنة 1953. باء: مجلة Weekly Mirror الأسبوعیة اللندنیة بعددها الصادر فی 28 کانون الأول 1953. جیم: مجلة Britania Star اللندنیة الصادرة فی کانون الثانی 1954. دال: جریدة Sunlight الصادرة فی مانجستر 23 کانون الثانی 1954. هاء: جریدة Weekly Mirror اللندنیة الصادرة فی 1 شباط 1945. واو: جریدة الهدی القاهریة فی 3 مارس 1954.

ص: 148

أسامة: (إذن فلماذا لا تجیبنی؟ أأنت مریض أم نعسان؟).

خالد: (لا هذا ولا ذاک، ولکن زوج أختی حالته سیئة جداً، والطبیب قد آیس منه وأوصانا أن نتهیأ فلیس بینه وبین الموت إلا أیام، وغداً سوف لن نستطیع ان نکمل الحوار فی المکتبة لأن ظرفنا حرج للغایة؟!).

أسامة: (ما هذا الکلام یا رجل فالأعمار بید الله سبحانه).

خالد: (صحیح ان الأعمار بید الله سبحانه ولکن الواقع یؤید قول الدکتور فزوج أختی أصبح جثة هامدة بلا حراک ولا أکل ولا شرب، ووفق القوانین الطبیعیة فان مثل هذا الإنسان لا یدوم عمره أکثر من أیام قلیلة، فانا لله وإنا إلیه راجعون).

أسامة: (ان الذی یسمعک تسترجع یقول ان الرجل قد مات، فهون علی نفسک یا أخی، وسأدعک الآن ترتاح وسأمر إلی بیتکم غداً إن شاء الله لأطمئن علی مریضکم وعلیکم، فی أمان الله تعالی).

أغلق أسامة هاتفه متحسراً متألماً علی حالة زوج أخت خالد من جهة، وعلی انقطاع البحث من جهة أخری، فقرر الذهاب فی الصباح إلی بیت خالد عله یستطیع إقناعه بالاستمرار.

محاولة واقتراح

اتجه أسامة صباح الیوم الثانی إلی بیت خالد، قرع الباب، وخرج خالد وعلیه آثار السهر والتعب، سلم أحدهما علی الآخر، ودخلا إلی البیت واستقرا فی

ص: 149

حدیقة المنزل، کان الجو یخیم علیه السکوت إلا زقزقة بعض العصافیر المتنقلة علی أغصان أشجار الحدیقة، فأراد أسامة أن یکسر طوق السکوت فقال: (کیف حال مریضکم الآن؟).

خالد: (ما زال کما هو).

أسامة: (وهل استخدمتم شیئا آخر غیر الأدویة؟).

خالد: (ماذا تقصد بغیر الأدویة؟).

أسامة: (یوجد عند والدتی مقدار من تراب قبر الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) أعطاها إیاه قریب لنا یعمل فی کربلاء فی حرم الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه)، وقد أعطینا منه لمریضة مصابة بالسرطان فعافاها الله سبحانه، وقد سبق وان قرأت فی الروایات الشریفة ان لهذه التربة خصائص عجیبة وإنها نافعة لجمیع الأمراض والعلل(1)، وأنا الیوم أردت أن آتی بها معی ولکنی خفت أن لا تقبلوا فأحببت أن


1- روی جعفر بن محمد بن قولویه فی کامل الزیارات ص462 عن: (محمد بن سلیمان البصری عن أبیه، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: (فی طین قبر الحسین علیه السلام الشفاء من کل داء، وهو الدواء الأکبر). وفی کتاب المزار للشیخ المفید (ص144 _ 145) عن أبی عبد الله الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) أیضا انه  قال: (طین قبر الحسین فیه شفاء وإن أخذ علی رأس میل). وفی مصباح المتهجد للشیخ الطوسی (ص732) عن الإمام الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال: (لو أن مریضا من المؤمنین یعرف حق أبی عبد الله الحسین علیه السلام وحرمته وولایته، أخذ له من طین قبر الحسین علیه السلام مثل رأس الأنملة کان له دواء). وفی کامل الزیارات لابن قولویه (ص462) عن الإمام الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال: (من أصابته علة فبدأ بطین قبر الحسین علیه السلام شفاه الله من تلک العلة، إلا أن تکون علة السام).

ص: 150

استأذن منکم قبل أن أجلبها).

فأجابه خالد وهو ینتفض واقفاً: (عجیب أمرک یا أخی! وهل مثل هذا الأمر یحتاج إلی استئذان؟! قم الآن ولنأتِ بها ونعطیها لهذا المسکین لأنه فی حالة إغماء وفی بعض الأحیان یصحو لمدة دقائق ثم یعود إلی حالة الإغماء، فقم بنا حتی نتمکن من إعطائه فی وقت إفاقته).

نهض أسامة من مکانه واتجه مع خالد إلی بیته، وفی الطریق قال خالد: (أحب أن اعتذر إلیک عن عدم اهتمامی کثیراً بحدیثک معی فی الهاتف، لأنی کنت تعباً فالأجواء فی بیتنا متوترة للغایة، والجمیع خائف، وأختی دائمة البکاء علی زوجها، وأطفاله یصرخون، فکلما شاهدوا أباهم یفیق من غیبوبته یفرحون ویعتقدون بأن أباهم سیقوم من رقدته ویتکلم معهم ویلعب، ولکنه سرعان ما یرجع إلی الغیبوبة ویرجع علی أثر ذلک صراخهم وبکاؤهم، مساکین لا یعلمون بأن أباهم سیموت خلال أیام).

مشی الاثنان فی سکوت حتی وصلا إلی بیت أسامة، دخل أسامة مسرعاً، غاب بعض الوقت ومن ثم خرج حاملاً معه قطعة قماش أخضر أعطاها لخالد وقال له: (قد وضعت أمی تربة الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) فی وسط هذه القطعة الخضراء، وسأوصلک للبیت لأتکلم معک قلیلا ثم أرجع).

وبینما کانا یمشیان قال أسامة: (کنت أفکر فی ان قراءتی لکتاب «قبس من القرآن فی صفات الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) » فی مثل هذا الظرف لم یکن صدفة، فقد قرأت فیه نصوصاً کثیرة کلها تحکی عن توسل الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)

ص: 151

بالنبی وأهل بیته والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وبعدها اتصلت بکم فأخبرتمونی بتدهور حال زوج أختکم، وقلبی یحدثنی بأن الله سبحانه یرید منکم أن تتوسلوا بالصدیقة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وبقیة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) لشفاء مریضکم، والله سبحانه قادر وهو علی کل شیء قدیر).

سکت خالد لبرهة من الزمن ثم قال: (نعم، لم یبق لنا إلا الله سبحانه وأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فهو سبحانه الوحید القادر علی أن یمنح هذا المسکین معجزة یرحمه بها ویرحم أطفاله الصغار، وسنعطیه تربة الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) ونصلی صلاة الاستغاثة بالسیدة الزهراء(1) (صلوات الله و سلامه علیها)، ونقرأ له دعاء التوسل، ونختم له زیارة عاشوراء أربعین یوما(2) وعسی الله أن یرحمه ویرحمنا).


1- صلاة الاستغاثة بالسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) هی وکما یرویها العلامة المجلسی فی بحار الأنوار ج99 ص254 عن: (المفضل بن عمر عن أبی عبد الله علیه السلام قال: إذا کانت لک حاجة إلی الله وضقت بها ذرعا، فصل رکعتین فإذا سلمت کبر الله ثلاثا، وسبح تسبیح فاطمة علیها السلام، ثم اسجد وقل مائة مرة: یا مولاتی __ یا __ فاطمة أغیثینی، ثم ضع خدک الأیمن علی الأرض، وقل مثل ذلک، ثم عد إلی السجود وقل ذلک مائة مرة وعشر مرات واذکر حاجتک فإن الله یقضیها).
2- ان للرقم أربعین خصوصیة عجیبة، وقد ورد ذکره فی الأحادیث الشریفة کثیراً، کقول النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) المروی فی بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج100 ص16: (من أکل الحلال أربعین یوما نور الله قلبه). ومنها ما فی الکافی للشیخ الکلینی ج6 ص309: (عن الحسین بن خالد قال: قلت لأبی الحسن الرضا علیه السلام: إن الناس یقولون: إن من لم یأکل اللحم ثلاثة أیام ساء خلقه، فقال: کذبوا ولکن من لم یأکل اللحم أربعین یوما تغیر خلقه وبدنه وذلک لانتقال النطفة فی مقدار أربعین یوما). ومنها ما فی الکافی أیضا ج2 ص16: (عن أبی جعفر __ الباقر __ علیه السلام قال: ما أخلص العبد الإیمان بالله عز وجل أربعین یوما أو قال: ما أجمل عبد ذکر الله عز وجل أربعین یوما إلا زهده الله عز وجل فی الدنیا وبصره داءها ودواءها فأثبت الحکمة فی قلبه وأنطق بها لسانه). لذلک ذهب جل من الأعلام إلی ان قراءة زیارة عاشوراء لمدة أربعین یوما مفیدة لقضاء الحوائج العظام والمهام الجسام بإذن الله الواحد العلام.

ص: 152

أسامة: (سندعو له أیضا، ولکن کلی أمل فی أن تعید التفکیر فی قرار إیقاف بحثنا الذی بدأناه حول السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)).

خالد: (علی رغم کل ما أعانیه من متاعب ومشاکل إلا أنی سأحاول الاستمرار خلال الأیام القلیلة القادمة).

وصل خالد وأسامة إلی البیت فودعه أسامة وکر راجعاً إلی بیته.

معجزة فی بیت خالد

مضت أیام دون أن یتصل خالد بأسامة لیعلمه عن استئناف جلسات الحوار، فأمضی أسامة هذه الأیام ما بین أصدقائه تارة، وتارة فی المکتبة، وتارة فی البیت لا یخرج منه، وفی عصر یوم الخمیس وبینما کان أسامة یلعب الکرة مع أصحابه، رأی بأن خالداً کان یجلس مع المتفرجین وهو یضحک ویلوح بیده إلی جهة أسامة، فاندهش أسامة من رؤیته، فلم ینتظر إلی ان ینهی مباراته، وطلب من أصدقائه ان یستأذن، فخرج من اللعبة بعد أن دخل شخص آخر بدله، وما ان وصل إلی خالد حتی قام خالد من مکانه واحتضن أسامة بقوة وهو یردد: (لقد قام علی رجلیه، لقد قام علی رجلیه).

سحب أسامة ید خالد وخرج وإیاه من بین المتفرجین وجلسا علی جذع

ص: 153

شجرة کان مطروحا علی الأرض، فقال أسامة: (أنا لم أفهم منک شیئاً، فمن هو الذی قام علی رجلیه؟).

خالد: (انه زوج أختی).

صاح أسامة: (متی وکیف؟).

خالد: (عندما رجعت منکم ذلک الیوم، انتظرنا زوج أختی لیصحو من غیبوبته، انتظرناه لساعات، فلما أفاق وضعت تربة الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) فی فمه، فعلی رغم انه لم یکن یأکل ویشرب إلا أنی وضعتها فی فمه داعیا الله أن ینزلها فی جوفه، ولم تکن إلا لحظات حتی عاد مرة أخری إلی الغیبوبة، وکان اللیل قد نزل، فقمنا أنا وزوجته وأمی وفاطمة فصلینا صلاة الاستغاثة بالسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) کل علی انفراد، وبعد أن أتممناها، قلت لزوجته تعالی أنتِ والأطفال وبقیة من کان موجوداً لنقرأ دعاء التوسل عند رأسه، فعسی الله أن یرحم بکاء أطفاله، فقرأنا الدعاء وبعدها قمنا إلی فراشنا لننام قلیلا قبل أن یؤذن أذان الصبح.

وما هی إلا ساعات حتی صاح المؤذن، فقمت للصلاة وأیقظت الباقین، وبینما أنا فی الرکعة الأخیرة سمعت أختی تصرخ صراخاً عالیاً، فلم أشک ان زوجها قد مات، فأتممت صلاتی علی عجل، وقمت إلیها راکضاً أتعثر بالحاجیات، فوجدتها تبکی بقوة ولکنها تقطع بکاءها بضحکة قصیرة ومن ثم تعاود البکاء، فقلت فی نفسی ان أختی قد أصابها مس من الجنون بسبب الصدمة، ومع ان أختی کانت تصرخ إلا إنی رأیت زوجها ما زال یتنفس، فحضرت أمی

ص: 154

واحتضنتها وهدأتها وسألتها أمی ما الخبر؟ فقالت: لقد نادانی باسمی وأراد ماءً، فبکت أمی لأنها کانت تظن بأن أختی تتخیل ذلک، فرقت لحالها وبکت، وصارت أختی تحلف بالله أنها قد سمعت صوته وهو ینادیها وسمعته أیضا وهو یطلب الماء، فقلت لها: ان زوجک ما زال علی نومته التی ترکناه علیها لم یتحرک حتی، ولعلک لم تنامی جیدا، فاذهبی یا أختی وارتاحی وأنا سأجلس عنده ریثما یطلع الفجر.

فذهبت أختی إلی غرفتها وهی تبکی، وجلست عند رأسه اقرأ القرآن وبعد کل عدة آیات انظر إلیه فأراه علی نومته من دون حراک، فأردت ان أقفل القرآن لأنام قلیلاً فقلت فی نفسی لأقرأ سورة النصر ومن ثم أذهب، فقرأتها إلی آخرها وبینما أنا أقفل القرآن نظرت إلی زوج أختی فرأیت عینیه مفتوحتین، فارتعبت وظننت انه قد مات، وفجأة سمعته یقول بصوت لا یکاد یبین: أرید ماءً، فانتفضت من مکانی راکضاً متحیراً هل أخبر أهلی أولا أو آتی له بالماء، فرکضت إلی الثلاجة لآتی له بقدح ماء، وفی أثناء رکضی کنت أصرخ کالمجنون: لقد فاق، یرید ماءً، لقد فاق، تعالوا هیا.

جلس الجمیع مرعوبین علی صوتی ورکضوا باتجاه زوج أختی، ورکضت أنا بالماء إلیه، احتضناه وأجلسناه وأعطیناه الماء، فارتشف عدة جرعات ولم یستطع إکمال القدح، فأرجعناه لمکانه، وبقی مستیقظاً قلیلاً وعیناه تجولان فی وجوه الحاضرین وهما تدمعان بغزارة، وکلما خرجت من عینه دمعة خرجت من عین زوجته وأمی وأطفاله دمعات، ثم عاد مرة أخری إلی غیبوبته، وازدادت

ص: 155

صرخات الحاضرین وبکاؤهم، فصبرتهم وقلت لهم: ان شربه للماء وصحوته وکلامه علامة خیر فاصبروا وادعوا له.

ثم وبعد ساعة استیقظ مرة أخری وتکلم ببعض الکلمات وأعطیناه ماءً وعصیراً، وکلما مرت الساعات کلما طالت فترات استیقاظه وقلّت فترات غیبوبته، والبارحة بقی مستیقظاً من دون غیبوبة، واستطاع أن یأکل ویشرب ویتکلم ولکن بثقل، واستطعنا أیضا أن نوقفه علی رجلیه ومشی بعض الخطوات، لکنه سرعان ما کان یتعب، لان عضلات جسمه مصابة بالضمور، فیحتاج إلی وقت لیستعید عافیته من جدید.

ولکن الخبر الذی صعقنا جمیعا هو ان زوج أختی وبعد أن استطاع أن یتکلم سألنا: ما الدواء الذی أعطیتمونی إیاه أخیرا؟

فقلنا: لم نعطک أی دواء.

فقال: بلی أعطیتمونی ولذلک تحسنت، فهی التی أخبرتنی بذلک.

فقلنا: ومن التی أخبرتک بذلک؟

فقال: حینما کنت فی الغیبوبة جاءتنی امرأة لا أعرفها وکانت تغطی وجهها وتلبس السواد، لکنها لم تکن تمشی بشکل مستقر، فقد کانت منحنیة الظهر، فوصلت لی وأنا نائم علی فراشی هذا.

وقالت لی: قم.

فقلت لها: إلی أین؟

ص: 156

فقالت: ارجع إلی أهلک.

فقلت: لا أستطیع أن أقوم فأنا مریض.

فقالت: بل تستطیع، فالآن قد أعطوک الدواء.

فقلت: ومن أنتِ؟

فقالت: أنا السیدة.

فقلت لها: ولماذا تمشین هکذا؟

فقالت: أما تعلم ان القوم قد کسروا ضلعی؟

 قالت هذه الکلمات ثم مشت عنی حتی توارت ولم أعد أراها، فأحسست بعطش شدید أجبرنی علی أن أفتح عینی، فلما فتحتها نظرت إلی زوجتی واقفة بقربی فصحت علیها وطلبت الماء، ثم لم أتمالک فتح عینی فرجعت إلی النوم مرة أخری، ثم بعد ذلک شعرت بعطش أشد ففتحت عینی وطلبت الماء فأتیتم وسقیتمونی).

لم یکمل خالد کلامه حتی صاح أسامة دون أن یشعر: (هی والله، هی والله السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)) ولم یتمالک نفسه حتی انهمرت الدموع من عینیه، وکذلک فعل خالد.

قام الاثنان وهما یحمدان الله ویشکرانه، فتوجه خالد بوجهه نحو أسامة وقال: (أنا وعدتک قبل أیام بان حوارنا حول السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) سیستمر بمجرد أن أجد حلاً لمشکلة زوج أختی وها هو الآن یتماثل للشفاء ببرکة أهل

ص: 157

البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ولم یعد هنالک عذر لقطع الحوار فتعال غداً فی نفس الموعد إلی المکتبة لنبدأ بروایة جدیدة إن شاء الله).

بیت السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) من البیوت التی أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه

عاد أسامة إلی بیته مسروراً، رأته أمه وهو علی هذه الحالة فقالت: (أراک الیوم فرحانا؟ ما الخبر؟ فمنذ مدّة لم نرک تضحک هکذا؟).

أسامة: (اتفقت أنا وخالد بأن نعاود البحث فی المکتبة غدا، فأرید منک یا أمی العزیزة أن تجهزی لی شیئا آخذه معی کی نأکله خلال تواجدنا هناک وسأشتری أنا غدا عصیرا آخذه معی).

الأم: (وهل أنت ذاهب إلی نزهة أم إلی مکتبة؟ سبحان الله مکتبات آخر زمن!  ثم لماذا لا تهیئ فاطمة شیئا لتأکلوه، فعلی اقل تقدیر ستتمکن بهذه الطریقة من تذوق طعامها قبل أن تخطبها).

أسامة: (یا أمی العزیزة قلت لکِ سابقا إن فاطمة مجرد فتاة تحضر معنا الحوار ولا أفکر بخطبتها ولا بخطبة أی واحدة أخری فی الوقت الحاضر).

الأم: (الله أعلم بما فی القلوب، وعلی کل حال سأعمل لک قالباً صغیراً من الکیک واشتر أنت العصیر من البقال، وسلم لی علی فاطمة).

أنهت والدة أسامة عبارتها واتبعتها بضحکة کتمت بعضها وفلت من شفتیها بعضها الآخر، أما أسامة فخرج من المطبخ خجلاً وصعد إلی غرفته بسرعة.

مرت الساعات وجاء موعد الانصراف إلی المکتبة، ونزل أسامة من علی

ص: 158

السلم محاولاً أن لا یثیر أی صوت، ووصل إلی قالب الکیک الذی کان مهیأ وموضوعاً فی کیس فأخذه وانطلق نحو باب البیت وإذا بصوت من خلفه ینادیه قائلا: (لا تنس أن تسلم لی علی من أوصیتک أن تسلم علیه).

خرج أسامة من البیت دون أن یلتفت وهو یقول فی نفسه: (آه یا أمی لا یستطیع أحد أن یفلت منک أبداً! ثم وبدلاً من هذه المسامیر إذهبی واطلبیها من أهلها لتریحی نفسک وتریحینی).

أخذ أسامة العصیر من البقال وانطلق به نحو المکتبة، وحینما وصل وجد حارس المکتبة جالسا علی کرسیه وکالمعتاد سیجارته لا تفارق فمه والدخان یخرج من فمه وانفه کالقطار الذی یعمل علی البخار، وما إن وصل أسامة إلی الباب وأراد أن یدخل صاح الحارس بوجهه: (انتظر، ما هذا الذی تحمله بین یدیک؟).

أسامة: (هذا قالب من الکیک وبعض العصیر).

الحارس مستهزئاً: (وأین ترید بهذا أیها الصغیر؟).

أسامة: (سنتناوله فی أثناء حدیثنا فی الحدیقة).

الحارس: (ومن قال لک أیها العبقری بأننا قلبنا المکتبة إلی مطعم أو سینما، فاذهب وکُل هذه الحلوی فی بیتکم، هیا اذهب وإلا منعتک من الدخول إلی المکتبة نهائیاً حتی فی الأیام القادمة).

أسامة: (یا عمی العزیز، نحن لا نجلس فی داخل المکتبة حتی یکون أکلنا

ص: 159

منافیاً لآداب المکتبات، وإنما نجلس فی الحدیقة الخلفیة وهناک لا یوجد أحد...).

قاطعه الحارس قبل أن یکمل کلامه قائلا: (لا یوجد فرق عندی بین الحدیقة والداخل والقانون یمنع من اصطحاب الطعام إلی داخل المکتبة هل فهمت؟ هیا انصرف ولا تثِرْ غضبی أکثر).

 وبینما الحارس یتکلم بصوت عال خرجت  أمینة المکتبة لتری الخبر، وبعد ان شرح لها أسامة الموقف ابتسمت قائلة: (هیا ادخل واذهب إلی حیث تجلسون کل مرة، وأعذر عمنا الحارس فإنه لا یعرف القانون جیداً، فنحن وضعنا الحدیقة الخلفیة  لمثل هذه الأسباب فمن یرید أن یتکلم أو یقرأ بصوت عالٍ أو یتحاور مع أصدقائه أو یأکل أو یشرب شیئا فی أثناء المطالعة فیمکنه أن یذهب إلی الحدیقة الخلفیة ویتصرف فیها بحریة أکثر).

دخل أسامة، ودخلت خلفه أمینة المکتبة، وجلس الحارس وهو یقول: (مکتبات آخر زمن، یأکلون ویشربون ولم یبقَ إلا أن یناموا فیها).

ص: 160

الدلیل السابع من أدلة تفضیلها علیها السلام

اشارة

 وصل أسامة إلی حیث یجلس أصدقاؤه فی کل مرة فوجدهم جالسین، فسلم واعتذر عن التأخیر، فابتدأ خالد جلسة الحوار بالبسملة والحمد والصلاة علی النبی وآله (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ولعن أعدائهم ثم قال: (سنتطرق الیوم إلی فضیلة من فضائل السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) تدل وبصراحة علی مساواتها بالأنبیاء والرسل (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وکذلک علی أفضلیتها علی جمیع أمة محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) نساءً ورجالاً منذ زمن الصحابة والی قیام الساعة، فقد ورد فی عدة نصوص صحیحة ان الله سبحانه جعل السیدة الزهراء وأباها وبعلها وبنیها (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) نوراً من نوره وجعلهم الشجرة المبارکة، وأذن لبیوتهم أن ترفع ویذکر فیها اسمه یسبح له فیها بالغدو والآصال، وأخبر بأنهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) رجال لا تلهیهم تجارة ولا بیع عن ذکر الله وإقامة الصلاة وإیتاء الزکاة وإتباع الشرع المقدس(1)، وساوی بیتها


1- هذا إشارة إلی قوله تعالی: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکَاةٍ فِیهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِی زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ کَأَنَّهَا کَوْکَبٌ دُرِّیٌّ یُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَکَةٍ زَیْتُونَةٍ لَا شَرْقِیَّةٍ وَلَا غَرْبِیَّةٍ یَکَادُ زَیْتُهَا یُضِیءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَی نُورٍ یَهْدِی اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ یَشَاءُ وَیَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ * فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِیتَاءِ الزَّکَاةِ یَخَافُونَ یَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِیهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) سورة النور: 35 - 37.

ص: 161

(صلوات الله و سلامه علیها) ببیوت الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فی بعض الروایات المرویة حتی من قبل المخالفین، بل وجعل بیتها أفضل من بیوت الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فی نصوص روائیة أخری(1)، وعلی أی حال فالإجماع من قبل علماء الطائفة قائم علی


1- اخرج الحاکم الحسکانی فی کتابه (شواهد التنزیل لقواعد التفضیل ج1 ص534 __ 535) ثلاث روایات من طرق المخالفین تنص علی ان بیت السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) من بیوت الأنبیاء بل هو أفضل منها، فقد قال ما هذا نصه: (566:حدثنی أبو بکر بن أبی الحسن الحافظ أن عمر بن الحسن ابن علی بن مالک أخبرهم قال: حدثنا أحمد بن الحسن الخزاز قال: حدثنا أبی قال: حدثنا حصین ابن مخارق، عن بحر المسلی، عن أبی داود: عن أبی برزة قال: قرأ رسول الله صلی الله علیه وآله: (فی بیوت أذن الله أن ترفع ویذکر) وقال: هی بیوت النبی صلی الله علیه وآله وسلم. قیل: یا رسول الله [أبیت] علی وفاطمة منها؟ قال: من أفضلها. 567: حدثنی أبو عبد الله الدینوری قال: حدثنا أبو زرعة أحمد بن الحسین بن علی الرازی قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعید الهمدانی قال: حدثنا المنذر بن محمد القابوسی قال: حدثنا أبی قال: حدثنا عمی قال: حدثنا الحسین بن سعید، قال: حدثنی أبی، عن أبان بن تغلب، عن نفیع بن الحارث: عن أنس بن مالک وعن بریدة قالا: قرأ رسول الله صلی الله علیه وآله هذه الآیة: (فی بیوت أذن الله أن ترفع... والأبصار * ) فقام رجل فقال: أی بیوت هذه یا رسول الله ؟ فقال: بیوت الأنبیاء . فقام إلیه أبو بکر فقال: یا رسول الله هذا البیت منها ؟ __ لبیت علی وفاطمة __ قال: نعم من أفضلها. 568: حدثنی أبو الحسن الصیدلانی وأبو القاسم بن أبی الوفاء العدنانی، قالا: حدثنا أبو محمد بن أبی حامد الشیبانی قال: أخبرنا أبو بکر بن أبی دارم بالکوفة قال: حدثنا المنذر بن محمد بن المنذر بن سعید بن أبی الجهم قال: حدثنا أبی قال: حدثنا عمی [ عن ] أبان بن تغلب، عن نفیع بن الحرث: عن أنس بن مالک، وعن بریدة قالا: قرأ رسول الله صلی الله علیه وآله هذه الآیة: (* فی بیوت أذن الله... والأبصار * ) فقام إلیه رجل فقال: یا رسول الله أی بیوت هذه ؟ قال: بیوت الأنبیاء . فقام إلیه أبو بکر فقال: یا رسول الله هذا البیت منها ؟ __ لبیت علی وفاطمة __ قال: نعم من أفاضلها . لفظ أبی القاسم ما أصلحت وکتبته من أصل سماعه بخط أبی حاتم) .

ص: 162

ان بیتها (صلوات الله و سلامه علیها) هو المقصود من قوله تعالی: (فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ) وان الله سبحانه وصفها ووصف أهل بیتها (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بقوله: (رِجَالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِیتَاءِ الزَّکَاةِ یَخَافُونَ یَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِیهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) فقد روی علی بن إبراهیم القمی(1) فی تفسیر سورة النور حدیثا صحیحا عن أبیه(2) عن عبد الله بن جندب(3) قال: کتبت إلی أبی الحسن الرضا علیه السلام أسأل عن تفسیر هذه الآیة فکتب(4): (... مثلنا فی کتاب الله کمثل مشکاة والمشکاة فی القندیل فنحن المشکاة فیها مصباح، المصباح محمد رسول الله صلی الله علیه وآله «المصباح فی زجاجة» من عنصرة طاهرة «الزجاجة کأنها کوکب دری یوقد من شجرة مبارکة


1- قد مر سابقا توثیق علی بن إبراهیم القمی فی حدیثنا عن خلق السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) من ثمار الجنة فراجع.
2- قد مر أیضا توثیق إبراهیم بن هاشم فی أثناء الحدیث عن خلق السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) من ثمار الجنة فراجع.
3- قال الشیخ الطوسی فی رجاله ص340: (عبد الله بن جندب البجلی، عربی کوفی، ثقة). وقال فی ص359: (عبد الله بن جندب البجلی، کوفی، ثقة). وقال العلامة الحلی فی (خلاصة الأقوال ص193) (عبد الله بن جندب ... البجلی، عربی کوفی، من أصحاب الکاظم علیه السلام والرضا علیه السلام، ثقة. روی الکشی ان أبا الحسن علیه السلام أقسم انه عنه راض ورسول الله صلی الله علیه وآله والله تعالی عنه راضیان، وقال فیه أبو الحسن علیه السلام: ان عبد الله بن جندب لمن المخبتین. قال الشیخ الطوسی رحمه الله: انه کان وکیلا لأبی إبراهیم علیه السلام وأبی الحسن الرضا علیه السلام، وکان عابدا رفیع المنزلة لدیهما. قال حمدویه بن نصیر: لما مات عبد الله بن جندب قام علی بن مهزیار مقامه).
4- الروایة طویلة وسنذکر محل الشاهد منها ومن أرادها بطولها فلیطلبها من مصدرها.

ص: 163

زیتونة لا شرقیة ولا غربیة» لا دعیة ولا منکرة «یکاد زیتها یضیء ولو لم تمسسه نار» القرآن «نور علی نور یهدی الله لنوره من یشاء ویضرب الله الأمثال للناس والله بکل شیء علیم» فالنور علی علیه السلام یهدی الله لولایتنا من أحب... والدلیل علی أن هذا مثل لهم. قوله «فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ __ إلی قوله __ بِغَیْرِ حِسَابٍ»...)(1).

فسکت خالد برهة من الزمن ثم قال وهو یلملم أوراقه: (فکما ترون فإن فی الآیة والروایة الصحیحة التی تلوتها دلیلاً صریحاً علی أفضلیتها وأفضلیة أهل بیتها بما یلی:

1: إنهم مثل لنور الله فی الأرض.

2: انهم الشجرة المبارکة.

3: انهم نور من نور ونور علی نور.

4: ان بیوتهم مثل بیوت الأنبیاء علیهم السلام بل هی أفضل منها.

5: ان بیوتهم من البیوت التی أذن الله أن ترفع، ویمجد ویقدس ویذکر فیها اسمه.

6: ان أهل هذا البیت ممن یسبحون الله بالغدو والآصال، بمعنی أنهم مستغرقون فی الطاعة، وان العبادة والذکر قد أخذت کل وقتهم وأصبحت شغلهم الشاغل.


1- راجع تفسیر القمی لعلی بن إبراهیم القمی ج2 ص104 تفسیر آیة النور.

ص: 164

7: وانهم لا تلهیهم تجارة ولا بیع عن ذکر الله وإقام الصلاة وإیتاء الزکاة، فهم یعبدون الله ویقدسونه حتی فی أثناء تجارتهم وحتی من خلال بیعهم وتعاملهم الدنیوی.

8: إنهم یخافون یوماً تتقلب فیه القلوب والأبصار، وان هذا الخوف لا یفارقهم وان مقداره قد بلغ إلی حد یستحق ان یذکر فی القرآن ویثبت علی مر العصور والأزمان.

وهذا نهایة الفضل وغایة التفضیل، فصلوات الله علیها وعلی بیتها وعلی ما حواه من الرجال والتسبیح والتقدیس).

هل اتفق المسلمون علی ان الآیة نزلت فی المساجد؟

أسامة: (ولکن اتفاق المسلمین قائم علی ان البیوت التی أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه هی المساجد وبیت السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) لم یکن مسجداً فی زمن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) فکیف یکون مقصوداً بالآیة(1)؟).

خالد: (قولک إن المسلمین قد اتفقوا علی أن الآیة نزلت فی المساجد غیر صحیح قطعاً، لأننی قد ذکرت لکم بأن إجماع الشیعة منعقد علی أن الآیة نزلت فی أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) والشیعة نصف المسلمین تقریبا، أما أهل السنة فقد تقسمت أقوالهم وتشتت إلی أصناف، فمنهم من قال بأن البیوت فی الآیة هی


1- اعلم ان هذا الاعتراض مستوحی من قول ابن تیمیة فی کتابه منهاج السنة (ج7 ص91 __ 92) حیث قال هناک: (...الآیة باتفاق الناس هی فی المساجد کما قال فی بیوت أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه یسبح له فیها بالغدو والآصال و بیت علی وغیره لیس موصوفا بهذه الصفة).

ص: 165

المساجد کلها، ومنهم من قال إن المقصود منها هو بیت المقدس(1)، ومنهم من قال إن المقصود منها أربعة مساجد لا غیر الکعبة وبیت المقدس وبیت أریحا ومسجد النبی (صلی الله علیه و آله و سلم)(2)، ومنهم من قال إن المقصود من البیوت هی بیوت النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)(3)، ومنهم من قال إن المقصود منها هی بیوت أزواج النبی (صلی الله علیه و آله و سلم)(4)، ومنهم من قال إن البیوت هنا هی بیوت العلم(5)، ومنهم من قال إن البیوت هنا هی بیوت الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)(6)، ومنهم من ذهب إلی ان المقصود من البیوت هی مطلق البیوت(7)، فأی بیت من بیوت المسلمین قدیما


1- قال فخر الدین الرازی فی تفسیره ج24 ص3: (وعن الحسن هو بیت المقدس یسرج فیه عشرة آلاف قندیل). وراجع أیضا تفسیر القرآن العظیم لابن أبی حاتم الرازی ج8 ص2605.
2- راجع تفسیر القرآن العظیم لابن أبی حاتم الرازی ج8 ص2604 حیث قال: (والوجه الثانی: حدثنا أبو سعید الأشج، ثنا أبو أسامة، عن صالح بن حیان عن ابن بریدة یعنی قوله: (فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ) قال: إنما هی أربعة مساجد لم یبنهن إلا نبی، الکعبة بناها إبراهیم وإسماعیل فجعل قبلة، وبیت أریحا بیت المقدس بناه داود وسلیمان، ومسجد المدینة بناه رسول الله صلی الله علیه وسلم). وراجع الدر المنثور فی التفسیر بالمأثور لجلال الدین السیوطی ج5 ص50.
3- قال ابن ابی حاتم الرازی فی (تفسیر القرآن العظیم ج8 ص3604) (حدثنا أبو سعید الأشج، ثنا ابن فضیل، عن لیث عن مجاهد «فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ ویُذْکَرَ فِیهَا اسْمُه» قال: هی بیوت النبی صلی الله علیه وسلم).
4- قال ابن الجوزی فی (زاد المسیر فی علم التفسیر ج5 ص364) (وللمفسرین فی المراد بالبیوت ها هنا ثلاثة أقوال... والثانی: بیوت أزواج رسول الله صلی الله علیه وسلم، قاله مجاهد).
5- قال أبو حیان الأندلسی فی (تفسیر البحر المحیط ج6 ص421) («فِی بُیُوتٍ» مطلق فیصدق علی المساجد والبیوت التی تقع فیها الصلاة والعلم).
6- المصدر السابق.
7- قال محمد بن جریر الطبری فی (جامع البیان عن تأویل آی القرآن ج18 ص193) (وقال آخرون: عنی بذلک البیوت کلها. ذکر من قال ذلک: حدثنا ابن حمید، ونصر بن عبد الرحمن الأودی، قالا: حدثنا حکام بن سلم، عن إسماعیل بن أبی خالد، عن عکرمة: فی بیوت أذن الله أن ترفع قال: هی البیوت کلها). وراجع أیضا معانی القرآن للنحاس ج4 ص538. وراجع أیضا تفسیر القرآن العظیم لابن أبی حاتم الرازی ج8 ص2605 حیث قال: (حدثنا علی بن الحسن، ثنا جعفر بن مسافر، ثنا یحیی بن حسان، ثنا رشدین عن الحسن بن ثوبان عن عکرمة: (فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ) قال: هی المساکن. المسکن یعمرونه ویذکرون الله فیها ولیست بالمساجد التی سماها الله بأسمائها).

ص: 166

وحدیثا وفی المستقبل یذکر فیه اسم الله سبحانه وتقام فیه الصلاة فإنه یکون مشمولا بهذه الآیة، ومن مجموع هذه الأقوال نکتشف بأن المسلمین لم یجتمعوا علی قول واحد فی المسألة وبالخصوص أهل السنة، فإن لهم فیها أقوالاً شتی وآراء مختلفة.

وأما قولک بأن بیت السیدة الزهراء لم یکن فی زمن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) مسجداً فلا یضرنا شیئا، لأننا عرفنا بأن الآیة لا تتحدث عن المساجد بل عن بیوت خاصة تحوی رجالاً لا تلهیهم تجارة ولا لهو یقیمون فیها الصلاة ویسبحون الله سبحانه ویقدسونه ویوجد من أهل السنة من یذهب إلی نفس قولنا هذا أو قریب منه کما اتضح سابقا).

لیس من حق المخالفین الاعتراض علی تخصیص الآیة ببیت فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها)

فاطمة: (أفهم من مجموع کلامک أن أهل السنة لیس من حقهم أن یعیبوا علینا قولنا بأن الآیة نزلت فی حق أهل البیت علیهم السلام لأنهم یقولون بأنها نزلت فی بیوت أزواج النبی (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو أنها نزلت فی مطلق بیوت المسلمین

ص: 167

حتی البسطاء منهم، وبیت علی وفاطمة (صلوات الله و سلامه علیهما) أفضل من کل هذه البیوت حتماً، لأنه البیت الذی أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهیرا(1)، إضافة إلی أن فی بعض بیوت زوجات النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) کانت المؤامرات تحاک فیها(2)، وللرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) کلام شدید فی بعض تلک البیوت، حتی وصفها بأن منها یخرج قرن الشیطان(3)، وبیت علی وفاطمة (صلوات الله و سلامه علیهما) منزه عن کل هذا، بل


1- قال سبحانه فی سورة الأحزاب الآیة رقم 33: (إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا).
2- روی البخاری فی صحیحه ج6 ص167: (حدثنا فروة بن أبی المغراء حدثنا علی بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبیه عن عائشة قالت: کان رسول الله صلی الله علیه وسلم یحب العسل والحلواء، وکان إذا انصرف من العصر دخل علی نسائه فیدنو من إحداهن، فدخل علی حفصة بنت عمر فاحتبس أکثر ما کان یحتبس، فغرت، فسألت عن ذلک فقیل لی أهدت لها امرأة من قومها عکة من عسل فسقت النبی صلی الله علیه وسلم منه شربة، فقلت أما والله لنحتالن له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سیدنو منک فإذا دنا منک فقولی أکلت مغافیر فإنه سیقول لک لا فقولی له ما هذه الریح التی أجد منک فإنه سیقول لک سقتنی حفصة شربة عسل فقولی له جرست نحله العرفط وسأقول ذلک وقولی أنت یا صفیة ذاک، قالت تقول سودة فو الله ما هو إلا أن قام علی الباب فأردت أن أبادئه بما أمرتنی به فرقا منک فلما دنا منها قالت له سودة یا رسول الله أکلت مغافیر قال لا قالت فما هذه الریح التی أجد منک؟ قال سقتنی حفصة شربة عسل فقالت جرست نحله العرفط فلما دار إلی قلت له نحو ذلک فلما دار إلی صفیة قالت له مثل ذلک فلما دار إلی حفصة قالت یا رسول الله صلی الله علیه وسلم الا أسقیک منه قال لا حاجة لی فیه قالت تقول سودة والله لقد حرمناه قلت لها اسکتی).
3- قال البخاری فی صحیحه ج4 ص46: (حدثنا موسی بن إسماعیل حدثنا جویریة عن نافع عن عبد الله رضی الله عنه قال قام النبی صلی الله علیه وسلم خطیبا فأشار نحو مسکن عائشة فقال ههنا الفتنة ثلاثا من حیث یطلع قرن الشیطان). وروی مسلم فی صحیحه ج8 ص181: (حدثنا أبو بکر ابن أبی شیبة حدثنا وکیع عن عکرمة بن عمار عن سالم عن ابن عمر قال خرج رسول الله صلی الله علیه وسلم من بیت عائشة فقال رأس الکفر من هاهنا من حیث یطلع قرن الشیطان).

ص: 168

ومعروف بالطهارة والعبادة والتقی، فیکون أولی بأن یقصد بقوله سبحانه: «فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ __ إلی قوله __ بِغَیْرِ حِسَابٍ»).

أأذن الله بأن ترفع أحجار بیوتهم وسقوفها أم یرفع أصحابها؟

محمد: (کیف یقول القرآن الکریم بأن بیوتهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) قد أذن الله أن ترفع وهی الآن ما بین مدثورة أو مهدمة، فأین هذا الرفع الذی وعد الله به هذه البیوت؟).

ابتسم خالد وقال: (لیس المقصود من البیوت هنا هو الطابوق والطین، لأن الله سبحانه فی هذه الآیة أطلق لفظ البیوت وأراد بها أهل البیوت وأصحابها والمنتمین لها، فأهل هذه البیوت وأصحابها هم الذین أذن الله سبحانه بأن یرفعوا ویعلو شأنهم، ویکون فیهم اسمه مذکوراً).

محمد: (لم أفهم مقصودک جیداً، فیا حبذا لو تفسره وتضرب لنا الأمثال).

خالد: (قد ورد فی آیات القرآن کثیراً بأن الله سبحانه قد أطلق لفظاً معیناً وأراد به شیئاً آخر من باب المجاز، کقوله تعالی: « وَاسْأَلِ الْقَرْیَةَ الَّتِی کُنَّا فِیهَا وَالْعِیرَ الَّتِی أَقْبَلْنَا فِیهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ»(1)والمقصود أهل القریة وأصحاب العیر أی


1- سورة یوسف الآیة رقم 82.

ص: 169

القافلة، إذ لا یجوز أنْ تُسأل القریة وإنَّما یُسألُ أهل القریة، فحذفَ الأهل وأقام المضاف إلیه مکانه.

وکذلک قوله تعالی: « وَکَأَیِّنْ مِنْ قَرْیَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِیدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُکْرًا» والمقصود من الآیة أهل تلک القری، فالعتو لا یصدر من الجدران والسقوف، والحجارة والأبنیة لا تحاسب حساباً شدیداً.

وهذه الآیات شبیهة بالآیة التی نحن بصدد الحدیث عنها، فالذی أمر الله بارتفاعهم وعلو شأنهم هم أهل هذه البیوت، وعلیه فلا یضرهم سواء کانت بیوتهم المادیة التی هی من الحجر والطین مشیدة أم مهدومة، وان کان الواجب تشییدها وإعزازها وعمارتها لأن تقدیس کل ما ینتمی إلیهم هو من لوازم تقدیسهم، وإعلاء کل ما یذکر بهم ویجمع الناس حولهم هو من لوازم إعلاء شأنهم).

الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یطلقون علی أنفسهم لفظ البیت والمسجد

محمد: (بالحقیقة أنا لم أسمع شخصاً یطلق علی نفسه بیتاً، فیقول أنا البیت أو نحن البیت، فهل سمعتم أنتم بمثل هذا الشخص؟).

أسامة: (أنا أیضا لم أسمع وأعتقد بأنه إذا قال الإنسان علی نفسه أنا بیت أو نحن البیت فإن الناس سیضحکون منه).

خالد: (عدم سماعکما بشخص یقول أنا بیت لا یدل علی عدم وجود مثل هذا الشخص، وعدم استعمال الناس فی هذا الوقت لمثل هذه الألفاظ وضحکهم منها لا یدل أیضا علی عدم صحة إطلاقها، لان الناس الآن بعیدون کل البعد عن

ص: 170

قواعد اللغة العربیة وذوقها.

ونحن لو تتبعنا أحادیث أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) لوجدنا بأن الإمام الباقر (صلوات الله و سلامه علیه) یعبر عن نفسه المقدسة ببیوت أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه(1)، وقد فسروا (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بأن المقصود من المساجد فی قوله تعالی: «وَأَنَّ


1- قال المولی محمد تقی المجلسی فی (روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه ج7 ص476) (وروی الکلینی فی القوی کالصحیح، عن أبی حمزة الثمالی قال: کنت جالسا فی مسجد الرسول صلی الله علیه وآله وسلم إذ أقبل رجل فسلم فقلت له: من أنت یا عبد الله؟ قال: رجل من أهل الکوفة فقلت: ما حاجتک؟ فقال لی: أتعرف أبا جعفر محمد بن علی علیهما السلام فقلت: نعم فما حاجتک إلیه؟ فقال: هیأت له أربعین مسألة أسأله عنها فما کان من حق أخذته وما کان من باطل ترکته. قال أبو حمزة: فقلت له: هل تعرف ما بین الحق والباطل؟ قال نعم فقلت له فما حاجتک إلیه إذا کنت تعرف ما بین الحق والباطل فقال لی: یا أهل الکوفة أنتم قوم ما تطاقون إذا رأیت أبا جعفر علیه السلام فأخبرنی فما انقطع کلامی معه حتی أقبل أبو جعفر علیه السلام وحوله أهل خراسان وغیرهم یسألونه عن مناسک الحج فمضی حتی جلس مجلسه وجلس الرجل قریبا منه. قال أبو حمزة فجلست بحیث اسمع الکلام وحوله عالم من الناس فلما قضی حوائجهم وانصرفوا التفت إلی الرجل فقال له: من أنت؟ فقال: أنا قتادة بن دعامة البصری فقال له أبو جعفر علیه السلام: أنت فقیه أهل البصرة؟ قال: نعم فقال له أبو جعفر علیه السلام: ویحک یا قتادة إن الله عز وجل خلق خلقا من خلقه فجعلهم حججا علی خلقه فهم أوتاد فی أرضه قوام بأمره نجباء فی علمه اصطفاهم قبل خلقه أظلة عن یمین عرشه. قال: فسکت قتادة طویلا، ثمَّ قال: أصلحک الله والله لقد جلست بین یدی الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبی قدام واحد منهم ما اضطربت قدامک، قال له أبو جعفر علیه السلام: أتدری أین أنت؟ أنت بین یدی بیوت أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه یسبح له فیها بالغدو والآصال رجال لا تلهیهم تجارة ولا بیع عن ذکر الله وأقام الصلاة وإیتاء الزکاة، فأنت ثمَّ، ونحن أولئک فقال له قتادة صدقت والله جعلنی الله فداک والله ما هی بیوت حجارة ولا طین).

ص: 171

الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا» هم الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)(1).

وعلیه فلا استغراب من أن یکون المقصود بالبیوت فی قوله سبحانه «فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ ویُذْکَرَ فِیهَا اسْمُه» هم أشخاص أهل البیت لا بیوتهم المبنیة من حجر وطین).

لعل المراد بالبیت فی الآیة بیت النسب

فاطمة: (أود أن أضیف أن البیوت فی الآیة ربما یراد منها بیت النسب فقد شاع بین العرب والعجم التعبیر عن الأنساب الکریمة والاحساب الشریفة بالبیوت(2)،


1- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج1 ص425: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِیلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَیْلِ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ علیه السلام فِی قَوْلِه: «وأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّه فَلا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَداً» قَالَ هُمُ الأَوْصِیَاءُ). وروی العلامة المجلسی فی بحار الأنوار ج23 ص331: (کنز جامع الفوائد وتأویل الآیات الظاهرة: محمد بن العباس عن محمد بن أبی بکر عن محمد بن إسماعیل عن عیسی ابن داود النجار عن موسی بن جعفر علیه السلام فی قوله عز وجل: «وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا» قال: سمعت أبی جعفر بن محمد علیه السلام یقول: هم الأوصیاء والأئمة منا واحدا فواحدا فلا تدعوا إلی غیرهم فتکونوا کمن دعا مع الله أحداً...). وقد علق الفیض الکاشانی علی هذه الأحادیث وأوضح مقاصدها فی (الوافی ج3 ص896) حیث قال: (السجود الخضوع یعنی أن اللَّه سبحانه کنی بالمساجد عن الأوصیاء وجعلهم لله لأن اللَّه أمر عباده بأن یخضعوا لهم طاعة لله عز وجل وتقربا إلیه « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً » أی فلا تشرکوا به بأن تخضعوا لغیرهم بدون أمره أو تجعلوهم آلهة معه).
2- قد استعمل أهل اللغة لفظ البیت فی عدة معانٍ، فقد أطلقوا البیت علی شرف النسب قال ابن منظور فی لسان العرب ج2 ص15: (وبَیْتُ العرب: شَرَفُها، والجمع البُیوتُ ... والبَیْتُ من بُیُوتات العرب: الذی یَضُمُّ شَرَفَ القبیلة... وفلانٌ بَیْتُ قومِه أَی شَریفُهم... وبَیْتُ الرجلُ: امرأَتُه، ویُکْنی عن المرأَة بالبَیْتِ... ابن الأَعرابی: العرب تَکْنی عن المرأَة بالبَیْت... الجوهری: البَیْتُ عِیالُ الرجل).

ص: 172

والواقع یؤید هذا الأمر فقد أجمع المسلمون علی أن نسب النبی الأعظم والسیدة الزهراء والإمام أمیر المؤمنین وباقی المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) هو من الأنساب والأحساب التی أذن الله سبحانه بأن ترفع(1)، فجعل منهم الأنبیاء والأوصیاء والحجج والأئمة، ویذکر فیهم اسمه بأن جعلهم لسانه فی خلقه یتکلمون بلسانه ویبلغون للناس شرائعه).

خالد: (صحیح ما تقولین وفی قوله تعالی: «یُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَکَةٍ زَیْتُونَةٍ لا شَرْقِیَّةٍ وَلا غَرْبِیَّةٍ» قرینة علی ما تقولین فقد ورد فی نصوص المسلمین سواء الشیعة أو مخالفوهم تفسیر الشجرة المبارکة بنبی الله إبراهیم (صلوات الله و سلامه علیه) وذریته من الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)(2)، وبعضهم فسرها بنبی الله آدم (صلوات الله و سلامه علیه)(3)).


1- روی الترمذی فی سننه ج5 ص243 عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: (إن الله اصطفی من ولد إبراهیم إسماعیل واصطفی من ولد إسماعیل بنی کنانة واصطفی من بنی کنانة قریشا واصطفی من قریش بنی هاشم واصطفانی من بنی هاشم). وراجع أیضا المصنف لابن أبی شیبة ج7 ص 430، الدر المنثور ج3 ص294، الطبقات الکبری لابن سعد ج1 ص20.
2- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج8 ص381 عن الإمام الباقر (صلوات الله و سلامه علیه) قوله: (فَأَصْلُ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَکَةِ إِبْرَاهِیمُ علیه السلام)، وقال مقاتل بن سلیمان فی تفسیره ج2 ص419: (یعنی بالشجرة المبارکة إبراهیم خلیل الرحمن صلی الله علیه وسلم، یقول: یوقد محمد من إبراهیم، علیهما السلام، وهو من ذریته)، وقال السمرقندی فی تفسیره ج2 ص514: («یوقد من شجرة مبارکة» یعنی نور محمد صلی الله علیه وسلم من نور إبراهیم خلیل الرحمن علیه السلام).
3- قال القرطبی فی تفسیره المسمی بالجامع لأحکام القرآن ج12 ص263: (یوقد من شجرة مبارکة وهی آدم علیه السلام، بورک فی نسله وکثر منه الأنبیاء والأولیاء. وقیل: هی إبراهیم علیه السلام، سماه الله تعالی مبارکا لان أکثر الأنبیاء کانوا من صلبه).

ص: 173

القرائن علی أن المراد بالرجال فی الآیة هم أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)

اشارة

أکمل خالد کلامه وأراد أن یبتدئ بموضوع آخر فقاطعه أسامة قائلا: (لماذا لا نرتاح قلیلا؟ فقد جلبت معی قالباً من الکیک صنعته والدتی بیدها واشتریت معه عصیراً).

ارتاح الجمیع إلی هذه المبادرة وأقبلوا یقطعون الکیک وهم یتمازحون ویضحکون بینما کان أسامة یقص علیهم قصة الحارس ومنعه من دخول المکتبة إلی ان أتت أمینة المکتبة وخلصته من بین یدیه.

وبعد الانتهاء من طعامهم قال أسامة: (من المعلوم أن أهل السنة لا یؤمنون بنزول هذه الآیة المبارکة فی حق أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) لأسباب نعرفها کلنا، ولکن هل یمکن أن نجد فی الآیة قرائن وإشارات لا یمکن تطبیقها إلا علی أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بحیث نستطیع إثبات نزولها فی حقهم حتی لو لم تکن هنالک روایات عندهم أو عندنا تثبت نزولها فی حقهم؟).

خالد: (نعم توجد إشارات وقرائن کثیرة علی هذا الأمر سأعرضها لکم علی شکل نقاط، فمنها:

القرینة الأولی

فی قوله تعالی: « مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکَاةٍ فِیهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِی زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ کَأَنَّهَا کَوْکَبٌ دُرِّیٌّ» وقد أجمع أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وشیعتهم علی

ص: 174

ان المشکاة والمصباح والزجاجة والکوکب الدری المذکورة فی الآیة هی عبارة عن أشخاص أو موجودات خارجیة ومن شدة قربها منه سبحانه جعلها مثلا لنوره.

والی هذا القول ذهب جمع غفیر من أهل السنة ومخالفی أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، لکن اختلافنا عنهم هو أننا نفسر هذه الموجودات النورانیة بأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وهم یفسرونها بأشیاء أخری کالمؤمن(1) أو القرآن الکریم(2) أو کوکب الزهرة(3) أو الشام(4)، ودلیلنا علی اختصاص الآیة بأهل البیت علیهم السلام أن القرآن الکریم قد سمی النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) فی بعض الآیات بالسراج المنیر(5)، وسماه فی بعضها الآخر بالنور(6)، وروایات المخالف قبل الموالی تشهد علی أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) کانت بضعة منه(7)، والبضعة من النور نور أیضا.


1- راجع علی سبیل المثال جامع بیان العلم للطبری ج18 ص180فقد فسر قوله تعالی: (مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکَاةٍ) بالمؤمن .
2- المصدر السابق ص183.
3- راجع تفسیر القرآن العظیم لابن أبی حاتم ج8 ص2598.
4- المصدر السابق ص2602.
5- قال تعالی فی سورة الأحزاب الآیة رقم 45 __ 46: (یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاکَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِیرًا * وَدَاعِیًا إلی اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِیرًا).
6- قال تعالی فی سورة المائدة الآیة رقم 15: (قَدْ جَاءَکُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَکِتَابٌ مُبِینٌ).
7- روی البخاری فی صحیحه ج4 ص210: (حدثنا أبو الولید حدثنا ابن عیینة عن عمر وابن دینار عن ابن أبی ملیکة عن المسور بن مخرمة ان رسول الله صلی الله علیه وسلم قال فاطمة بضعة منی فمن أغضبها أغضبنی).

ص: 175

وقد شهدت کتب المخالفین أیضا علی ان الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب کان نفس النبی بنص القرآن الکریم(1)، ونفس النور نور أیضا.

وکذلک شهدت کتبهم علی أن النبی الأعظم قال للحسن والحسین بأنهما منه وهو منهم(2)، وجزء النور نور أیضا.


1- قال ابن کثیر فی تفسیر القرآن العظیم ج1 ص379: (وَقَالَ أَبُو بَکْر بْن مَرْدُوَیه: حَدَّثَنَا سُلَیْمَان بْن أَحْمَد حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن دَاوُدَ الْمَکِّیّ حَدَّثَنَا بِشْر بْن مِهْرَان حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن دِینَار عَنْ دَاوُدَ بْن أَبِی هِنْد عَنْ الشَّعْبِیّ عَنْ جَابِر قَالَ: قَدِمَ عَلَی النَّبِیّ صَلَّی اللَّه عَلَیْهِ وَسَلَّمَ الْعَاقِب وَالطَّیِّب فَدَعَاهُمَا إِلَی الْمُلَاعَنَة فَوَاعَدَاهُ عَلَی أَنْ یُلَاعِنَاهُ الْغَدَاة قَالَ: فَغَدَا رَسُول اللَّه صَلَّی اللَّه عَلَیْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِیَدِ عَلِیّ وَفَاطِمَة وَالْحَسَن وَالْحُسَیْن ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَیْهِمَا فَأَبَیَا أَنْ یُجِیبَا وَأَقَرَّا لَهُ بِالْخَرَاجِ قَالَ: فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّی اللَّه عَلَیْهِ وَآله وَسَلَّمَ " وَاَلَّذِی بَعَثَنِی بِالْحَقِّ لَوْ قَالَا: لَا لَأُمْطِرَ عَلَیْهِمْ الْوَادِی نَارًا " قَالَ جَابِر: وَفِیهِمْ نَزَلَتْ " نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنْفُسنَا وَأَنْفُسکُمْ " قَالَ جَابِر " أَنْفُسنَا وَأَنْفُسکُمْ " رَسُول اللَّه صَلَّی اللَّه عَلَیْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِیّ بْن أَبِی طَالِب" وَأَبْنَاءَنَا " الْحَسَن وَالْحُسَیْن " وَنِسَاءَنَا " فَاطِمَة. وَهَکَذَا رَوَاهُ الْحَاکِم فِی مُسْتَدْرَکه عَنْ عَلِیّ بْن عِیسَی عَنْ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن الْأَزْهَرِیّ عَنْ عَلِیّ بْن حَجَر عَنْ عَلِیّ بْن مُسْهِر عَنْ دَاوُدَ بْن أَبِی هِنْد بِهِ بِمَعْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ: صَحِیح عَلَی شَرْط مُسْلِم وَلَمْ یُخْرِجَاهُ هَکَذَا. قَالَا: وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّیَالِسِیّ عَنْ شُعْبَة عَنْ الْمُغِیرَة عَنْ الشَّعْبِیّ مُرْسَلًا وَهَذَا أَصَحّ وَقَدْ رُوِیَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْبَرَاء نَحْو ذَلِکَ).
2- اخرج ابن عساکرفی ترجمة الإمام الحسن علیه السلام ص100 حدیثین جاء فیهما عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: (الحسن منی...). وقال الصالحی الشامی فی سبل الهدی والرشاد ج11 ص57: (وروی الإمام أحمد والطبرانی فی "الکبیر" وابن عساکر عن المقدام بن معدی کرب أن رسول الله صلی الله علیه وسلم قال: "الحسن منی والحسین منی"). وقال الهیثمی فی مجمع الزوائد ج9 ص181: (قال رسول الله صلی الله علیه وسلم حسین منی وأنا منه أحب الله من أحبه الحسن والحسین سبطان من الأسباط قلت رواه الترمذی باختصار ذکر الحسن رواه الطبرانی وإسناده حسن).

ص: 176

وکما ترون فلو أغمضنا العین عن کل روایات أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) الصحیحة فی اختصاص الآیة بهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فإننا نستطیع وعن طریق أحادیث أخری أن نثبت اختصاصها بهم ونزولها بحقهم.

ثم إن القول بنزولها فی حقهم أولی من قول المخالفین بنزولها فی کوکب الزهرة مثلا أو فی حق بلدة الشام، أو غیر ذلک من الأقوال المضحکة.

وعلاوة علی هذا کله فإنه یوجد کثیر من مفسری أهل السنة الذین ذهبوا إلی أن المقصود فی قوله سبحانه (مَثَلُ نُورِه) یعنی مثل نور محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)(1)، وذهبوا أیضا إلی أن معنی قوله سبحانه (کَمِشْکاةٍ) یعنی (مثل نور محمد کمشکاة)(2)، وان (الْمِصْبَاح) فی الآیة إشارة إلی قلبه (صلی الله علیه و آله و سلم)(3)، وأما (الزُّجَاجَةُ) فهی صدره (صلی الله علیه و آله و سلم)(4)، کما وشبهت الآیة صدر النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) بأنه کوکب دری(5)، ویکاد محمد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله و سلم) یبین للناس ولو لم


1- راجع علی سبیل المثال تفسیر مقاتل ج2 ص419، ونحن یمکن ان نسحب هذا الکلام إلی باقی الخمسة من أهل الکساء لأنهم جمیعا قد ورد فی حقهم بأنهم بضعة منه أو نفسه أو ما شابه هذا من الألفاظ المعبرة عن وحدة سنخیتهم وأصلهم مع سنخیته واصله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعلیه فیکونون مشمولین بکل خصائصه إلا ما خرج بدلیل خاص.
2- راجع تفسیر القرآن العظیم لابن أبی حاتم ج8 ص2593، ویمکن أیضا إدخال أهل البیت علیهم السلام فی هذا القول بنفس التقریب الذی مر فی الهامش السابق.
3- المصدر السابق ص2597.
4- المصدر السابق، وروی الثعلبی فی الکشف والبیان ج7 ص105 عن: (مقاتل عن الضحّاک قال: شبّه عبد المطّلب بالمشکاة وعبد الله بالزجاجة والنبی صلی الله علیه وسلم بالمصباح، کان فی صلبهما فورث النبوّة من إبراهیم علیه السلام).
5- جمع بیان العلم للطبری ج18 ص183.

ص: 177

یتکلم أنه نبی کما یکاد ذلک الزیت أن یضیء ولو لم تمسسه نار(1)، وان قوله سبحانه: (نُورٌ عَلَی نُورٍ) أی نبی من صلب نبی(2)، أو کان عمله نورا وقوله نورا(3)، یهدی الله لشریعة نبیه ومنهاجه من یشاء، ویهدی الله لولایة أوصیائه والأئمة من أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) من یشاء من عباده أیضا، لان ولایتهم ولایته ونهجهم نهجه).

فاطمة: (وفی مذهب أهل البیت علیهم السلام توجد أحادیث کثیرة ذکرت بأن أهل البیت علیهم السلام کانوا قبل خلقهم الدنیوی أنواراً، وهذه قرینة إضافیة علی أنهم المقصودون بالنور فی الآیة).

القرینة الثانیة

خالد: (وتوجد قرینة ثانیة علی ان المقصودین فی الآیة هم أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) دون غیرهم، وهذه القرینة هی قوله تعالی: «یُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَکَةٍ


1- قال ابن أبی حاتم الرازی فی تفسیر القرآن العظیم ج8 ص2603: (حدثنا محمد بن یحیی، أنبأ یزید بن عبد العزیز الطیالسی وأبو الربیع ویوسف بن واقد قالوا: ثنا یعقوب عن جعفر، وقال أبو الربیع: ثنا جعفر عن شمر بن عطیة قال: جاء ابن عباس إلی کعب الأحبار فقال: حدثنی عن قول الله: (یَکادُ زَیْتُها یُضِیءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْه نارٌ) قال: یکاد محمد بن عبد الله صلی الله علیه وسلم یبین للناس ولو لم یتکلم أنه نبی کما یکاد ذلک الزیت أن یضیء). فلا عجب حینئذ من قول أئمة أهل البیت علیهم السلام فی تفسیر الآیة (یکاد العلم یخرج من فم آل محمّد من قبل أن ینطق به) لأنهم من شجرته ومن نفسه وهم أوصیاؤه فعلمه علمهم توارثوه کابراً عن کابر.
2- راجع تفسیر مقاتل بن سلیمان ج2 ص419، وقال الثعلبی فی تفسیر الکشف والبیان ج7 ص106: (أی نبیّ من نسل نبیّ). وفی روایات أهل البیت علیهم السلام (إمام بعد إمام) .
3- تفسیر السمرقندی ج2 ص514.

ص: 178

زَیْتُونَةٍ لا شَرْقِیَّةٍ وَلا غَرْبِیَّةٍ» ففیها إشارة واضحة إلی أن تلک الأنوار التی أسماها القرآن بالمشکاة والمصباح والزجاجة والکوکب الدری هی فروع من تلک الشجرة المبارکة، والأحادیث وکلمات المفسرین تکاد تجمع علی أن المقصود من الشجرة المبارکة هی شجرة نسب نبی الله إبراهیم (صلوات الله و سلامه علیه)، وهذا لا ینطبق إلا علی أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فهم أنوار کما أثبتنا سابقا، وهم فرع من فروع شجرة إبراهیم (صلوات الله و سلامه علیه) بل من أطهر فروعها، فیکون انطباق الوصف علیهم من باب أولی).

القرینة الثالثة

فاطمة: (هل تسمح لی یا خالی أن أضیف قرینة أخری علی أن المقصودین بالآیة هم أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) خاصة دون غیرهم؟).

خالد: (نعم تفضلی علی الرحب والسعة).

فاطمة: (فی قوله تعالی: «نُورٌ عَلَی نُورٍ» إشارة إلی أن تلک الأنوار المذکورة فی الآیة، بینهم تفاضل فی الکمال، فبعضها أفضل من بعض، وبعضها أعلی من بعض، وهو ما ینطبق انطباقا کلیا علی أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فقد ثبت فی الروایات أنهم أنوار الله سبحانه، إلا أن نور بعضهم أشد وأعلی وأکمل من البعض الآخر، فنور نبینا أعلی الأنوار وأکملها، ثم نور علی، ومن بعده السیدة الزهراء، ومن بعدهما الإمامان الحسن والحسین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)).

القرینة الرابعة

خالد: (أحسنتم، وأحب أن أضیف أیضا قرینة رابعة فمن قوله سبحانه:

ص: 179

 «یَهْدِی اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ یَشَاءُ» یتضح بأن لهذه الأنوار التی ذکرت فی الآیة المبارکة خاصیة الهدایة، وأن من اهتدی بهداهم، واقتدی بنورهم، فقد اهتدی إلی صراط الله سبحانه واستنار بنوره، وهو ما ینطبق انطباقا تاما علی أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فقد شبه النبی الأعظم فی أحادیث عدیدة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بالنجوم التی یهتدی بها فی الظلمات(1)، وشبههم فی أحادیث أخری بسفینة نوح، یأمن من رکبها ویهلک ویغرق من تخلف عنها(2)، وجعلهم فی حدیث الثقلین عدل القرآن، وحبل الله الممدود الذی لا یضل من تمسک بهم، ویأمن من التجأ إلیهم(3)).


1- قال الحاکم النیسابوری فی المستدرک ج3 ص149: (...عن ابن عباس رضی الله عنهما قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بیتی أمان لأمتی من الاختلاف فإذا خالفتها قبیلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبلیس * هذا حدیث صحیح الإسناد ولم یخرجاه)، وروی المتقی الهندی فی کنز العمال ج12 ص102 قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): (النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت أتاها ما یوعدون، وأنا أمان لأصحابی ما کنت فیهم، فإذا ذهبت أتاهم ما یوعدون، وأهل بیتی أمان لأمتی، فإذا ذهب أهل بیتی أتاهم ما یوعدون).
2- روی الخطیب البغدادی فی تاریخ بغداد ج12 ص90: (...عن أنس بن مالک، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم: إنما مثلی ومثل أهل بیتی کسفینة نوح، من رکبها نجا، ومن تخلف عنها غرق).
3- روی الترمذی فی سننه ج5 ص329: (...عن زید بن أرقم قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم: إنی تارک فیکم ما إن تمسکتم به لن تضلوا بعدی; أحدهما أعظم من الآخر; کتاب الله حبل ممدود من السماء إلی الأرض وعترتی أهل بیتی ولن یتفرقا حتی یردا علی الحوض فانظروا کیف تخلفونی فیهما).

ص: 180

القرینة الخامسة

خالد: (وتوجد قرینة أخری فی قوله تعالی: «فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» فقد ذکرنا سابقا أن انطباقها علی أهل البیت مما لا یقبل الشک، فقد کتب الله لأهل هذا البیت الرفعة والعلو علی رغم المحاولات التی بذلت فی الجاهلیة والإسلام لتحطیم وإنزال أهل هذا البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عن مقاماتهم التی رتبهم الله فیها، إلا أن هذه المحاولات لم تزدهم إلا علواً وارتفاعاً، فإنکم لا تجدون الیوم أهل بیت فی الأرض أعلی شأناً وأکثر هیبةً وأعز جمعاً منهم).

القرینة السادسة

أسامة: (قد خطرت فی ذهنی مسألة یمکن أن تکون فیها دلالة علی أن المراد من الآیة هم أهل البیت علیهم السلام دون بقیة المسلمین، فقد وصف الله سبحانه هذه الأنوار فی الآیة بأنهم بیوت، أو أن مستقرهم فی بیوت أذن الله أن ترفع، وهو شبیه قوله تعالی: «وَلَیْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَکِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَی وَأْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ» فقد ذکرت الروایات أن هذه البیوت المذکورة فی الآیة هم أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) والواجب علی الناس إتیانها من أبوابها، کما أن آیة التطهیر أوضحت بأن مستقر الخمسة من أهل الکساء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) هو فی بیوت أذن الله سبحانه أن ترفع وأراد تطهیرها من کل رجس، فتکرار کونهم بیوتاً أو ان مستقرهم فی بیوت طاهرة خیر دلیل علی أن المراد من الآیة هم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) دون غیرهم).

 خالد: (أحسنت یا بطل بدأت تحسن ربط النصوص الدینیة ببعضها

ص: 181

وتستنتج منها شیئا جدیداً). أحس أسامة بالخجل وهو یری عیون البقیة تنظر إلیه والابتسامة واضحة علی وجوههم.

نظر خالد إلی ساعته وقال: (یکاد وقت صلاة المغرب أن یحین، فلنترک ما بقی من الحدیث إلی یوم غد إن شاء الله، ولا تنسوا أن تضعوا ورقة وقلماً وان تسجلوا فیها کل ما یخطر علی ذهنکم وبالخصوص ما یمکن لنا أن نستلهمه ونستفیده من الآیة المبارکة).

أکمل خالد قوله فنهض الجمیع وودع بعضهم بعضا علی أمل اللقاء غدا، وذهب خالد وفاطمة قبل الجمیع وبقی أسامة ومحمد یجمعان ما تبقی من بقایا الحلوی وزجاجات العصیر  قبل أن یأتی الحارس ویفتح لهم درسا فی النظافة وأهمیتها، ثم توجها بعد ذلک کل إلی بیته.

جلس کل من الأربعة بعد أن انتهوا من عشائهم وقبل نومهم وأمامهم ورقة وقلم، وبدأوا یدونون فیها کل ما یخطر فی ذهنهم من أسئلة أو ملاحظات لیتم مناقشتها فی الیوم التالی.

جاء یوم جدید وحلّ موعد اللقاء بالأصدقاء، ونزل أسامة من غرفته متوجهاً نحو الباب ذاهباً إلی المکتبة، فصاحت علیه أمه: (هل سلمت لی علی فاطمة؟).

اقترب أسامة وقال: (سلمت علی الجمیع بالنیابة عنکِ).

ضحکت أمه ثم قالت: (وماذا قالت فاطمة عن قالب الحلوی؟).

أسامة: (الجمیع قد شکرک وقد أحبوا طریقة صنعکِ لقالب الحلوی).

ص: 182

فضحکت مرة أخری من طریقة جوابه والتفافه علی الموضوع وقالت له: (هیا اذهب مع السلامة ولا توجع لی قلبی بأجوبتک، فأنا أسألک عن فاطمة وتجیبنی عن خالد والآخرین، تحسب بأنی لا أعلم باهتمامک بفاطمة، وقد فاتحت أباک البارحة بشأن ذهابنا لخطبتها، فقال لی أبوک: بأننا لا نستطیع أن نجبر أسامة علی أمر قد لا یکون راغبا فیه، وقد أمرنی أن أتکلم معک لاستعلم منک الخبر، فأخبرنی الآن ألک رغبة فی خطبة هذه الفتاة أم أبحث لک عن فتاة أخری؟).

أدار أسامة بظهره خجلا ثم سار نحو الباب وهو یقول: (الآن یجب أن أذهب یا أمی فقد تأخرت وسنتکلم فی هذا الموضوع لاحقا).

خرج أسامة مسرعا من البیت خوفاً من أن تنادیه أمه مرة ثانیة وتستمر فی کلامها.

مشی أسامة نحو المکتبة دون أن ینتبه لخطواته السریعة، لأن ذهنه کان مشغولاً بکلام والدته، وما هی إلا برهة من الزمن حتی وجد نفسه بباب المکتبة، وانتبه إلی الحارس وهو یحد إلیه النظر وینفخ بدخان سیجارته نحوه کتنین یرید التهام فریسته.

دخل الباب بعد أن سلم علی الحارس عسی أن یخفف عنه غضبه وحنقه، ولکنه لم یسمع منه إلا همهمة لا یدری أهی جواب سلامه أم هی کلمات توبیخ، فقرر أسامة فی نفسه أن یعدّها جوابا لسلامه؛ لان فعل المسلم محمول علی الصحة والخیر فی حال الشک.

ص: 183

الآیة جاءت بصیغة التذکیر فکیف صح إدخال السیدة الزهراء فیها

وصل أسامة إلی المکان الذی اعتادوا الجلوس فیه فکان أول من حضر، وبعد قلیل حضر محمد، ومن ثم خالد وفاطمة، وبعد السؤال عن الحال والأحوال وبعد أن استقر بهم المجلس قال خالد: (هل سجلتم ملاحظاتکم وأسئلتکم؟).

فقال بعضهم: (نعم) واکتفی البعض الآخر بهز رأسه مرتین علامة الإیجاب.

خالد: (تفضل یا أسامة وقل ما عندک).

أسامة: (بالحقیقة قد قرأت البارحة الآیة عدة مرات ووجدت بأنها تتحدث عن الرجال فقط بدلیل قوله سبحانه: «رِجَالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِیتَاءِ الزَّکَاةِ یَخَافُونَ یَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِیهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ» فإضافة إلی لفظ الرجال فی الآیة فإن جمیع الضمائر المستترة والظاهرة جاءت بصیغة المذکر، وسؤالی هو: إذا کان الرجال هم المقصودین فی الآیة، فکیف قلنا بأن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) مقصودة ومشمولة بها؟).

خالد: (هذا یسمی فی اللغة العربیة بظاهرة أو أسلوب التغلیب فی الخطاب، فإذا اجتمع رجال ونساء فی حادثة معینة أو حکم معین وکان عدد الرجال أکثر من عدد النساء جاز توجیه الخطاب للجمیع نساءً ورجالا بصیغة المذکر، وهذا النوع من التغلیب شائع الاستعمال فی اللغة والأدب وفی القرآن والسنة.

والخطاب فی الآیة جاء علی نفس هذا المنوال، فأهل البیت عنوان لرجال متعددین ومن ضمنهم امرأة واحدة، وهی السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، فجاز خطابهم جمیعاً بلفظ المذکر من باب التغلیب.

ص: 184

أما لفظ الرجال فی قوله: «رِجَالٌ لَا تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَیْعٌ» فقد جیء به لا لتخصیص الآیة بالرجال فقط، بل لان التجارة والبیع من شؤون الرجال، والنساء وإن کن یمارسن التجارة أو البیع نادراً، إلا ان اختصاص الرجال بهما أکثر شیوعاً وأغلب وجوداً، فلذلک استعمل لفظ الرجال فی الآیة من باب التغلیب أیضا).

ألفاظ الآیة عامة فکیف جاز تخصیصها بأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)؟

فاطمة: (وأنا عندی سؤال قریب من سؤال أخی أسامة، فالآیة ذکرت لفظ «رجال» وتحدثت عنهم بضمائر عامة ولم تخصص أفرادا معینین تشملهم، وفی اللغة إذا جاء اللفظ عاما شمل جمیع الأفراد المندرجین تحته، فلفظ «رجال» لابد وان یشمل جمیع الرجال الذین یتصفون بأنهم لا تلهیهم تجارة ولا بیع عن ذکر الله وإقام الصلاة، سواء أکانوا من أئمة أهل البیت أم غیرهم من عوام الناس، وعلیه فکیف یمکننا تخصیص الآیة برجال معینین مع أن ألفاظ الآیة عامة؟).

خالد: (ألفاظ الآیة المبارکة وإن کانت عامة إلا أن هنالک قرائن أخرجتها عن العموم وخصصتها برجال معینین دون غیرهم، وقد ذکرنا فیما سبق ستة قرائن علی تخصیصها.

والأهم من ذلک کله هو إجماع المسلمین بجمیع مذاهبهم واعترافهم أن السنة النبویة لها قابلیة تخصیص عمومات القرآن وتقیید إطلاقاته، فلربما یرد لفظ عام أو مطلق فتأتی السنة وتخصصه أو تقیده فلا یلتفت حینئذ إلی ذلک العموم أو الإطلاق.

والنصوص الواردة عن النبی الأعظم والأئمة الأطهار (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)

ص: 185

خصصت الرجال والمعنیین فی الآیة المبارکة بعدد معین، وبهذا یخرج اللفظ من العموم إلی الخصوص ومن الإطلاق إلی التقیید).

الآیة تتحدث عن رجال تجار وأهل البیت لم یکونوا کذلک 

محمد: (أما أنا فعندی سؤال مختلف وهو: أن الآیة ذکرت بأن هؤلاء الرجال یعملون فی البیع والتجارة، وأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) لم یکونوا تجاراً ولا مارسوا البیع والشراء فی أثناء حیاتهم فکیف تنطبق الآیة علیهم؟).

خالد: (من أین لک یا أخی أن أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) لم یمارسوا التجارة ولا البیع والشراء؟ فقد صرحت عدة نصوص تاریخیة بأن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) کان قبل مبعثه یمارس التجارة، وقد خرج فی قافلة تجاریة لأم المؤمنین خدیجة (صلوات الله و سلامه علیها) وکانت سبباً لزواجها منه، وهی قضیة مشهورة.

وتوجد نصوص وروایات عن أئمة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) تصرح بأن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) کان یمارس التجارة والزراعة حتی بعد نبوته، فقد اشتری ذات یوم إبلاً قد جاءت من الشام فباعها وقضی بربحها جمیع دیونه وقسّم الباقی فی أرحامه(1).


1- روی الشیخ الکلینی فی الکافی: (...عن أسباط بن سالم قال: دخلت علی أبی عبد الله علیه السلام فسألنا عن عمر بن مسلم ما فعل؟ فقلت: صالح ولکنه قد ترک التجارة فقال أبو عبد الله علیه السلام: عمل الشیطان _ ثلاثا _ أما علم أن رسول الله صلی الله علیه وآله اشتری عیرا أتت من الشام فاستفضل فیها ما قضی دینه وقسم فی قرابته، یقول الله عز وجل: (رجال لا تلهیهم تجارة ولا بیع عن ذکر الله) یقول القصاص: إن القوم لم یکونوا یتجرون. کذبوا ولکنهم لم یکونوا یدعون الصلاة فی میقاتها وهو أفضل ممن حضر الصلاة ولم یتجر).

ص: 186

وقد صرح الإمام الهادی (صلوات الله و سلامه علیه) فی بعض أقواله الشریفة أن جمیع آبائه (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) قد عملوا بأیدیهم فزرعوا وتاجروا وباعوا واشتروا، کما أن جمیع الأنبیاء والمرسلین والأوصیاء کانوا یعملون ویأکلون من کد یمینهم(1).

وقد ورد فی روایات أخری أن الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) قد أعتق ألف مملوک من کد یده(2)، وقد أعطی الإمام الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) لبعض أصحابه ألفا وسبعمائة دینار لیتاجر بها فربح مائة دینار(3)، وکان الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) یعمل فی بستانه وبیده مسحاة والعرق یتصبب عن ظهره وهو یقول: إنی أحب أن یتأذی الرجل بحر الشمس فی طلب المعیشة(4).


1- روی الشیخ الکلینی فی الکافی عن: (...الحسن بن علی بن أبی حمزة، عن أبیه قال: رأیت أبا الحسن (علیه السلام) یعمل فی أرض له قد استنقعت قدماه فی العرق  فقلت له: جعلت فداک أین الرجال؟ فقال  یا علی قد عمل بالید من هو خیر منی فی أرضه ومن أبی  فقلت له  ومن هو  فقال  رسول الله (صلی الله علیه وآله  وأمیر المؤمنین وآبائی (علیهم السلام) کلهم کانوا قد عملوا بأیدیهم وهو من عمل النبیین والمرسلین والأوصیاء والصالحین).
2-  (... عن الفضل بن أبی قرة، عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: کان أمیر المؤمنین صلوات الله علیه یضرب بالمر ویستخرج الأرضین، وکان رسول الله صلی الله علیه وآله یمص النوی بفیه ویغرسه فیطلع من ساعته وأن أمیر المؤمنین علیه السلام أعتق ألف مملوک من ماله وکد یده).
3- (...عن علی بن أسباط، عن محمد بن عذافر عن أبیه قال: أعطی أبو عبد الله علیه السلام أبی ألفا وسبعمائة دینار فقال له: اتجر بها ثم قال: أما إنه لیس لی رغبة فی ربحها وإن کان الربح مرغوبا فیه ولکنی أحببت أن یرانی الله عز وجل متعرضا لفوائده. قال: فربحت له فیها مائة دینار ثم لقیته فقلت له: قد ربحت لک فیها مائة دینار. قال: ففرح أبو عبد الله علیه السلام بذلک فرحاً شدیداً فقال لی: أثبتها فی رأس مالی).
4- (...عن أبی عمرو الشیبانی قال: رأیت أبا عبد الله علیه السلام وبیده مسحاة وعلیه إزار غلیظ یعمل فی حائط له والعرق یتصاب عن ظهره فقلت: جعلت فداک أعطنی أکفک، فقال لی: إنی أحب أن یتأذی الرجل بحر الشمس فی طلب المعیشة).

ص: 187

فکل هذه النصوص وغیرها تؤکد بأن أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) کانوا یمارسون التجارة والبیع والشراء ولکنها لم تکن تُلْهِیهِمْ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِیتَاءِ الزَّکَاةِ).

فاطمة: (أظن أن الآیة المبارکة ترید أن توبخ قوماً آخرین کانت تلهیهم تجارتهم وعملهم عن ذکر الله وإقامة الصلاة وإیتاء الزکاة، فضربت بأهل البیت مثلاً لمن لا تلهیه التجارة والبیع عن دینه وفروضه تعریضاً بأناس آخرین).

خالد: (ظنک فی محله یا فاطمة، فالآیة المبارکة مثلما فیها مدح لأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) کذلک فیها توبیخ لکثیر من الصحابة الذین کانت عباداتهم وفروضهم من صلاة وزکاة وذکر تتأثر بأعمالهم وتجارتهم سلباً وإیجاباً، فإذا کان عندهم عمل أو حضرت لهم تجارة ترکوا صلاتهم واستخفوا بها.

والقرآن الکریم یصرح فی سورة الجمعة بهذه الحقیقة المرة، ففی أثناء یوم الجمعة وبینما النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) یخطب بالصحابة والناس، قدمت قافلة تجاریة من الشام، وما إن سمع الصحابة والناس بخبر قدومها قاموا من مجالسهم وانفضوا وترکوا النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) یخطب وحده، ولم یبقَ فی المسجد کما فی الروایات غیر علی وفاطمة وثلة أخری من الصحابة.

وروی البخاری وغیره من المخالفین أن کثیرا من الصحابة کان یفوتهم حدیث الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ویجهلون کثیرا من الأحکام الشرعیة، وکانوا

ص: 188

یعتذرون بأن الصفق بالأسواق قد ألهاهم عن حدیث رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأحکامه(1)).

استنتاجات مهمة من هذه الآیات المبارکة

اشارة

سکت الجمیع لبرهة من الزمن فتکلم خالد قائلا: (لقد أوصیتکم البارحة بأن تضعوا ورقة وقلماً وتکتبوا ماذا یمکن أن نستنتج من الآیات المبارکة، فتفضلوا وأسمعونا ما عندکم).

1: اتصاف المذکورین فی الآیة بالعصمة والکمال

 فاطمة: (قد راجعت البارحة بعض المؤلفات فوجدت أن السید علیّاً البهبهانی فی کتابه «مصباح الهدایة فی إثبات الولایة» قد استنتج عصمة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) من هذه الآیة المبارکة حیث یقول: «ظهر من الآیة الشریفة أن الله تعالی لم یهمل عباده، ولم یترک أرضه بغیر قیم، ولم یفوض أمر الولایة والإمامة إلی اختیار الناس، بل جعل فی أرضه أنواراً، نوراً فی إثر نور، مطهرین معصومین، هادین مهدیین، لم یکن ظلمة وکدورة، فإن التعبیر عنهم علیهم السلام بنوره، وتوصیفهم بما وصفه تصریح بعصمتهم وطهارتهم، إذ لو لم یکونوا معصومین مطهرین، لتطرق إلیهم ظلمة المعصیة، وکدورة الجهل، والسهو، والنسیان، ولم


1- قال البخاری فی ج1 ص38: (عن أبی هریرة ... ان إخواننا من المهاجرین کان یشغلهم الصفق بالأسواق وان إخواننا من الأنصار کان یشغلهم العمل فی أموالهم)،  وفی ج3 ص19: (باب ما ذکر فی الأسواق وقال عبد الرحمن بن عوف لما قدمنا المدینة قلت هل من سوق فیه تجارة قال سوق قینقاع وقال أنس قال عبد الرحمن دلونی علی السوق وقال عمر ألهانی الصفق بالأسواق).

ص: 189

یکونوا خالصین فی النورانیة، مع أنه تعالی شأنه وصفهم بکمال النورانیة، ولا ینطبق ذلک إلا علی مولانا أمیر المؤمنین علیه السلام والأئمة المعصومین من ذریته سلام الله علیهم أجمعین، إذ لم یدَّعِ أحد من الأمة ادعاء النص والعصمة فی شأن الخلفاء الثلاثة وغیرهم من الأئمة»(1)).

أسامة: (سبحان الله ما هذه الصدفة الغریبة، فانا أیضا کنت البارحة اقرأ کتاباً باسم الإمامة الإلهیة وقد استنتج المؤلف العصمة أیضا من هذه الآیات المبارکة، وقد کتبت کلماته وسأقرأها علیکم، فهو یقول: «قوله عزّ وجلّ: «لاَ تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِیتَاءِ الزَّکَوةِ» فإن هذا المقطع من الآیة المبارکة یشیر إلی أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلی درجات العصمة، وهی عصمة السرّ التی هی فوق عصمة الجوارح، إذ لا یلهون برهة من حیاتهم عن ذکر الله، فهم فی ذکر دائم، وهذا یعنی أن أولئک الرجال ثلّة خاصة فی الأمة الإسلامیة یتمیّزون عن بقیّة المسلمین وأصحاب النبیّ (صلی الله علیه و آله و سلم) الذین انفضّ أکثرهم من حوله وترکوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة، کما نصّت علی هذه الحادثة سورة الجمعة، وذلک فی قوله تعالی: «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَیْهَا وَتَرَکُوکَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَیْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَیْرُ الرَّازِقِینَ». ففی الروایات لم یبقَ مع النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله و سلم) إلاّ اثنا عشر أو ثمانیة رجال، وانفضّ الباقون إلی اللّهو والتجارة. وفی بعض الروایات لم یبقَ إلاّ علی علیه السلام. ولا شک أنه لا یوجد ثلّة معصومة فی هذه الأمة غیر أهل آیة التطهیر، الذین أذهب الله عنهم


1- مصباح الهدایة فی اثبات الولایة للسید علی البهبهانی ص256.

ص: 190

الرجس وطهّرهم تطهیراً، فنالوا بذلک أعلی درجات العصمة والطهارة. وهذا یعنی أن تلک الأنوار الخمسة المبارکة فی بیوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذکر الله عزّ وجلّ، یقیمون الصلاة ویؤتون الزکاة»(1)).

2: ان مراقدهم أفضل شرفاً وعظمة من المساجد

اشارة

محمد: (أما أنا فلم أستطع ان أکتب شیئاً غیر أنی استمعت البارحة إلی خطیب کانت أمی تستمع إلی خطبته من علی شاشة التلفاز، وقد شد انتباهی قوله: بأن قوله سبحانه: « فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ» یشمل قبور ومراقد أئمة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فهذه المراقد قد أذن الله سبحانه أن ترفع وتزار وتعظم وتصان، وان جمیع أحکام المساجد تنطبق علیها وإنها أفضل من المساجد، وقد قال أشیاء أخری استغربتها ولم استسغها، فکیف تصیر  قبورهم أفضل من المساجد والمساجد بیوت الله؟!).

خالد: (فی کلامک یا أخی محمد عدة أمور لابد من الوقوف علیها وإثباتها کی یرتفع عنک الشک:

الأمر الأول: هو هل یمکن أن یسمی القبر بیتا أم لا؟

فأقول نعم فقد ورد فی اللغة تسمیة القبر بالبیت، وقد ورد فی الروایات أن القبر ینادی الإنسان کل یوم ویقول: «أنا بیت الغربة، أنا بیت الوحشة، أنا بیت الدود، أنا القبر، أنا روضة من ریاض الجنة أو حفرة من حفر النار» فالقبر لغةً وشرعاً یسمی بیتاً، وإذا کان یسمی بیتا فیکون مشمولاً بالآیة، لان الآیة تقول: « فِی


1- الإمامة الإلهیة تقریر بحث الشیخ محمد السند للسید بحر العلوم ص120.

ص: 191

بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ» فمثلما أبدانهم وأرواحهم وأشخاصهم مصداق من مصادیق البیوت فکذلک بیوتهم فی حیاتهم ومشاهدهم ومحل دفنهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بعد استشهادهم هی مصداق آخر من مصادیق البیوت التی أمر الله سبحانه برفعها وتشریفها.

والأمر الثانی: ان أحکام المساجد تنطبق علی قبور ومشاهد المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)

وهذا أمر وان کنت تستغرب منه إلا انه عین الحقیقة والصواب، فقد أفتی کثیر من علمائنا تبعاً لهذه الآیة المبارکة وغیرها من الأدلة الأخری بتطبیق أحکام المساجد أو أکثرها علی مشاهد المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)(1).


1- حکم بعض الأعلام من فقهاء المذهب بإلحاق روضات قبورهم الطاهرة بالمساجد کالشیخ المفید (قدس الله روحه) وابن الجنید (رضوان الله تعالی علیه) ووافقهما الشهید الأول(قدس الله روحه) فی کتابه (ذکری الشیعة فی أحکام الشریعة ج1 ص278) قائلا: (وألحق المفید وابن الجنید المشاهد المشرفة بالمساجد وهو حسن لتحقق معنی المسجدیة فیها وزیادة). وکذا فعل الشهید الثانی فی کتابه (روض الجنان ص81) (قدس الله روحه) حیث قال: (وألحق جماعة من الأصحاب المشاهد بالمساجد وهو حسن بل الأمر فی المشاهد أغلظ لتأدیتها فائدة المسجد وتزید شرف المدفون بها). وقد علل آقا رضا الهمدانی إلحاق مشاهد الأئمة الأطهار بالمساجد فی کتابه (مصباح الفقیه ج 1 ق 1 ص 236) بقوله: (لان المشاهد من المشاعر العظام التی تشد الرحال للتشرف بها فلا یبعد دعوی کون دخول الجنب والحائض هتکا لحرمتها عند المتشرعة). وأما علماؤنا المتأخرون فتکاد تجمع کلمتهم نصا أو احتیاطا علی إلحاق روضات الأئمة الأطهار (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بالمساجد، وفی هذا الصدد یقول السید أبو القاسم الخوئی فی کتابه (منهاج الصالحین ج1 ص116 مسألة رقم 442) (یلحق بالمساجد، المصحف الشریف، والمشاهد المشرفة، والضرایح المقدسة). ویقول السید محمد سعید الحکیم فی کتابه (مصباح المنهاج  ج 3 ص 415) (والأحوط وجوبا إلحاق المشاهد المشرفة بالمساجد فی الأحکام). وقال السید السیستانی فی (المسائل المنتخبة ص 28 __ 29 مسألة رقم 39) (المشاهد المشرفة للمعصومین علیهم السلام تلحق بالمساجد علی الأحوط ولا یلحق بها أروقتها...کما لا یلحق بها الصحن المطهر وإن کان الإلحاق أحوط).

ص: 192

والأمر الثالث: أمحل دفنهم ومکان أضرحتهم أفضل من المسجد أم لا؟

 فالجواب علیه یکمن فی معرفة أمر مهم وهو ان المسجد یحتوی علی قداسة المکان وعظمة الهدف الذی أسس لأجله وهو ذکر الله وإقامة شعائر الله سبحانه والذکر، أما مشاهد المعصومین ففیها کل ما سبق وزیادة.

فأهداف إیجادها وتشییدها لا تختلف عن أهداف إیجاد وتشیید المساجد، ففیها تقام الصلاة والشعائر الإلهیة والذکر وبقیة أعمال المساجد(1).

کما أن أرض مشاهد المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ارض مطهرة وقد نصت کثیر من الزیارات الشریفة علی هذه الحقیقة(2)، ولا اعتقد __ بحسب تتبعی __ ان


1- بل هی أفضل من کل المساجد التی أسست فی عصرنا الحالی بل وحتی العصور المنصرمة، فکم نری الیوم وکم نقرأ فی کتب التاریخ عن مساجد أسست لغیر التقوی یحرض فیها علی هدر دماء المسلمین وبالخصوص الشیعة، وعلی زرع التفرقة والتحریض وإقامة البدع من صلاة التراویح وغیرها، فمساجد بهذا الشکل وبهذا الوصف لا تقارن أصلا بمشاهد أئمتنا وما یقام فیها من ادعیة ومناجاة ومجالس تهدف إلی إعلاء شأن أهل البیت علیهم السلام.
2- قد ورد فی کتاب المزار للشهید الأول ص144 زیارة للإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) جاء فیها: (...اشهد انک طهر طاهر مطهر من طهر طاهر مطهر طهرت وطهرت بک البلاد وطهرت ارض أنت بها وطهر حرمک...). وورد نفس هذا المعنی فی زیارة الشهداء من أصحاب الحسین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ففی کتاب المزار أیضا ص176 جاء فی حقهم: (بأبی أنتم وأمی طبتم وطابت الأرض التی فیها دفنتم وفزتم والله فوزا عظیما) والروایات فی هذا المعنی کثیرة.

ص: 193

هنالک روایات تنص علی أن أرض المساجد قد وصفت بأنها طیبة طاهرة(1).

وإضافة إلی قداسة المکان وقداسة الهدف الذی تشترک فیه أضرحة المعصومین ومشاهدهم مع سائر المساجد، فإنه یوجد فی المشاهد المکرمة مزیّة لا تحتویها المساجد وهی قداسة الشخص المدفون فی تلک الأضرحة الشریفة، فإن فیها أجساداً لو وزنت بالکونین لرجحت، وان فیها أعضاءً أفضل من الکرسی والعرش والجنة وما فیها والأرض وما علیها).

انتبه خالد إلی محمد وهو یهز برأسه متأسفاً وهو یردد: (أستغفر الله ربی وأتوب إلیک).

فقال له خالد: (مالی أراک متأسفاً مستغفراً کأنک سمعت کلمة کفر أو رأیت شیطاناً؟!).

محمد: (أعتقد یا أخی أن تفضیلک لأجساد أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وتربتهم ومحل مشاهدهم وأضرحتهم علی الکرسی والعرش والجنة والسماوات وما فیها والأرض وما علیها لیس بصائب، ولعل فی کلامک مبالغة لو سمع بها مخالفونا لانتقدونا ولشنعوا علینا، وأنا أعذرک یا أخی فلعل الحماس قد أخذ بقلبک وتکلمت بما تکلمت فأنا أعرف بأنک محب ومقدس لأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وسأستغفر الله سبحانه بالنیابة عنک).


1- بل قد رأینا ان کثیرا من المساجد فی عصرنا هذا والعصور السابقة تبنی علی أرض مغصوبة تؤخذ من الناس قهرا، وقد رأینا أیضا مساجد تتخذ مرکزا لاختطاف الناس وتعذیبهم وذبح الأبریاء من شیعة وأتباع أئمة أهل البیت علیهم السلام وأشیاء أخری یندی لها الجبین.

ص: 194

کان خالد یتبسم فی وجه محمد فی أثناء کلامه، وما إن انتهی من کلامه حتی قال له: (أشکرک یا أخی علی استغفارک لی بالنیابة فالاستغفار حسن علی کل حال، ولکنی یا أخی لم أقل إلا الحق وما قام علیه الدلیل، ولم تأخذنی الحماسة ولا هم یحزنون، ولم یکن فی کلامی مبالغة، وأما کلام المخالفین وتشنیعهم علینا فلا یهمنا، لأنهم یشنعون علینا علی کل حال سواء قلنا بهذا القول أو لا، وأرید أن أزیدک علما ان المخالفین أنفسهم یعتقدون بأن أعضاء النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وجسده وتربته التی دفن فیها أعظم من العرش والکرسی والجنة وما فیها والأرض وما علیها).

محمد: (أنا أثق بک یا أخی خالد، ولکن قلبی لن یطمئن حتی أری بعض أقوال المخالفین، لأنی استغرب من قولهم بأن جسد النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وأعضاءه أفضل من العرش والکرسی والجنة وما فیها والأرض ومن علیها).

أخرج خالد دفترا کان معه فی الحقیبة وجعل یقلب صفحاته، وبعد دقیقة أخرج قلماً وکتب شیئاً وأعطاه إلی أسامة وقال له: (اذهب یا أخی إلی أمینة المکتبة وائت لنا بهذا الکتاب جزاک الله خیراً).

لم یغب أسامة طویلا حتی عاد وهو یمشی بخطوات سریعة وبیده کتاب ضخم، فلما وصل وضعه أمام خالد ومن ثم جلس فی مکانه، فشکره خالد، وفتح خالد الکتاب وجعل یقلب صفحاته تارة وتارة یذهب إلی الفهرست حتی وجد خالد ضالته فقال: (ان هذا المؤلف قد جمع فی کتابه أکثر من ثلاثین قولا من أقوال علماء أهل السنة التی تجمع کلها علی ان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) أفضل

ص: 195

من جمیع الخلق حتی الکرسی والعرش والجنة وما فیها وان محل دفنه الشریف أفضل کذلک من جمیع ما فی السماوات والأرض، وأنا سأختار لکم عدة أقوال وأقرأها علیکم:

1: قال ابن القیم: « قال ابن عقیل: سألنی سائل أیما أفضل حجرة النبی أم الکعبة؟ فقلت: إن أردت مجرد الحجرة فالکعبة أفضل، وإن أردت وهو فیها فلا والله ولا العرش وحملته ولا جنة عدن ولا الأفلاک الدائرة لأن بالحجرة جسداً لو وزن بالکونین لرجح»(1).

2: وقال الخفاجی: «قال القاضی عیاض الیحصبی فی کتابه الشفا «ولا خلاف أن موضع قبره صلی الله علیه وسلم أفضل بقاع الأرض» _ فعلَّق علیه الشیخ الخفَّاجی بقوله _ : بل أفضل من السموات والعرش والکعبة کما نقله السبکی رحمه الله»(2).

3: وقال الحصفکی الحنفی: «لا حرم للمدینة عندنا ومکة أفضل منها علی الراجح إلا ما ضم أعضاءه علیه الصلاة والسلام فإنه أفضل مطلقا حتی من الکعبة والعرش والکرسی»(3).

4: وقال السخاوی: « مع الإجماع علی أفضلیة البقعة التی ضمته صلی الله علیه وسلم، حتی علی الکعبة المفضلة علی أصل المدینة، بل علی العرش، فیما


1- راجع بدائع الفوائد لابن القیم ج3 ص655.
2- نسیم الریاض للشیخ الخفاجی ج3 ص531ونقل عن ابن عبد السلام مثل ذلک.
3- الدر المختار للحصفکی الحنفی ج2 ص 689.

ص: 196

صرح به ابن عقیل من الحنابلة. ولا شک أن مواضع الأنبیاء وأرواحهم أشرف مما سواها من الأرض والسماء، والقبر الشریف أفضلها، لما تتنزل علیه من الرحمة والرضوان والملائکة، التی لا یعملها إلا مانحها، ولساکنه عند الله من المحبة والاصطفاء ما تقصر العقول عن إدراکه»(1).

فهذه یا أخی محمد بعض أقوالهم وهی واضحة لا تقبل الشک ولا التردید فهل اقتنعت بهذا أو أزیدک؟).

محمد: (نعم اقتنعت جزاک الله خیراً ولکن ألا یمکن للمخالفین أن یقولوا ان هذا الأمر یختص بالنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ولا یجری علی بقیة العالمین؟!).

خالد: (لا أعلم یا أخی لماذا هذا التأکید من قبلک ومن قبل الأخ أسامة علی مراعاة رضا المخالفین وعدم رضاهم، فهذا شعور بالنقص، وینبغی علینا أن نتخلص منه، فنحن لدینا عقائدنا ومتبنیاتنا الفکریة وهی صحیحة قطعا سواء وافقت آراء المخالفین أو خالفتهم، فیجب أن نروض أنفسنا علی قبول روایات المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وتصدیقها من دون سؤال عن رأی الآخرین واعتقاداتهم، ومع ذلک فیوجد عندی جواب لسؤالکم، ونحن قد ذکرناه فی السابق ولکنه غاب عن ذهنک أو لعلک نسیته.

فقد ذکرنا سابقا ان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وبقیة أفراد أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) سواسیة فی مسألة التقدیس والتکریم، فبعضهم من بعض، فالإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) نفس النبی بنص آیة المباهلة، وفاطمة (صلوات الله و سلامه علیها)


1- التحفة اللطیفة فی تاریخ المدینة الشریفة للسخاوی ص12.

ص: 197

بضعته بشهادة صحاح أهل السنة، والحسن والحسین (صلوات الله و سلامه علیهما) منه وهو منهم، والجزء یأخذ حکم الکل، والبعض یأخذ حکم البعض الآخر، وعلیه فکل ما قیل عن قداسة بدن النبی  (صلی الله علیه و آله و سلم) وتربته جارٍ فی بقیة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، بل جارٍ فی مطلق أئمة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فهو منهم وهم منه(1)).

3: لا یتم إیمان المؤمن حتی ینقاد لأهل هذا البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)

أنهی خالد کلامه وتناول قدحا من الماء فشربه مسمیا باسم الله وذاکرا لعطش الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه)، فلما أکمل قال: (إذا لم یکن لدیکم سؤال آخر أو استنتاج جدید فاسمحوا أن أقول ما عندی کی ننصرف الیوم مبکراً، لان لدی عملاً مهماً یجب أن أنجزه).

فقال الجمیع: (تفضل).

 خالد: (بعد أن ثبت لدینا أنّ الرجال المذکورین فی الآیة مطهرون معصومون، هادون مهدیون، لا تتطرق إلیهم ظلمة المعصیة، وکدورة الجهل، والسهو، والنسیان، فانه یثبت أیضا وجوب رفعهم وإعلاء أمرهم عملا بقوله سبحانه: « أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» لان من یأذن الله سبحانه برفعه یجب علی الناس رفعه أیضا، ومن مصادیق الرفع تقدیمهم علی غیرهم فی الطاعة والإتباع، وهذه الآیة


1- والی هذا المعنی تشیر الزیارة المشهورة المرویة فی کامل الزیارات لجعفر بن قولویه ص369 حیث جاء فیها: (...اشهد ان أرواحکم وطینتکم طینة طیبة، طابت وطهرت هی بعضها من بعض...). وفی ص407: (وأشهد أن أرواحکم وطینتکم طینة طیبة، طابت وطهرت بعضها من بعض من الله ومن رحمته).

ص: 198

لوحدها وبغض النظر عن أی دلیل آخر کافیة فی الدلالة علی ان الإیمان لا یتم ولا یکتمل إلا بالأخذ عن هذه البیوت التی أذن الله أن ترفع.

ولو لم یوجد نص علی إمامتهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) إلا هذه الآیة لکفی، فإن العاقل لو خیر بین شخصین أحدهما قضی أکثر عمره فی عبادة الأصنام والشرک وبعد إسلامه فانه یعصی وغیر معصوم ویجهل أکثر الأحکام ومسائل الشریعة، ویحتاج إلی الهدایة فی کل حال من أحوال حیاته، وبین شخص آخر شهد الله له فی هذه الآیة بأنه نور طاهر مطهر لا تتطرق إلیه کدورة المعصیة ولا ظلمة الجهل ولا یطرأ علیه السهو والنسیان، قد تکفل الله برفع قدره وإعلاء شأنه، فإن أی عاقل لو خیر بین هذا وذاک فانه سیختار وبلا أدنی تردد النور الطاهر المطهر المعصوم، ولو اختار المکلف غیر هذا الشخص فسیکون ممن لا عقل لهم ومن الذین وصفهم القرآن الکریم بقوله: « لَهُمْ قُلُوبٌ لَا یَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لا یَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِکَ کَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِکَ هُمُ الْغَافِلُونَ»(1)).

أکمل خالد کلامه فقال وهو یلملم أغراضه ویتهیأ للقیام والمغادرة: (الآن أکملنا البحث عن الدلیل السابع من أدلة تفضیل السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) واعذرونی علی الاستعجال فإنی سأذهب مع زوج أختی إلی المستشفی لإجراء بعض الفحوصات لغرض الاطمئنان من عدم رجوع المرض إلیه مرة أخری، وبعدها سأرجع إلی البیت لجمع أغراضی لأنی سأعود إلی النجف غدا أو بعده إن شاء الله سبحانه).


1- سورة الأعراف الآیة رقم 179.

ص: 199

صاح أسامة: (لا یا أخی ما هذا القرار المتسرع؟ ولماذا ستذهب؟).

ابتسم خالد وقال وهو یقوم من کرسیه: (سنتحدث عن هذا لاحقاً یا أخی والآن علی الذهاب لأن موعد الطبیب قریب جداً).

انصرف خالد وفاطمة سریعا بعدما ودعا الجمیع وبقی أسامة ومحمد جالسین یتحدثان عن هذا القرار المفاجئ لعودة خالد إلی النجف، وبعد مدة من الأخذ والرد قاما وتوجه کل منهم إلی بیته.

تغییر فی أسلوب الحوار وطریقته

بقی أسامة عامة وقته مشغول البال بخبر عزیمة خالد علی الرحیل، فلما لم یستطع صبراً ذهب إلی بیت خالد بعد صلاة العشاء، طرق الباب وانتظر بعیداً، خرج خالد، فلما نظر إلیه عرف سبب زیارته، فصاح علیه ودخل وإیاه إلی الحدیقة، جلسا، فقال خالد: (أعرف سبب زیارتک).

أطرق أسامة برأسه استحیاءً، ثم قال: (لا أعلم بالحقیقة سبب عزمک علی الذهاب هکذا مبکراً).

ضحک خالد وقال: (لیس مبکرا یا أخی، فقد صار لنا مدة طویلة هنا، ونحن قد جئنا إلی هنا لسبب معین أنت تعرفه، وقد زال السبب الآن ولله الحمد، فلابد أن نرجع إلی بیتنا والی إکمال الدرس فقد مضی علی وقت طویل منذ أن ترکته، وها هی الامتحانات علی الأبواب ولابد لی أن أشارک فیها، والمشارکة تحتاج إلی وقت ومراجعة وقراءة ومباحثة، فوقتی ضیق للغایة).

ص: 200

وبینما خالد یتکلم دخل من باب البیت والد فاطمة ووالدتها فسلما علی خالد وأسامة ودخلا إلی البیت سریعاً، فعاد خالد إلی حدیثه قائلاً: (ثم وحتی لو أنا بقیت ففاطمة لا تستطیع أن تبقی).

فقاطعه أسامة بصوت مرتبک: (لماذا؟ وما السبب؟) فأحس أسامة بأنه تحمس قلیلا فی سؤاله وبأنّ علامات الاهتمام والتأسف بدت واضحة جداً فی أسلوب سؤاله فخجل، وتدارک الموقف بقوله وبهدوء: (لعل أختنا فاطمة ستذهب بعدما عرفت بأنک عازم علی الرحیل؟!).

خالد: (کلا، فالأمر لا یتعلق بنیتی فی العودة، فأنت تری بأن والدی فاطمة قد حضرا إلی البیت الیوم وهما مصران علی أن تعود فاطمة معهما).

 عاد أسامة إلی حماسه قائلا: (لکنها لم تکمل البحث) ثم عاد وانتبه لنفسه وقال: (أقصد کلنا لم نکمل البحث وکنا ما نزال نستفید أمراً جدیداً کل یوم).

خالد: (ان ذهابنا یا أخی الکریم کل إلی بیته لا یعنی ان البحث سینقطع أو ینتهی).

أسامة: (أنا لا أفهمک یا أخی، فمن جهة تقول إنک وفاطمة ستسافران کل إلی بیته، ومن جهة أخری تقول ان بحثنا سیستمر، فکیف یکون ذلک؟).

ضحک خالد وقال: (أقصد ان العالم الیوم أصبح مثل القریة الصغیرة وبإمکان أی واحد من الناس أن یتکلم ویناقش مع أی أحد فی العالم وهما جالسان فی بیتهما، وکل منهما یسمع ویری الآخر بواسطة الانترنت، فهل فهمت الآن؟!)

ص: 201

 ضحک أسامة وقال: (الآن فهمت قصدک، فالحوار سیستمر ولکن عن طریق الانترنت، ولکن أنا لیس عندی خط انترنت، ویقولون ان الخطوط ضعیفة فی بعض الأحیان).

خالد: (وماذا نفعل فنحن بین خیارین فإما أن نستمر بالحوار بهذه الطریقة ونتحمل سوء خدمة النت وأما أن ننهی الموضوع وکل واحد منا یذهب إلی حال سبیله).

أسامة: (کلا، کلا، نتحمل سوء خدمة النت ولا نتحمل إنهاء البحث).

خالد: (لکن یوجد أمر آخر أرید تذکیرک به، وهو ان فاطمة لم یبق لها وقت علی تقدیمها للبحث، وعلیه فسوف نستعجل فی بحثنا أکثر وسنختصر علی إیراد أکبر عدد ممکن من الأدلة مع عدم الإسهاب فی بحثها بحثا معمقا کما کنا نفعل من قبل، وسنشارک کلنا فی هذا الأمر، بمعنی ان کل واحد منا نحن الأربعة سیأتی بما یستطیع من الأدلة ومن ثم نطرحها ونناقش ما یمکن مناقشته منها).

أسامة: (ولکن فائدة الحوار ستقل، ونحن قد عزمنا ومنذ البدایة علی مناقشة کل دلیل بشکل شامل).

خالد: (لیس الأمر بأیدینا، وکما قلت ففاطمة وقتها ضیق ویجب علیها تقدیم رسالتها للمصادقة علیها ومناقشتها).

أسامة: (حسنا، فعسی أن تکرهوا شیئاً وهو خیر لکم).

نهض أسامة من مکانه واعتذر عن الإطالة فی الجلوس وودع کل منهما

ص: 202

الآخر بعد أن تبادلا عنوان البرید الالکترونی، وخرج أسامة إلی بیته علی أمل اللقاء فی وقت لاحق، ولکن هذه المرة عن طریق الانترنت.

تجدد اللقاء واستئناف البحث

مرت عشرة أیام منذ أن سافر خالد إلی النجف، کان خالد مشغولا فیها بامتحاناته، وقد استطاع أسامة ومحمد فی هذه الأیام من تهیئة لوازم الاتصال ومقدمات اللقاء، إضافة إلی بعض المعلومات التی سیتم نقاشها فی جلسات الحوار، وفی لیلة رن هاتف أسامة فظهر اسم خالد علی صفحة الجوال، فتح أسامة الخط وبعد تبادل السلام والأشواق أخبره خالد بأنه قد نجح فی بعض دروسه وأجل بعضها الآخر ریثما یستعید معلوماته ویقرأ ما قد فاته فی الأیام السابقة، وقبل أن یقفل الخط أخبره بأن اللقاء والبحث سیبدأ بالطریقة المتفق علیها غداً مساءً، فعلیه أن یتواجد هو ومحمد فی تمام الساعة التاسعة، وبعد إنهاء خالد مکالمته، اتصل أسامة بمحمد وأخبره باتصال خالد وما تم الاتفاق علیه وشدد علیه أن یتواجد علی النت فی الوقت المحدد.

ص: 203

بعض فضائلها علیها السلام السببیة والنسبیة

 مضت الساعات سریعا وجاءت الساعة التاسعة، فدخل أسامة إلی الموقع الذی تم الاتفاق علیه، فوجد خالداً قد حضر، سلم علیه وتبادلا الأخبار، وبعد مدة قصیرة انضمت إلیهما فاطمة ومن ثم محمد، فلما اکتمل العدد، کتب خالد: (فلنتوکل علی الله سبحانه ولنبدأ ما دام عددنا قد اکتمل). فکتب الجمیع موافقون.

خالد: (الآن أخبرونی ماذا جمعتم فی هذه الأیام العشرة الأخیرة؟ وهل عندکم أدلة جدیدة)؟

أسامة: (بالحقیقة أنا فکرت بأدلة أرجو أن تکون صحیحة، فلیتکم تسمحون لی بأن ابدأ بالحدیث).

خالد: (تفضل وابدأ).

أسامة: (أنا فکرت أن بإمکاننا الاستفادة من روایات تفضیل الإمام أمیر المؤمنین والحسنین والسیدة خدیجة وحمزة سید الشهداء وجعفر بن أبی طالب والإمام المهدی (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فی تفضیل السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی بقیة العالمین).

محمد: (بالنسبة لی لم أفهم شیئاً فلیتک توضح أکثر).

ص: 204

أسامة: (قد قرأت فی أثناء ذهابی إلی المکتبة فی کتاب فیض القدیر ان للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) نوعین من الفضائل؛ فضائل بالذات، وفضائل بالاتصال(1)، وفیما سبق کنا نتحدث عن جملة من فضائلها بالذات، أی ما تتمتع به ذاتها المقدسة من فضائل بغض النظر عن أی طرف خارجی، وبمعنی آخر کنا نتحدث عن الزهراء بما هی هی، لا بما هی بالنسبة إلی الآخرین أو نسبة الآخرین إلیها.

وأنا الآن أرید أن استدل علی أفضلیتها (صلوات الله و سلامه علیها) علی جمیع البشر عن طریق فضائلها بالاتصال، لان السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) تمیزت عن غیرها بفضائل سببیة ونسبیة لم تتسنَّ لأحد آخر من البشر).

فکتب محمد مرة أخری: (إذا ممکن تبسط کلامک أکثر لأنی لم أفهم قصدک بالضبط وخصوصا هذه العبارة «الزهراء بما هی هی» ولا أدری أین تعلمتها؟).

 خالد: (إذا سمح لی الأخ أسامة بتبیان المقصد أکن من الشاکرین).

أسامة: (تفضلوا).

خالد: (لو ان أحد الأشخاص کان مشهوراً بین الناس بالعلم أو الشجاعة أو الکرم، فان لهذه الصفات __ العلم والشجاعة والکرم __ فائدتین:

الأولی شخصیة: فحینما یعددون فضائل ذلک الشخص یقولون فلان شجاع


1- قال المناوی فی فیض القدیر شرح الجامع الصغیر ج4 ص555: (وفاطمة فضیلتها بالذات والاتصال وکذا سائر أولاده...).

ص: 205

ومن أهل العلم وهو کریم أیضا، وهذا ما یسمی بالفضائل الذاتیة.

والثانیة عامة: لکل مقربیه وأصدقائه وأهل بیته، فابن العالم یفتخر علی الناس بأنه ابن العالم أو الشجاع أو الکریم الفلانی، وکذلک یفتخر صدیق الکریم والشجاع والعالم علی بقیة الناس، وکذلک تفتخر عشیرة ذلک الشجاع أو العالم أو الکریم علی باقی العشائر بأن ذلک الشجاع أو الکریم أو العالم من أفرادها، وهذا ما یسمی بالاتصال، فکل من یتصل بالعالم أو الکریم أو الشجاع بسبب أو بنسب یفخر علی غیره ممن لیس لهم هذا الاتصال السببی أو النسبی، فهل فهمت الآن؟).

محمد: (نعم، صار الأمر واضحا الآن، شکرا لک).

خالد: (تفضل یا أسامة وأکمل کلامک لان فیه التفاتة مهمة ونوعاً آخر من الأدلة).

أسامة: (شکرا لکم أخی خالد، وأنا من هذا المنطلق کتبت عدة أشیاء سأطرحها وإذا کان عند أی واحد منکم إضافة أو تعلیق علی ما سأذکره فارجو أن لا یبخل بها علینا إتماما للفائدة).

ص: 206

الدلیل الثامن من أدلة تفضیلها علیها السلام؛ لیس لأحد من البشر أب کأبیها وزوج کزوجها صلوات الله وسلامه علیهما

توقف أسامة عن الکتابة لدقیقة ونصف تقریبا، فکتب خالد: (أین صرت یا رجل فنحن فی الانتظار، هل انقطع عندک الخط أم ماذا؟!).

أسامة: (أعتذر عن التأخیر فقد کنت أخرج أوراقی، وأرید أن أبدأ بأول وأهم فضیلة من فضائلها النسبیة والسببیة، وهی کونها صلوات الله وسلامه علیها ابنة سید البشر محمد بن عبد الله صلی الله علیه وآله، وزوجة أفضل البشر بعد النبی الأعظم صلی الله عیه وآله (1).


1- ویدل علی أفضلیته علی جمیع البشر حدیث الطائر المشوی، فقد أخرج ابن عساکر فی تاریخ مدینة دمشق ج42 ص254: (أخبرنا أبو غالب بن البنا أنا أبو الحسین بن الأبنوسی أنا أبو الحسن الدارقطنی نا محمد بن مخلد بن حفص نا حاتم بن اللیث نا عبید الله بن موسی عن عیسی بن عمر القارئ عن السدی نا أنس بن مالک قال: أهدی إلی رسول الله صلی الله علیه وسلم أطیار فقسمها وترک طیرا فقال اللهم ائتنی بأحب خلقک إلیک یأکل معی من هذا الطیر فجاء علی بن أبی طالب فدخل یأکل معه من ذلک الطیر ) وهو حدیث صحیح الإسناد.

ص: 207

فهذه فضیلة لا یشارکها فیها نبی ولا وصی ولا ملک مقرب، فلیس فی آباء الأنبیاء والأوصیاء والصحابة مثل رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فهی أفضل منهم جمیعا بهذا الاعتبار، وکذلک لیس فی نساء العالمین من لها زوج کزوجها (صلوات الله و سلامه علیه)، فأفضلیتها علی سائر البشر نساءً ورجالاً بجمعها لأفضل أب وأفضل زوج فی وقت واحد).

فقال خالد: (صحیح ما تقول یا أخی، وأنا أتذکر عدة محاورات لعدة أئمة علیهم السلام، استعملوا فیها هذا النوع من التفضیل، منهم الإمام الحسن (صلوات الله و سلامه علیه) فی مجلس معاویة(1)، ومنهم الإمام زین العابدین (صلوات الله و سلامه علیه) فی مجلس یزید بن معاویة بعد سبیهم إلی الشام(2)، فکلهم کانوا یؤکدون علی أنهم


1-  روی الشیخ الصدوق فی الأمالی ص245: (ولقد قیل لمعاویة ذات یوم: لو أمرت الحسن بن علی بن أبی طالب، فصعد المنبر فخطب لیتبین للناس نقصه. فدعاه فقال له: اصعد المنبر وتکلم بکلمات تعظنا بها. فقام علیه السلام فصعد المنبر، فحمد الله وأثنی علیه، ثم قال: أیها الناس، من عرفنی فقد عرفنی، ومن لم یعرفنی فأنا الحسن بن علی بن أبی طالب، وابن سیدة النساء فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله، أنا ابن خیر خلق الله، أنا ابن رسول الله، أنا ابن صاحب الفضائل، أنا ابن صاحب المعجزات والدلائل، أنا ابن أمیر المؤمنین، أنا المدفوع عن حقی، أنا وأخی الحسین سیدا شباب أهل الجنة، أنا ابن الرکن والمقام، أنا ابن مکة ومنی، أنا ابن المشعر وعرفات...أنا إمام خلق الله، وابن محمد رسول الله، فخشی معاویة أن یتکلم بعد ذلک بما یفتتن به الناس، فقال: یا أبا محمد، انزل فقد کفی ما جری، فنزل).
2- روی العلامة المجلسی فی بحار الأنوار ج45 ص139: (ثم خطب خطبة أبکی منها العیون، وأوجل منها القلوب، ثم قال: أیها الناس أعطینا ستا وفضلنا بسبع: أعطینا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبة فی قلوب المؤمنین، وفضلنا بأن منا النبی المختار محمدا، ومنا الصدیق، ومنا الطیار، ومنا أسد الله وأسد رسوله، ومنا سبطا هذه الأمة، من عرفنی فقد عرفنی ومن لم یعرفنی أنبأته بحسبی ونسبی أیها الناس أنا ابن مکة ومنی، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الرکن بأطراف الردا، أنا ابن خیر من ائتزر وارتدی، أنا ابن خیر من انتعل واحتفی، أنا ابن خیر من طاف وسعی، أنا ابن خیر من حج ولبی، أنا ابن من حمل علی البراق فی الهوا، أنا ابن من أسری به من المسجد الحرام إلی المسجد الأقصی، أنا ابن من بلغ به جبرئیل إلی سدرة المنتهی، أنا ابن من دنا فتدلی فکان قاب قوسین أو أدنی، أنا ابن من صلی بملائکة السما، أنا ابن من أوحی إلیه الجلیل ما أوحی، أنا ابن محمد المصطفی، أنا ابن علی المرتضی، أنا ابن من ضرب خراطیم الخلق حتی قالوا: لا إله إلا الله أنا ابن من ضرب بین یدی رسول الله بسیفین، وطعن برمحین، وهاجر الهجرتین، وبایع البیعتین، وقاتل ببدر وحنین، ولم یکفر بالله طرفة عین، أنا ابن صالح المؤمنین، ووارث النبیین، وقامع الملحدین، ویعسوب المسلمین، ونور المجاهدین وزین العابدین، وتاج البکائین، وأصبر الصابرین، وأفضل القائمین من آل یاسین رسول رب العالمین، أنا ابن المؤید بجبرئیل، المنصور بمیکائیل، أنا ابن المحامی عن حرم المسلمین، وقاتل المارقین والناکثین والقاسطین، والمجاهد أعداءه الناصبین وأفخر من مشی من قریش أجمعین، وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنین، وأول السابقین، وقاصم المعتدین، ومبید المشرکین، وسهم من مرامی الله علی المنافقین، ولسان حکمة العابدین، وناصر دین الله، وولی أمر الله، وبستان حکمة الله، وعیبة علمه سمح، سخی، بهی، بهلول، زکی، أبطحی، رضی، مقدام، همام صابر، صوام، مهذب، قوام، قاطع الأصلاب، ومفرق الأحزاب، أربطهم عنانا، وأثبتهم جنانا، وأمضاهم عزیمة، وأشدهم شکیمة، أسد باسل، یطحنهم فی الحروب إذا ازدلفت الأسنة، وقربت الأعنة، طحن الرحا ویذروهم فیها ذرو الریح الهشیم، لیث الحجاز، وکبش العراق، مکی مدنی خیفی عقبی بدری أحدی شجری مهاجری، من العرب سیدها ومن الوغی لیثها، وارث المشعرین وأبو السبطین: الحسن والحسین، ذاک جدی علی بن أبی طالب ثم قال: أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سیدة النساء، فلم یزل یقول: أنا أنا، حتی ضج الناس بالبکاء والنحیب، وخشی یزید لعنه الله أن یکون فتنة...).

ص: 208

ص: 209

ینفردون ویتمیزون عن جمیع البشر بارتباطهم بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله، وبأمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه).

أسامة: (ویمکن أن نشتق من هذه الفضیلة فضائل کثیرة لا انتهاء لها، ککونها ابنة خیر خلق الله، وانها ابنة صاحب المعجزات والدلائل، وانها ابنة من أسری به من المسجد الحرام إلی المسجد الأقصی، وانها ابنة من بلغ به جبرئیل إلی سدرة المنتهی، وانها ابنة من دنا فتدلی فکان قاب قوسین أو أدنی، وأنها ابنة من صلی بملائکة السماء، وأنها ابنة من أوحی إلیه الجلیل ما أوحی، إلی آخره، فجمیع فضائل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله یمکن أن تکون فضائل لها أیضا بسبب البنوة.

وکذلک یمکن ان تکون جمیع فضائل الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فضائل لها فی نفس الوقت، فیمکن ان نشتق لها مثلا انها زوجة علی المرتضی،  ومن ضرب خراطیم الخلق حتی قالوا: لا إله إلا الله، وزوجة من ضرب بین یدی رسول الله بسیفین، وطعن برمحین، وهاجر الهجرتین، وبایع البیعتین، وقاتل ببدر وحنین، ولم یکفر بالله طرفة عین، وزوجة صالح المؤمنین، ووارث النبیین، وقامع الملحدین، ویعسوب المسلمین، ونور المجاهدین وزین العابدین، وتاج البکائین، وأصبر الصابرین، وأفضل القائمین من آل یاسین رسول رب العالمین، وزوجة من قاتل المارقین والناکثین والقاسطین، إلی آخر ألقاب وفضائل الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، فکلها فضائل لها أیضا).

محمد: (لقد عودتمونا أن تعطونا روایة صحیحة علی کل دلیل نستدل به

ص: 210

فأین الدلیل علی هذه الفضیلة؟).

فاطمة: (هذا الدلیل لا یحتاج إلی روایة لأنه بدیهی من شریعة الإسلام، فلیس من المسلمین أحد یشک فی ان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) أفضل البشر وأفضل ما خلق الله، وقد مرت علینا فیما سبق أقوال أهل السنة قبل الشیعة بأنه (صلی الله علیه و آله و سلم) أفضل من العرش والکرسی ومن الجنة وما فیها ومن کل شیء خلقه الله سبحانه.

وکذلک لا یوجد شخص شیعی یشک فی ان الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه)  أفضل الخلق بعد النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، وانه أفضل من الملائکة ومن العرش والکرسی أیضا.

بل ان هذا المعنی موجود حتی عند أهل السنة لو کانوا ینصفون، لان روایاتهم تجمع علی ان الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام هو نفس النبی الأعظم بنص آیة المباهلة، وان القرآن قد أثبت له المثلیة والمطابقة مع الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) باستثناء النبوة).

أسامة: (مع أن ما قالته أختنا فاطمة صحیح ومعتبر، إلا أن الروایات لم تغفل عن هذا الأمر، فحینما کنت أقرأ فی المکتبة قبل أیام، قرأت أحادیث تدل علی ان واحدة من فضائل السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) هی کونها ابنة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وزوجة الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه)، فقد أخرج السنة والشیعة عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) قوله لفاطمة (صلوات الله و سلامه علیها): «أَمَا تَرْضَیْنَ یَا فَاطِمَةُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ

ص: 211

اخْتَارَ مِنْ أهل الأَرْضِ رَجُلَیْنِ أَحَدُهُمَا أَبُوکِ وَالآخَرُ زَوْجُکِ»(1)وهذا یفی بالغرض کما أعتقد).

خالد: (بلی یفی أحسنتم).

محمد: (أسامة قال: ان کون السیدة الزهراء هی ابنة النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)  هی فضیلة تنفرد بها علی جمیع الرجال والنساء، وکذلک زواجها من الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) فضیلة تمتاز بها علی جمیع نساء العالمین، ولکنی أری أن هنالک من یشارک السیدة الزهراء بهذه الفضیلة، فبنات النبی الأخریات یشارکن السیدة الزهراء بالبنوة للنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، وکذلک زوجات النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) لان الزواج من النبی أعظم فضلا من الزواج من أمیر المؤمنین لان النبی الأعظم أفضل والزواج من الأفضل أفضل أیضا، وکذلک یشارکها فی الفضل بقیة زوجات الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه)، فکلهن قد اقترن من أمیر المؤمنین کما اقترنت هی منه (صلوات الله و سلامه علیها)).

خالد: (یبدو أنک الیوم غیر مرکز معنا بشکل جید، لأن الأخ أسامة کان دقیقاً فی کلامه، لأنه قال: إن أفضلیتها علی سائر البشر نساءً ورجالاً بجمعها


1- رواه الطبرانی فی المعجم الکبیر (ج11 ص77) (مُحَمَّدُ بْنُ جَابَانَ الْجُنْدِیسَابُورِیُّ،  وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِیٍّ الْمَعْمَرِیُّ ، قالا: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِی نَجِیحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: لَمَّا زَوَّجَ النَّبِیُّ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ عَلِیًّا، قَالَتْ فَاطِمَةُ: یَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوَّجْتَنِی مِنْ رَجُلٍ فَقِیرٍ لَیْسَ لَهُ شَیْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا تَرْضَیْنَ یَا فَاطِمَةُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اخْتَارَ مِنْ أهل الأَرْضِ رَجُلَیْنِ أَحَدُهُمَا أَبُوکِ وَالآخَرُ زَوْجُکِ). الحکم: إسناده حسن ورجاله ثقات عدا الحسن بن علی المعمری وهو صدوق حسن الحدیث.

ص: 212

لأفضل أب وأفضل زوج فی وقت واحد، وبإمکانک أن ترجع إلی ما کتبه الأخ أسامة سابقاً، ولا توجد واحدة من اللاتی ذکرتهن قد جمعت أشرف أب وأشرف زوج فی وقت واحد سواها (صلوات الله و سلامه علیها)).

محمد: (أعتذر فلم أنتبه لهذا الأمر بشکل جید، لأنی لم أعتد بعد علی النقاش عبر الانترنت فکل عمرنا نناقش وجها لوجه).

ص: 213

الدلیل التاسع من أدلة تفضیلها علیهاالسلام؛ لیس لأحد من البشر ولدان هما سیدا شباب أهل الجنة سواها وسوی علیها السلام

أسامة: (ومما فضلت به علی جمیع العالمین أنّ ابنیها الحسن والحسین (صلوات الله و سلامه علیهما) سیدا شباب أهل الجنة((1)، فلم یرد فی حق أولاد أحد من الأنبیاء والأوصیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) والصحابة بأن أولاده سادة شباب أهل الجنة، فهی أفضل من جمیعهم بهذا الاعتبار، ولا یشارکها فی هذا الفضل سوی زوجها أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه))(2).


1- 1: ما رواه احمد بن حنبل فی مسنده قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَیْرِیُّ حَدَّثَنَا یَزِیدُ بْنُ مَرْدَانُبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِی نُعْمٍ عَنْ أَبِی سَعِیدٍ الْخُدْرِیِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم الْحَسَنُ وَالْحُسَیْنُ سَیِّدَا شَبَابِ أهل الْجَنَّةِ) والحدیث صحیح وجمیع رجاله ثقات. وما رواه النسائی فی السنن الکبری: (أخبرنا عمرو بن منصور قال حدثنا أبو نعیم قال حدثنا یزید بن مردانبة عن عبد الرحمن بن أبی نعم عن أبی سعید الخدری قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم (الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة) وهذا أیضا حدیث صحیح وجمیع رجاله ثقات.
2- یوجد تفصیل مهم حول حدیث (الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة) فی کتاب (فضائل أهل البیت علیهم السلام بین تحریف المدونین وتناقض مناهج المحدثین) للمؤلف، وفیه بیان لمحاولات المخالفین المستمرة قدیما وحدیثا لتدمیر هذه الفضیلة وتحطیمها بشتی الوسائل والحیل.

ص: 214

خالد: (یجب أن نضیف النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) إلی کل من السیدة الزهراء والإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیهما)، فقد ورد فی أحادیث کثیرة من الفریقین أن النبی کان یطلق علی الإمامین الحسن والحسین لقب أولادی(1)).

فاطمة: (والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی حسب هذا الدلیل أفضل حتی من بقیة الأئمة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیها)، لأنه لم یرد فی حق واحد منهم أن أبناءه سادة شباب أهل الجنة).

خالد: (نعم أحسنتم هذه التفاتة جمیلة ومهمة).

محمد: (أرید أن سألکم سؤالا ولکنی خجلان وأخاف أن تفهمونی خطأ وتردوا علی بقوة وغلظة).

خالد: (قل ما فی نفسک فقد تعودنا علی أسئلتک (التعبانة) ).

محمد: (إذا قلنا إن کل واحد له امتیاز لا یشارکه فیه أحد من الأنبیاء والمرسلین فهو أفضل منهم، فإن أبی أفضل من الأنبیاء والمرسلین، لأنه یملک سیارة والأنبیاء لا یملکون سیارات، فهل هذا صحیح؟!).


1- عن المستدرک علی الصحیحین للحاکم النیسابوری ج3 ص166: (أخبرنا أحمد بن جعفر القطیعی ثنا أبو جعفر محمد بن علی الشیبانی بالکوفة حدثنی أبو الحسن محمد بن الحسن السبیعی ثنا أبو نعیم الفضل بن دکین ثنا الأعمش عن إبراهیم عن أبی ظبیان عن سلمان رضی الله عنه قال سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله یقول الحسن والحسین ابنای من أحبهما أحبنی ومن أحبنی أحبه الله ومن أحبه الله أدخله الجنة ومن أبغضهما أبغضنی ومن أبغضنی أبغضه الله ومن أبغضه الله أدخله النار * هذا حدیث صحیح علی شرط الشیخین ولم یخرجاه).

ص: 215

أسامة: (أستغفر الله ما هذا الکلام یا رجل؟! إذا لم یکن عندک کلام مفید فاقترح أن تسکت أفضل، فالسکوت من ذهب).

محمد: (ألم أقل لکم إنکم ستفهمونی بشکل خاطئ وستردون علی بغلظة).

خالد: (علی مهلک یا أسامة، فأخونا محمد فی قلبه شبهة یجب ردها بالمنطق والعقل وإلا ترکت فی نفسه أثرا سیئاً).

محمد: (هذا هو الکلام الصحیح والآن ساعدنی فی رد هذه الشبهة فقد دخل الشیطان فی قلبی).

خالد: (الأشیاء التی نبحث عنها منذ بدایة جلساتنا هی الفضائل، ولکی یکون الشیء فضیلة یجب أن یحکم الله سبحانه بأنه فضیلة، والدین قد حکم بأفضلیة بعض الأشیاء ولم یحکم بالأفضلیة علی بعضها الآخر.

فعلی سبیل المثال قد حکم الله سبحانه بالفضیلة علی التقوی والصبر والعبادة وغیر ذلک من الصفات والأفعال، بینما لم یحکم بأفضلیة امتلاک الإنسان لکثرة المال وکثرة الأولاد وقوة العضلات وأشباه هذه الأمور الدنیویة، بل قد وردت آیات کثیرة تنص علی أن هذه الأمور هی من زینة الحیاة الدنیا ومن الأمور التی یبتلی بها الله سبحانه بعض عباده.

فکم من کافر کان أکثر أموالاً من الأنبیاء، وکم من کافر کان أکثر أولاداً من الأنبیاء، او کان یملک من الخیل والبغال والبیوت أکثر من أنبیاء زمانه، لکن لا نجد أحداً من العقلاء عدّ هؤلاء الأغنیاء أفضل من الأنبیاء.

ص: 216

إذن فالفضل والتفاضل المعتد به شرعاً یجب أن یکون فی الأمور التی عدّها الله سبحانه فضائل لا مطلق الزیادة والفضل فی أمور الدنیا ومتعلقاتها، وکون أبیک یملک سیارة أو دراجة ناریة لا یجعله أفضل من الأنبیاء والعیاذ بالله، لأنه لیس فی امتلاک السیارة فضیلة عند الله سبحانه، وهی من زینة الحیاة الدنیا التی لا تقدم ولا تؤخر شیئاً عند الله سبحانه.

ولو کان کلامک صحیحا لکان کثیر من الکفار والیهود أو غیرهم من عبدة البقر والأوثان أفضل من أبیک، لان أباک یملک سیارة واحدة وقدیمة، وبعضهم یملک اثنتین وبعضهم یملک عشرة بل وبعضهم یصنع السیارات فیملک ملایین السیارات فهم أفضل من أبیک بملایین المرات فهل تقبل بهذه النتیجة؟).

محمد: (بالطبع لا أقبل، فأبی أفضل من کل کافر علی الأرض فعلی أقل التقادیر هو مسلم موحد وموالٍ لأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)).

خالد: (أحسنت، فکذلک الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) أفضل من أبیک ومن کل البشر بما فضلهم الله سبحانه، والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أفضل منهم، لأنها زادت علیهم فی الفضائل التی هی عند الله معتبرة لا لکونها تمتلک سیارة أو مصنعاً، فهل فهمت الآن؟).

محمد: (نعم فهمت جزاک الله خیرا).

فاطمة: (إضافة إلی ما قلته یا خالی العزیز فنحن نتکلم حول فضائل تنفرد بها السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی جمیع البشر، وامتلاک سیارة أو طیارة لیس داخلا فی موضوعنا فملایین الأشخاص یمتلکون السیارات والدراجات وغیر ذلک

ص: 217

من وسائل النقل العصریة، فهی امتیازات عادیة یشترک فیها أغلب الناس ولا تدخل فی بحثنا).

أسامة: (ویمکن لنا أیضا ان نشتق من هذه الفضیلة فضائل کثیرة لا انتهاء لها، فجمیع فضائل الإمامین الحسن والحسین (صلوات الله و سلامه علیهما) هی فضائل لها أیضا، کأم سید الشهداء، وأم ریحانتی النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)(1)، وأم من حبهما حب النبی وبغضهما بغض النبی (صلی الله علیه و آله و سلم)(2)، وغیر ذلک من فضائلهم (صلوات الله و سلامه علیهما)).


1- راجع الکافی للشیخ الکلینی ج6 ص2: (علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن النوفلی، عن السکونی، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: الولد الصالح ریحانة من الله قسمها بین عباده وإن ریحانتی من الدنیا الحسن والحسین،  سمیتهما باسم سبطین من بنی إسرائیل شبرا وشبیرا). وعن الهیثمی فی مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج9 ص181: (وعن سعد - یعنی ابن أبی وقاص - قال دخلت علی رسول الله صلی الله علیه وسلم والحسن والحسین یلعبان علی بطنه فقلت یا رسول الله أتحبهما؟ فقال ومالی لا أحبهما وهما ریحانتای؟!. رواه البزار ورجاله رجال الصحیح).
2- راجع سنن ابن ماجة لمحمد بن یزید القزوینی ج1 ص51: (حدثنا علی بن محمد . ثنا وکیع، عن سفیان، عن داود بن أبی عوف أبی الجحاف، وکان مرضیا، عن أبی حازم، عن أبی هریرة، قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم من أحب الحسن والحسین فقد أحبنی، ومن أبغضهما فقد أبغضنی. فی الزوائد: إسناده صحیح، رجاله ثقات).

ص: 218

الدلیل العاشر من أدلة تفضیلها علیها السلام؛ أنها وأمها سیدتا نساء أهل الجنة

أسامة: (ومما یفضلها (صلوات الله و سلامه علیها) علی جمیع نساء العالمین کونها وأمها خدیجة (صلوات الله و سلامه علیها) سیدتی نساء أهل الجنة، وهی فضیلة ارتفعت بها علی سائر الصحابیات وسائر النساء من تقدمها ومن تأخر عنها إلی یوم القیامة، فلم یجتمع لبنت وأمها لقب سیدة نساء أهل الجنة إلاّ للسیدة الزهراء وأمها خدیجة (صلوات الله و سلامه علیهما)).

خالد: (أحسنت أخی أسامة وقد ورد فی وصفهما بسیدتی نساء أهل الجنة أحادیث صحیحة عند المخالف قبل الموالی، وقد اعترف عدة علماء بصحة هذه الأحادیث(1) )


1- أخرج الهیثمی فی مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج9 ص223 حدیثا اعترف بصحته قائلا: (وعن ابن عباس قال خط رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فی الأرض أربعة خطوط فقال أتدرون ما هذا؟ فقالوا الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: أفضل نساء أهل الجنة خدیجة بنت خویلد وفاطمة ابنة محمد صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ومریم ابنة عمران وآسیة ابنة مزاحم امرأة فرعون. رواه أحمد وأبو یعلی والطبرانی ورجالهم رجال الصحیح). وروی فی مسند أحمد بن حنبل  ج5 ص391: (حَدَّثَنَا حُسَیْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِیلُ عَنْ مَیْسَرَةَ بْنِ حَبِیبٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَیْشٍ عَنْ حُذَیْفَةَ قَالَ: سَأَلَتْنِی أُمِّی مُنْذُ مَتَی عَهْدُکَ بِالنَّبِیِّ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قَالَ فَقُلْتُ لَهَا مُنْذُ کَذَا وَکَذَا قَالَ فَنَالَتْ مِنِّی وَسَبَّتْنِی قَالَ فَقُلْتُ لَهَا دَعِینِی فَإِنِّی أَاتِی النَّبِیَّ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فَأُصَلِّی مَعَهُ الْمَغْرِبَ ثُمَّ لا أَدَعُهُ حَتَّی یَسْتَغْفِرَ لِی وَلَکِ قَالَ فَأَتَیْتُ النَّبِیَّ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فَصَلَّیْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ فَصَلَّی النَّبِیُّ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم الْعِشَاءَ ثُمَّ انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ فَعَرَضَ لَهُ عَارِضٌ فَنَاجَاهُ ثُمَّ ذَهَبَ فَاتَّبَعْتُهُ فَسَمِعَ صَوْتِی فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقُلْتُ حُذَیْفَةُ قَالَ مَالَکَ فَحَدَّثْتُهُ بِالأَمْرِ فَقَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَکَ وَلأُمِّکَ ثُمَّ قَالَ أَمَا رَأَیْتَ الْعَارِضَ الَّذِی عَرَضَ لِی قُبَیْلُ قَالَ قُلْتُ بَلَی قَالَ فَهُوَ مَلَکٌ مِنْ الْمَلَائِکَةِ لَمْ یَهْبِطْ الأَرْضَ قَبْلَ هَذِهِ اللَّیْلَةِ فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ یُسَلِّمَ عَلَیَّ وَیُبَشِّرَنِی أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَیْنَ سَیِّدَا شَبَابِ أهل الْجَنَّةِ وَأَنَّ فَاطِمَةَ سَیِّدَةُ نِسَاءِ أهل الْجَنَّةِ رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ) والحدیث صحیح وکل رجاله ثقات.

ص: 219

).(1)

محمد: (ألیست مریم بنت عمران وآسیة بنت مزاحم سیدتی نساء أهل الجنة أیضا فکیف تقول إن هذه الفضیلة تنفرد بها السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)).

خالد: (وقعت یا أخی محمد فی نفس الخطأ السابق، فالأخ أسامة کان یقصد أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) تنفرد عن نساء العالمین بأنها سیدة نساء وابنة سیدة نساء أهل الجنة فی نفس الوقت، أی إن السیدة الزهراء جمعت شرف السیادة بالذات وبالنسب، ومریم وآسیة بالذات فقط).

وقالت فاطمة: (بناءً علی هذا فالسیدة خدیجة أیضا أفضل من مریم وآسیة، لأنها جمعت بین کونها سیدة نساء أهل الجنة وأم سیدة نساء أهل الجنة أیضا، وکما قلت یا خالی فإنها (صلوات الله و سلامه علیها) جمعت بین شرف السیادة بالذات وبالنسب).

فکتب خالد: (أحسنتم؛ دلیل جمیل وتطبیق أجمل).


1- یوجد تفصیل مهم حول هذا الحدیث فی کتاب (فضائل أهل البیت علیهم السلام بین تحریف المدونین وتناقض مناهج المحدثین) للمؤلف، وفیه بیان لمحاولات المخالفین المستمرة قدیما وحدیثا لتدمیر هذه الفضیلة وتحطیمها بشتی الوسائل والحیل، فحذفت من بعض الکتب والصحاح واستبدلت فی کتب أخری بفضیلة لعائشة، وضعفت أسانیدها علی رغم صحتها وکذب رواته علی رغم وثاقتهم إلی غیر ذلک من أسالیب وطرق استعرضناها هنالک مفصلا فراجع.

ص: 220

الدلیل الحادی عشر: انحصار ذریة النبی صلی الله علیه وآله منها ومن بعلها علیهما السلام

أسامة: (کلنا یقرأ سورة الکوثر ویحفظها، وکلنا یعلم أن سبب نزولها هو ان العاص بن وائل لعنه الله عاب علی النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد موت ولده بأنه أبتر لا عقب له، یموت فنستریح منه، ویدرس ذکره، إذ لا یقوم مقامه من یدعو إلیه فینقطع أمره. لکن الله سبحانه کذب أحدوثتهم، وخیب مناهم، ورزقه السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، فکثرت بسببها ذریته، حتی صارت ذریته أکثر من کل ذریة ونسبه أکبر من کل نسب، وعلا بهم دینه وانتشر بفضلهم أمره، وهو فضل یعلو کل فضل.

والله سبحانه لم یرزق نبیه الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) الذریة علی الرغم من زواجه (صلی الله علیه و آله و سلم) بنساء من قبائل شتی وأصناف مختلفة، فلولا فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) لصدق قول ذلک الکذاب ولتحققت أمانی کفار قریش بذهاب ذکر النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) بمجرد موته).

ص: 221

فاطمة: (ونفس هذه الفضیلة یمکن أن تقال للسیدة خدیجة، فهی أفضل من جمیع نساء النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) لان الله رزقه منها الذریة الطیبة الطاهرة ولم یرزقه من غیرها).

محمد: (انا سألت مرة أستاذنا فی المدرسة عن سورة الکوثر فیمن نزلت ومن الذی عاب علی النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) ووصفه بأنه أبتر، فقال إن قریشاً هی التی عابت علی رسول الله بأنه أبتر(1)، وانتم تقولون أن العاص بن وائل هو الذی عاب علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله، فأیهما نصدق؟).

خالد: (بالطبع نصدق کلام علمائنا رضوان الله وتعالی علیهم، فقد صرح جمع کبیر منهم بأن الذی عاب علی النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) هو العاص بن وائل لعنه الله، وتوجد أقوال أخری بأن الذی عاب علی النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) هو ابنه عمرو ابن العاص لعنه الله، وقد فضحهم القرآن الکریم بأنهم أحق بوصف الأبتر منه (صلی الله علیه و آله و سلم)).

محمد: (لحظة من فضلک، ألیس المقصود من الأبتر هو من لا ولد له؟).

خالد: (نعم، ویوجد معنی آخر، فالأبتر قد یطلق ویراد منه المنقطع عن الخیر، ومن لیس فیه خیر یرتجی).

محمد: (فکیف یکون العاص بن وائل ابتر لا عقب له ویکون عمرو بن


1- ذهب أکثر مفسری أهل السنة إلی ان الذی وصف النبی الأعظم بأنه ابتر هم کفار قریش، لیذهبوا بتلک الشبهة عن العاص بن وائل ولذلک لیحافظوا علی ماء وجه عمرو بن العاص کی لا یثبت بأنه ولد من الزنا أعاذنا الله وجمیع المؤمنین منه.

ص: 222

العاص ابنه، وکیف یکون عمرو بن العاص أبتر ویکون له ولد أیضا اسمه عبد الله، ألیس هذا تناقضاً ما بین النص القرآنی وما بین الواقع المثبت تاریخیاً؟!).

خالد: (هاهنا یا أخی تسکب العبرات، وها هنا یثبت ظلم التاریخ وتزویره، فعلی الرغم من أن القرآن الکریم قد شهد بأن العاص بن وائل أبتر لا ینجب، وان عمرو بن العاص مثله، إلا ان المؤرخین ونتیجة للتعصب المذهبی یکذبون القرآن الکریم ویثبتون للعاص ولعمرو بن العاص الولد فیکذبون بذلک القرآن بقصد أو من دون قصد).

محمد: (لعلک یا أخی متحامل علی الرجلین فتقول ما تقول من غیر دلیل، فلو کان کلامک معقولا فکیف غاب عن المؤرخین وعن أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) أن عمرو بن العاص والعاص بن وائل أبتران لا عقب لهما).

خالد: (أما کونی متحاملاً علی الرجلین فصحیح، وذلک لأنهما کانا أعدی أعداء محمد وأهل بیته (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وأکثر المتحاملین علیهم، وأنا عدو لمن عاداهم وولی لمن والاهم، ولکن تحاملی علیهم وعداوتی لهم لا یستدعیان أن أقول علیهما غیر الحق، إضافة إلی أن أمرهما مشهور، وقد وردت روایة فی کتاب الاحتجاج عن الإمام الحسن (صلوات الله و سلامه علیه) تفضح أمرهما جاء فیها: «... وأما أنت یا عمرو بن العاص الشانی اللعین الأبتر، فإنما أنت کلب أول أمرک، أن أمک بغیة، وأنک ولدت علی فراش مشترک، فتحاکمت فیک رجال قریش منهم أبو سفیان بن الحرب، والولید بن المغیرة، وعثمان بن الحرث، والنضر بن الحرث بن کلدة، والعاص بن وایل، کلهم یزعم أنک ابنه، فغلبهم علیک من بین قریش ألأمهم حسبا،

ص: 223

وأخبثهم منصبا، وأعظمهم بغیة، ثم قمت خطیبا وقلت: أنا شانی محمد، وقال العاص بن وایل: إن محمدا رجل أبتر لا ولد له، فلو قد مات انقطع ذکره، فأنزل الله تبارک وتعالی: "إِنَّ شَانِئَکَ هُوَ الْأَبْتَرُ" وکانت أمک تمشی إلی عبد قیس تطلب البغیة، تأتیهم فی دورهم ورجالهم وبطون أودیتهم».

فهذا النص یثبت أن عمرو بن العاص هو لیس الولد الشرعی للعاص بن وائل السهمی، ویثبت أیضا أن العاص بن وائل وعمر بن العاص کلاهما قد عاب علی النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ووصفه بالأبتر، وان کلیهما شهد له القرآن بأنه أبتر، وعلیه فیثبت أن من ینتسب إلیهما لیس بولد لهما علی الحقیقة، والحر تکفیه الإشارة(1)).


1- وللشیخ الأمینی فی کتابه الغدیر ج2 ص120 کلام مفصل حول نسب عمرو بن العاص ومواقفه المخزیة فی حق النبی الأعظم وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

ص: 224

الدلیل الثانی عشر: إن الأئمة علیهم السلام من ذریتها

أسامة: (وقد فضلت السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بأن جعل الله سبحانه الأئمة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من ذریتها، وهذا فضل لم یشارکها فیه أحد من الناس أجمعین إلا النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه)).

محمد: (سأسبق اختنا فاطمة بقول اننا یمکن أن نشتق من هذه الفضیلة فضائل أخری لا تعد ولا تحصی، فجمیع فضائل أئمة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) هی فضائل لها أیضا، فیمکن أن نشتق لها مثلا بأنها أم سید الساجدین، وأم من بقر العلم بقرا، وأم من هم أفضل من الملائکة وأولی العزم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وأم من استقام بهم الدین، وأم حجج الله علی العالمین، وغیر ذلک فکل فضیلة وکل خصوصیة وکل صفة ینفرد بها أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یمکن أن تکون فضیلة للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، أیضا، ألیس کلامی صحیحا هذه المرة؟).

خالد: (نعم صحیح، وأحسنت علی هذا الاستنتاج).

ص: 225

الدلیل الثالث عشر: إنها زوجة سید الأئمة وأم الأئمة علیهم السلام

فاطمة: (وأحب أن أضیف أیضا أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لیست هی أم الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فحسب بل وزوجة إمام فی نفس الوقت، وهو سیدهم وخیرتهم وأولهم، وکل هذه الفضائل مما تنفرد به (صلوات الله و سلامه علیها) ولا یشارکها فیه أحد من العالمین).

ص: 226

الدلیل الرابع عشر: إن المهدی علیه السلام من ذریتها

اشارة

أسامة: (ومن جملة فضائلها التی امتازت وشرفت بها علی سائر النساء وغیرهن أن المهدی (صلوات الله و سلامه علیه) من ذریتها، وهو الذی سیملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً ویحقق آمال الأنبیاء وأمانی المؤمنین منذ أول الخلیقة إلی یوم ظهوره عجل الله تعالی له الفرج).

خالد: (أرید أن أوضح أمراً مهما ما دام الکلام قد انجر إلی ذکر الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه، فقد کنت أتناقش مع أحد السنة السلفیین حول الإمام المهدی (صلوات الله و سلامه علیه) وغیبته وولادته، وهو کعادة بقیة أتباع هذا المذهب یعمیهم التعصب ویرمون بالتهم من دون تحقق، عاب علینا القول بولادته وبقائه حیاً إلی وقتنا هذا، وقال بأن أهل السنة یقولون بأنه سیولد فی آخر الزمان، فقلت له: أنا أتحداک واتحدی علماءک أن یأتوا بدلیل واحد من کتبکم وصحاحکم عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) أو أحد الصحابة حتی وان کان هذا الصحابی منافقاً یصرح فیه ان المهدی سیولد آخر الزمان وقبل خروجه شأنه شأن بقیة الناس، فذهب یومین ثم عاد من غیر أن یأتی بدلیل صریح فی أن المهدی (صلوات الله و سلامه علیه) سیولد قبل ظهوره بقلیل).

ص: 227

 فاطمة: (وهل یعقل انه لیس لدیهم دلیل من الروایات حتی ولو کان مکذوباً أو ضعیفاً یثبت أن مهدیهم سیولد آخر الزمان، مع العلم أن القول بولادته آخر الزمان متسالم به عندهم ولا یعتقدون بغیره؟! ان هذا لشیء عجیب!).

خالد: (نعم لیس لدیهم دلیل علی ذلک، ولم یقله النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) ولا واحد من الصحابة حتی المنافقون منهم، وفی هذا دلیل علی أن القول بولادته (صلوات الله و سلامه علیه) آخر الزمان لم یکن علی عهد النبی ولا خلفائهم ولا الصحابة، وانه قول مخترع أوجد عناداً لأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وأتباعهم القائلین بولادته قبل ذلک وبقائه، وأنا ما زلت حینما أدخل إلی منتدیات السلفیین أتحداهم بأن یأتونی بدلیل روایة أو قول للنبی أو أحد الصحابة یصرح بذلک، ولم ولن یأتوا بذلک لأنه لا وجود له).

فاطمة: (ولکنهم ذکروا عدة أحادیث تقول بأن الساعة لا تقوم حتی تمتلئ الأرض ظلما وعدوانا ثم یخرج أو یملک أو یظهر رجل من أهل بیتی أو عترتی فیملؤها قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وعدواناً، ألا یعدّ هذا دلیلاً علی ولادته آخر الزمان؟).

خالد: (هذا الحدیث یتکلم عن خروج أو ظهور أو ملک الإمام المهدی (صلوات الله و سلامه علیه) ولیس عن ولادته، فیمکن __ وهو الحق __ أن یکون مولوداً منذ أکثر من ألف سنة کما نقول نحن ولکنه یخرج ویملک ویظهر آخر الزمان، وبعبارة أخری فإن خروجه وملکه وظهوره فی آخر الزمان وقبل القیامة لا یعد دلیلاً علی ولادته المتأخرة، فالولادة والخروج موضوعان مختلفان بالکلیة، وعلیه فلا یمکن

ص: 228

لهم أن یستدلوا بخروجه فی آخر الزمان علی ولادته المتأخرة، لان خصوم هذا القول أیضا یقولون بخروجه آخر الزمان مع ولادته قبل ذلک بقرون کثیرة).

أکمل خالد هذه العبارات وختمها بقوله: (صارت الساعة الحادیة عشرة لیلاً، وأرجو أن ننهی الکلام لان لدی امتحاناً غداً ویجب أن أتهیأ له، وسنلتقی غداً فی نفس الموعد إن شاء الله).

بعض فضائلها (صلوات الله و سلامه علیها) المستفادة بشکل غیر مباشر

جاء الیوم الثانی، وجاءت الساعة التاسعة مساءً، واجتمع أصحاب الشأن، وبعد السؤال عن الحال والأحوال کتب خالد: (لا أدری إن کان لدی أخینا أسامة إضافات أخری علی أدلة یوم أمس؟).

أسامة: (کل أدلتی قد عرضتها البارحة ولا یوجد عندی الیوم شیء إضافی).

خالد: (هل عند البقیة أدلة جدیدة أو توضیحات إضافیة أو أسئلة أخری تضیفونها لما سبق؟).

فأجاب الجمیع بالنفی.

خالد: (یظهر أنکم لا تجتهدون فی البحث بما یکفی وهذا سیؤثر علی استمراره، فان أحببتم أن یستمر البحث فعلیکم أن تتعبوا أنفسکم أکثر).

فکتب الجمیع بالاعتذار والوعد بالاجتهاد والجدیة أکثر.

ص: 229

الدلیل الخامس عشر: الأئمة أفضل من الأنبیاء والزهراء أفضل منهم فالزهراء أفضل من الأنبیاء

فکتب خالد: (الیوم وفی أثناء رجوعی من الدرس فکرت بطریقة جدیدة للاستدلال علی فضائلها (صلوات الله و سلامه علیها)، وهی شبیهة بالطریقة التی استخدمها الأخ أسامة یوم أمس، فنحن نستطیع أن نستخرج جملة من فضائلها (صلوات الله و سلامه علیها) بطریقة غیر مباشرة).

أسامة: (ماذا تقصد بالطریقة غیر المباشرة؟ هل یمکن أن توضح أکثر؟).

خالد: (ذلک سیتضح من خلال هذا الدلیل الذی سأقدمه، فقد تعارف عند علماء مذهبنا ومحققیهم:

1: أن الأئمة الاثنی عشر (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) أفضل من جمیع الأنبیاء والرسل (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) حتی أولی العزم منهم باستثناء نبینا الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) لأنه أفضل الخلق أجمعین.

2: وقد تعارف عندهم أیضا أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أفضل من الأئمة

ص: 230

(صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) باستثناء الإمام أمیر المؤمنین فانه کفؤها والمساوی لها.

3: وعلیه، فتکون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أفضل من جمیع الأنبیاء والرسل (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) حتی من أولی العزم، لأن الأفضل من الأفضل أفضل قطعا).

فکتب محمد کعادته وبسرعة: (وهل تستطیع یا أخی خالد أن تبرهن لنا علی کل واحدة من النقاط التی کتبتها؟).

خالد: (لقد عرفت مسبقا بأنک ستعترض ولذلک کتبت دلیلی مسبقاً علی کل قول کتبته، فأما دلیلی علی کون النبی والأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) أفضل من جمیع الأنبیاء والرسل حتی أولی العزم منهم، بل وأفضل المخلوقات جمیعا هو ما قاله الشیخ الصدوق فی کتابه الهدایة: «ویجب أن یعتقد أن الله تعالی لم یخلق خلقا أفضل من محمد صلی الله علیه وآله وسلم ومن بعده الأئمة صلوات الله علیهم، وأنهم أحب الخلق إلی الله عز وجل وأکرمهم علیه، وأولهم إقرارا به لما أخذ الله میثاق النبیین فی الذر... وأن الله أعطی ما أعطی کل نبی علی قدر معرفته بنبینا صلی الله علیه وآله وسلم... ویعتقد أن الله تبارک وتعالی خلق جمیع ما خلق له ولأهل بیته صلی الله علیه وآله وسلم، وأنه لولاهم ما خلق الله السماء والأرض، ولا الجنة ولا النار، ولا آدم ولا حواء، ولا الملائکة، ولا شیئاً مما خلق، صلوات الله علیهم أجمعین»(1).

وقول العلامة المجلسی فی بحار الأنوار: « وأکثر علماء الإمامیة بل کلهم


1- الهدایة للشیخ الصدوق ص25.

ص: 231

قائلون بأن أئمتنا علیهم السلام أفضل من سائر الأنبیاء سوی نبینا صلی الله علیه وآله»(1).

وقال (رضوان الله تعالی علیه) فی موضع آخر من بحاره: «وکون أئمتنا علیهم السلام أفضل من سائر الأنبیاء، هو الذی لا یرتاب فیه من تتبع أخبارهم علیهم السلام علی وجه الإذعان والیقین، والأخبار فی ذلک أکثر من أن تحصی، وإنما أوردنا فی هذا الباب قلیلا منها، وهی متفرقة فی الأبواب لاسیما باب صفات الأنبیاء وأصنافهم علیهم السلام، وباب أنهم علیهم السلام کلمة الله، وباب بدو أنوارهم وباب أنهم أعلم من الأنبیاء، وأبواب فضائل أمیر المؤمنین وفاطمة صلوات الله علیهما، وعلیه عمدة الإمامیة، ولا یأبی ذلک إلا جاهل بالأخبار»(2).

وهنالک أقوال أخری لعلمائنا (رضوان الله تعالی علیهم) لا أذکرها خوف الإطالة، فهل اقتنعت بهذه النقطة؟).

محمد: (نعم اقتنعت ما دام أن عظماء علمائنا شهدوا بذلک وأقروه).

خالد: (وأما أفضلیة السیدة الزهراء علی جمیع الأئمة باستثناء الإمام أمیر المؤمنین فله عدة أدلة أختار منها الروایة المرویة عن الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) حینما خاطب الحوراء زینب (صلوات الله و سلامه علیها) یوم عاشوراء بقوله:«... أَنَّ أهل الأَْرْضِ یَمُوتُونَ، وَأَنَّ أهل السَّماءِ لا یَبْقُونَ، وَأَنَّ کُلَّ شَیْء هالِکٌ إِلاّ وَجْهَ اللهِ الَّذی خَلَقَ الأَْرْضَ بِقُدْرَتِهِ، وَیَبْعَثُ الْخَلْقَ فَیَعُودُونَ، وَهُوَ فَرْدٌ وَحْدَهُ، أبی خَیْرٌ مِنّی، وَأُمّی خَیْرٌ


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج21 ص284.
2- المصدر السابق ج26 ص298.

ص: 232

مِنّی، وَأَخی خَیْرٌ مِنّی، وَلی وَلَهُمْ وَلِکُلِّ مُسْلِم بِرَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ... »(1).

فهذا إقرار من المعصوم (صلوات الله و سلامه علیه) بأن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أفضل منه، علماً أن الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) إجماعا أفضل من جمیع الأئمة التسعة المولودین منه (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فتکون السیدة الزهراء أفضل منهم أیضاً.

والدلیل الثانی علی أفضلیتها (صلوات الله و سلامه علیها) علی جمیع الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) هی الروایة الصحیحة المرویة عن یونس بن ظبیان، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «سمعته یقول: لو لا أن الله تبارک وتعالی خلق أمیر المؤمنین علیه السلام لفاطمة علیه السلام ما کان لها کفؤ علی ظهر الأرض آدم فمن دونه»(2)، فهی (صلوات الله و سلامه علیها) مساویة للإمام أمیر المؤمنین فی مرتبة الفضل والتکامل، وقد أجمعت الطائفة علی ان الإمام أمیر المؤمنین أفضل من جمیع الأئمة، فتکون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أفضل منهم أیضا، فهل أنت مقتنع بهذا الدلیل یا محمد؟).

محمد: (استنتاجک واستفادتک من الروایة متینة ومقبولة وأنا متفق معک أیضا).

خالد: (فإذا جمعنا المقدمتین صارت النتیجة یقینیة، فالزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أفضل من الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، والأئمة أفضل من الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فالزهراء أفضل من الأنبیاء).

فاطمة: (وإذا کانت السیدة الزهراء أفضل من الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فهذا


1- الإرشاد للشیخ المفید ج2 ص94.
2- الکافی للشیخ الکلینی ج1 ص461.

ص: 233

یعنی أمرین مهمین:

الأمر الأول: أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أفضل من جمیع أفراد أمم الأنبیاء السابقین حتی أوصیائهم وشهدائهم وعلمائهم رجالهم ونسائهم، لان نبی کل أمة أفضل من أفراد أمته، والأفضل من الأفضل أفضل من الجمیع من باب أولی.

الأمر الآخر: أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أفضل من الصحابة نساءً ورجالاً، لان إجماع المسلمین قائم علی أن الأنبیاء أفضل من الصحابة والتابعین وبقیة الناس إلی یوم القیامة، وکما کررنا مرارا والأفضل من الأفضل أفضل من باب أولی).

خالد: (أحسنت یا فاطمة، فهذه تتمة للاستدلال مهمة ولطیفة).

أسامة: (ویثبت أیضا أن السیدة الزهراء ثالث أفضل موجود فی الکون بعد النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) وان جمیع الخلق من آدم إلی آخر مخلوق إلی یوم القیامة هم دون منزلتها وفضلها).

خالد: (أحسنت، کلام مقبول مائة بالمائة).

ص: 234

الدلیل السادس عشر: النبی الأعظم  صلی الله علیه وآله أفضل الخلق وفاطمة بضعة منه فتکون أفضل من جمیع الخلق أیضا

خالد: (وقد تواتر عند المسلمین بجمیع طوائفهم أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بضعة النبی المصطفی (صلی الله علیه و آله و سلم)(1)، والبضعة هی القطعة والجزء من


1- قال الشیخ الصدوق فی کتابه الاعتقادات فی دین الإمامیة ص105: (وأما فاطمة صلوات الله علیها فاعتقادنا فیها أنها سیدة نساء العالمین من الأولین والآخرین، وأن الله یغضب لغضبها، ویرضی لرضاها، وأنها خرجت من الدنیا ساخطة علی ظالمیها وغاصبیها ومانعی إرثها. وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: (إن فاطمة بضعة منی، من آذاها فقد آذانی، ومن غاظها فقد غاظنی، ومن سرها فقد سرنی). وقال النبی صلی الله علیه وآله وسلم: (إن فاطمة بضعة منی، وهی روحی التی بین جنبی، یسوؤنی ما ساءها، ویسرنی ما سرها). وعن تواتر حدیث البضعة یقول الشیخ جعفر کاشف الغطاء ج1 ص97: (وروی فی حقّها ما تواتر نقله بین الفریقین عن النبیّ صلَّی اللَّه علیه وآله وسلم أنّه قال: « فاطمة بضعة منّی، من آذاها فقد آذانی، ومن آذانی فقد آذی اللَّه»). وقد روی المخالفون حدیث البضعة فی صحاحهم ومسانیدهم وسننهم، منهم البخاری الذی روی فی صحیحه ج4 ص210: (حدثنا أبو الولید حدثنا ابن عیینة عن عمرو بن دینار عن ابن أبی ملیکة عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلی الله علیه _ وآله _ وسلم قال فاطمة بضعة منی فمن أغضبها أغضبنی). وروی مسلم فی صحیحه أیضا ج7 ص141: (حدثنی أبو معمر إسماعیل بن إبراهیم الهذلی حدثنا سفیان عن عمرو عن ابن أبی ملیکة عن المسور بن مخرمة قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم: إنما فاطمة بضعة منی یؤذینی ما آذاها).

ص: 235

الشیء، فتکون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) قطعة من النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وجزءاً من أجزائه المبارکة، وبما ان ألنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) أعظم موجود خلقه الله سبحانه وأن شرفه وفضله یفوق علی شرف العرش وفضل الکرسی والجنة وما فیها والکون وما یحویه، فتکون أجزاؤه کلها أفضل من کل ذلک أیضا، والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) قطعة منه فتکون لها نفس هذه الأفضلیة والشرف علی کل جزء من أجزاء الکون حتی العرش والکرسی والجنة والإنس والجان فضلاً عن الأنبیاء والمرسلین وجمیع أفراد أممهم من لدن آدم (صلوات الله و سلامه علیه) إلی یوم القیامة).

أسامة: (طبعا باستثناء النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه)).

خالد: (صحیح وأنا لم أذکر ذلک لأنه قد تم تکراره مرات کثیرة، فاعتمدت علی نباهتکم وقد فهمتموها من دون إشارة والحمد لله).

فاطمة: (لکن هذه الفضیلة للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) قد شوهتها أقلام المخالفین وکتبهم، فقد ذکروا أن الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) أراد أن یتزوج ابنة أبی جهل عدو الله وعدو الرسول، فآذی بذلک فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) حتی

ص: 236

اشتکته إلی النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، فنهاه النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وهدده وحذره بأن فی أذی فاطمة أذاه (صلی الله علیه و آله و سلم)(1)، فأرادوا بذلک أن یفهموا المسلمین بأن الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) کان یؤذی فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها)، وان علاقتهما الزوجیة کانت متوترة، وأن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) کان دائم الانزعاج منه).

خالد: (هذه هی عادة المخالفین، یقتلون ویقبحون کل جمیل یرتبط بأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، ولأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فی الأنبیاء الماضین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وفی نبینا (صلی الله علیه و آله و سلم) أسوة حسنة، لان هذه الکتب والأقلام التی شوهت صورة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) قد تناولت ذات الله سبحانه بما لا یلیق، فقالوا إنه جسم، وإنّ له یداً کید البشر، ورجلاً کأرجلهم، وتناولت أیضا الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بما لا یلیق بهم، فنسبوا یوسف إلی انه همَّ بالزنا، واتهموا داود إلی أنه تبع الطیر حتی نظر إلی امرأة أوریا فهواها، وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتی قتل ثم تزوج بها، واتهموا النبی الأعظم بالهجر والهذیان ساعة وفاته، واتهموا کل


1- أخرج البخاری فی صحیحه ج4 ص213: (حدثنا أبو الیمان أخبرنا شعیب عن الزهری قال حدثنی علی بن حسین ان المسور بن مخرمة قال إن علیا خطب بنت أبی جهل فسمعت بذلک فاطمة فأتت رسول الله صلی الله علیه وسلم فقالت یزعم قومک انک لا تغضب لبناتک وهذا علی ناکح بنت أبی جهل فقام رسول الله صلی الله علیه وسلم فسمعته حین تشهد یقول أما بعد فإنی أنکحت أبا العاص بن الربیع فحدثنی وصدقنی وان فاطمة بضعة منی وانی اکره أن یسوءها والله لا تجتمع بنت رسول الله صلی الله علیه وسلم وبنت عدو الله عند رجل واحد فترک علی الخطبة).

ص: 237

الأنبیاء بالمعصیة واقتراف الذنوب وعدم العصمة، فالألسنة التی تناولت ذات الله سبحانه وأنبیاءه بما لا یلیق کیف تحبس عن تناول الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) بما لا یلیق؟!(1)).


1- هذا الجواب مستفاد من روایة رواها الشیخ الصدوق (رضوان الله تعالی علیه) فی کتابه الأمالی ص164 __ 166: (حدثنا أبی رحمه الله، قال: حدثنا علی بن محمد بن قتیبة، عن حمدان بن سلیمان، عن نوح بن شعیب، عن محمد بن إسماعیل، عن صالح، عن علقمة، قال: قال الصادق جعفر بن محمد علیهما السلام، وقد قلت له:...یا بن رسول الله، إن الناس ینسبوننا إلی عظائم الأمور، وقد ضاقت بذلک صدورنا. فقال علیه السلام: یا علقمة، إن رضا الناس لا یملک وألسنتهم لا تضبط  فکیف تسلمون مما لم یسلم منه أنبیاء الله ورسله وحججه علیهم السلام؟ ألم ینسبوا یوسف علیه السلام إلی أنه هم بالزنا؟ ألم ینسبوا أیوب علیه السلام إلی أنه ابتلی بذنوبه؟ ألم ینسبوا داود علیه السلام إلی أنه تبع الطیر حتی نظر إلی امرأة أوریا فهواها؟ وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتی قتل ثم تزوج بها؟ ألم ینسبوا موسی علیه السلام إلی أنه عنین وآذوه حتی برأه الله مما قالوا، وکان عند الله وجیها؟ ألم ینسبوا جمیع أنبیاء الله إلی أنهم سحرة طلبة الدنیا؟ ألم ینسبوا مریم بنت عمران علیهما السلام إلی أنها حملت بعیسی من رجل نجار اسمه یوسف؟ ألم ینسبوا نبینا محمدا صلی الله علیه وآله إلی أنه شاعر مجنون؟ ألم ینسبوه إلی أنه هوی امرأة زید بن حارثة فلم یزل بها حتی استخلصها لنفسه؟ ألم ینسبوه یوم بدر إلی أنه أخذ لنفسه من المغنم قطیفة حمراء؟ حتی أظهره الله عز وجل علی القطیفة وبرأ نبیه صلی الله علیه وآله من الخیانة، وأنزل بذلک فی کتابه: «وما کان لنبی أن یغل ومن یغلل یأت بما غل یوم القیامة»، ألم ینسبوه إلی أنه صلی الله علیه وآله ینطق عن الهوی فی ابن عمه علی علیه السلام؟ حتی کذبهم الله عز وجل، فقال سبحانه: «وما ینطق عن الهوی * إن هو إلا وحی یوحی» ألم ینسبوه إلی الکذب فی قوله: إنه رسول من الله إلیهم؟ حتی أنزل الله عز وجل علیه: «ولقد کذبت رسل من قبلک فصبروا علی ما کذبوا وأوذوا حتی أتاهم نصرنا»، ولقد قال یوما: عرج بی البارحة إلی السماء. فقیل: والله ما فارق فراشه طول لیلته. وما قالوا فی الأوصیاء علیهم السلام أکثر من ذلک، ألم ینسبوا سید الأوصیاء علیه السلام إلی أنه کان یطلب الدنیا والملک، وأنه کان یؤثر الفتنة علی السکون، وأنه یسفک دماء المسلمین بغیر حلها، وأنه لو کان فیه خیر ما أمر خالد بن الولید بضرب عنقه؟ ألم ینسبوه إلی أنه علیه السلام أراد أن یتزوج ابنة أبی جهل علی فاطمة علیها السلام، وأن رسول الله صلی الله علیه وآله شکاه علی المنبر إلی المسلمین، فقال: إن علیا یرید أن یتزوج ابنة عدو الله علی ابنة نبی الله، ألا إن فاطمة بضعة منی، فمن آذاها فقد آذانی، ومن سرها فقد سرنی، ومن غاظها فقد غاظنی؟. ثم قال الصادق علیه السلام: یا علقمة، ما أعجب أقاویل الناس فی علی علیه السلام! کم بین من یقول: إنه رب معبود، وبین من یقول: إنه عبد عاص للمعبود! ولقد کان قول من ینسبه إلی العصیان أهون علیه من قول من ینسبه إلی الربوبیة. یا علقمة، ألم یقولوا لله عز وجل: إنه ثالث ثلاثة؟ ألم یشبهوه بخلقه؟ ألم یقولوا: إنه الدهر؟ ألم یقولوا: إنه الفلک؟ ألم یقولوا: إنه جسم؟ ألم یقولوا: إنه صورة؟ تعالی الله عن ذلک علوا کبیرا. یا علقمة، إن الألسنة التی تتناول ذات الله تعالی ذکره بما لا یلیق بذاته کیف تحبس عن تناولکم بما تکرهونه؟! فاستعینوا بالله واصبروا، إن الأرض لله یورثها من یشاء من عباده و العاقبة للمتقین، فإن بنی إسرائیل قالوا لموسی علیه السلام: «أوذینا من قبل أن تأتینا ومن بعد ما جئتنا»، فقال الله عز وجل: قل لهم یا موسی: «عسی ربکم أن یهلک عدوکم ویستخلفکم فی الأرض فینظر کیف تعملون».

ص: 238

أسامة: (قد قرأت قبل أیام فی کتاب منهاج الصالحین للشیخ وحید الخراسانی کلاما مهما أعجبنی حول حدیث البضعة وقد أخرجته الآن بینما کنتم تتکلمون، فقد قال: «...وهذا مقام الإنسان الکامل الذی یکون رضاه وغضبه مظهرا لرضا الله وغضبه، وهو مقام خاتم النبیین صلی الله علیه وآله

ص: 239

وسلم، ووصیه علیه السلام. والمرأة الوحیدة التی شارکت فی هذا المقام هی الصدیقة الکبری فاطمة الزهراء علیها السلام، وهذا یکشف عن أن روح الولایة الکلیة والإمامة العامة التی هی العصمة المطلقة، متحققة فیها صلوات الله علیها وعلی أبیها وبعلها وبنیها. ومما یؤکد ذلک الحدیث الذی رواه العامة والخاصة، واعترفوا بصحته أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم قال: «فاطمة بضعة منی، فمن أغضبها أغضبنی». ومع أن العقل والکتاب والسنة دلت علی أن غضب النبی صلی الله علیه وآله وسلم هو غضب الله تعالی، لکن روی علماء السنة أنه صلی الله علیه وآله وسلم قال لفاطمة: «إن الله یغضب لغضبک ویرضی لرضاک». ومن کان الله یرضی لرضاه ویغضب لغضبه بلا قید ولا شرط، لابد أن یکون رضاه وغضبه _ بضرورة العقل _ منزهین عن الخطأ والهوی، وهذه هی العصمة الکبری»(1)).

خالد: (أحسنتم علی النقل، واستفادة موفقة من قبل الشیخ أطال الله عمره).


1- منهاج الصالحین للشیخ وحید الخراسانی ج1 ص194.

ص: 240

الدلیل السابع عشر: ان الأئمة علیهم السلام حجة علی الأنبیاء وبقیة البشر والسیدة الزهراء حجة علیهم فتکون حجة علی الجمیع فهی أفضل من الجمیع

اشارة

وکتب خالد: (ویوجد دلیل آخر یمکن الاستفادة منه فی هذا المضمار، وهو أن الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) لهم مرتبة الحجیة والتقدم علی جمیع البشر حتی الأنبیاء والرسل من أولی العزم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فهم أفضل منهم، لاستحالة تقدیم المفضول علی الفاضل، والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لها مقام الحجیة والتقدم علی نفس الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فهی أفضل منهم، وإذا کانت أفضل منهم فهی أفضل من الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) من باب أولی).

کیف یکونون حجة وکل واحد عاش فی زمان غیر زمان صاحبه؟

أسامة: (کلامک عجیب یا أخی، فکیف یکون الأئمة حجة علی الأنبیاء والرسل وکل واحد منهم عاش فی زمان غیر زمان صاحبه؟).

خالد: (لا غرابة فی هذا الأمر مطلقا، فقد اتفقت کلمة المسلمین علی أن شریعتنا الإسلامیة هی خاتمة الشرائع، وأن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) له مقام الحجیة والهیمنة التشریعیة علی جمیع الأنبیاء والشرائع السابقة، فلو أن الله سبحانه

ص: 241

بعث الأنبیاء الیوم من لدن آدم إلی عیسی لما وسعهم إلا اتباعه والانصیاع إلی أوامره ونواهیه(1)، وهذه فضیلة وکمال لا یشارکه فیهما أحد من العالمین(2).

ولو کان الأنبیاء والرسل وأولو العزم موجودین فی غدیر خم حینما نصب النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) الإمام أمیر المؤمنین للإمامة والولایة بعده لما وسعهم إلا اتباعه ومبایعة الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه)، فإذا بایعوه کانوا تحت وصایته وکان حجة علیهم لا یملکون مخالفته، وهذه أیضا فضیلة لا یشارکه فیها إلا النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم).


1- وقد ورد فی مسند احمد بن حنبل: (...عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم لا تسألوا أهل الکتاب عن شیء فإنهم لن یهدوکم وقد ضلوا فإنکم اما أن تصدقوا بباطل أو تکذبوا بحق فإنه لو کان موسی حیا بین أظهرکم ما حل له إلا أن یتبعنی).
2- أورد ابن الجوزی فی (کشف المشکل من حدیث الصحیحین ج3 ص43) نقلا عن ابن عقیل قوله: (... إن خصیصة النبی صلی الله علیه _ وآله _ وسلم حاصلة من جهة خفیة عن کثیر من العلماء؛ وذلک أن شریعة نبینا صلی الله علیه _ وآله _ وسلم جاءت ناسخة لکل شریعة قبلها، فلم یبق یهودیة ولا نصرانیة ولا دین من سائر الأدیان التی جاءت بها النبوات إلا أمر بترکها ودعا إلی شریعته، ومعنی قوله: «کل نبی بعث إلی قومه» المراد أنه قد کان یجتمع فی العصر الواحد نبیان یدعو کل واحد منهما إلی شریعة تختصه ولا یدعو الأمة التی بعث فیها غیره إلی دینه ولا یصرف عنه، ولا ینسخ ما جاء به الآخر، فهذه خصیصة لم تکن لأحد قبله، حتی إن نوحا لم ینقل أنه کان معه نبی، فدعا إلی ملته ملة ذلک النبی ولا نسخها، وهذا یدفع ما قالوا وقدروه من الأسئلة وعقبوه بالأجوبة، ویوضح هذا أنه لما وجد ورقة من التوراة بید عمر قال: «ألم آتکم بها بیضا نقیة؟ والله لو أدرکنی موسی لما وسعه إلا إتباعی». لأنه لا یقدر عیسی أن یقول فی التوراة ولا فی حق موسی هذه المقالة، فعلم أن هذه الخصیصة التی امتاز بها عن جمیع الأنبیاء دون ما توهمه السائل من البعثة العامة إلی جمیع الناس ودون أرباب الشرائع، والله أعلم).

ص: 242

ثم ولو کان الأنبیاء والرسل من أولی العزم موجودین حین تنصیب الإمام الحسن من قبل أبیه أمیر المؤمنین إماماً للناس ومن ثم الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) وهکذا إماماً بعد إمام لما أمکنهم ولا جاز لهم إلا الاتباع والانقیاد والسمع والطاعة لهم، وهذا أیضا فضل لا یشارکهم فیه أحد من العالمین إلا النبی الأعظم والإمام أمیر المؤمنین. إذن فمقام الحجیة والهیمنة الشرعیة علی جمیع الأنبیاء والشرائع السابقة هو أمر مشترک بین النبی الأعظم وأوصیائه (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، ولم یعطَ هذا المقام للنبی الأعظم والأئمة إلا بسبب کمالهم وأفضلیتهم علی غیرهم، لقبح تقدیم المفضول علی الفاضل).

هل هذا مجرد فرض لا واقع له؟

فاطمة: (هل أفهم من کلامکم یا خالی أن الموضوع مجرد فرض عقلی، لأنک تقول انه لو کان الأنبیاء والرسل موجودین فی زمن النبی والأئمة لاتبعوهم ولما خالفوهم ولکانوا تحت حکمهم وولایتهم، وقولک: لو، هو مجرد فرض لا واقع له، وما دام لم یقع لا نستطیع أن نجزم بالنتیجة التی توصلت لها).

خالد: (أولا: هذا لیس فرضا أنا فرضته، فقد قلت لکم انه توجد روایات عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) تقول لو کان موسی حیاً بین أظهرکم ما حل له إلا أن یتبعنی، وبعض الروایات تذکر نبی الله عیسی علیه السلام وبعضها تذکر نبی الله یوسف علیه السلام(1)، فالفرض لیس خیالیا، بل هو فرض قابل للتحقق، لان الله


1- جاء فی کنز العمال للمتقی الهندی ج1 ص201 عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله انه قال: (والذی نفسی بیده لو أتاکم یوسف وأنا بینکم فاتبعتموه وترکتمونی لضللتم).

ص: 243

سبحانه قادر علی أن یبعث الأنبیاء جمیعهم فی زمن النبی والأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ولو بعثوا واجتمعوا لما جاز لهم إلا اتباع نبینا الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وشریعتنا الإسلامیة.

وثانیا: قد ورد فی کتب المخالف والمؤالف أن الله تعالی ما بعث آدم علیه السلام ومن بعده من الأنبیاء علیهم الصلاة والسلام إلا بعد أن أخذ علیهم العهد لئن بعث محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو حی لیؤمنن به ولینصرنه(1)، وأن الأنبیاء علیهم الصلاة والسلام کانوا یأخذون المیثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) فإنه یجب علیهم أن یؤمنوا به وأن ینصروه، وهذا قول کثیر من العلماء(2)).

کیف یکلف الأنبیاء إتباع نبینا وأئمتنا وهم أموات والمیت لا تکلیف علیه؟

محمد: (ألیس الله سبحانه یعلم بأن کل الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یکونون عند مبعث النبی الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) من زمرة الأموات، والمیت لا یکون مکلفاً، فکیف یوجب علیهم وعلی أممهم أمراً لا یستطیعون فعله؟).

خالد: (هذا الإشکال محلول عند أتباع مذهب أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، لأننا نؤمن بعقیدة الرجعة فی آخر الزمان، فإن الله سبحانه سیرجع إلی الحیاة الدنیا جمیع الأنبیاء والرسل وصالح أممهم عند خروج الإمام المهدی (صلوات الله و سلامه علیه) لینصروه ویعیشوا فی دولته التی هی حلم الأنبیاء والمؤمنین جمیعاً، وقد وردت


1- راجع تفسیر الرازی ج8 ص123 عند تفسیره لقوله تعالی: (وإذ أخذ الله میثاق النبیین)  سورة آل عمران الایة رقم 81 .
2- المصدر السابق.

ص: 244

روایات تصرح بهذه الحقیقة(1)، فإذا خرجوا وعادوا إلی الحیاة وجب علیهم الإیمان برسالة نبینا الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وشریعتنا الإسلامیة وأئمتنا (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، ویکونون تحت حکمهم وسلطانهم التکوینی والتشریعی، وبمعنی آخر یکونون تحت حجیتهم).

ما الدلیل علی ان السیدة الزهراء حجة علی الأئمة؟

أسامة: (إلی الآن عرفنا کیف یکون الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) حجة علی الأنبیاء والرسل وأممهم، ولکنک لم تخبرنا کیف تکون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) حجة علی الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)).

خالد: (هذا الأمر مبحوث فیه وقد کتب بعض المحققین بحثا ذکر فیه عدة توجیهات مهمة(2)، ولکنی سأذکر هنا دلیلین لم یتعرض لذکرهما __ بحسب


1- مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سلیمان الحلی ص26: (عن فیض بن أبی شیبة قال سمعت أبا عبد الله (صلوات الله و سلامه علیه) یقول وتلا هذه الآیة «وإذ أخذ الله میثاق النبیین» الآیة قال لیؤمنن برسول الله صلی الله علیه وآله ولینصرن علیا أمیر المؤمنین علیه السلام قال نعم والله من لدن آدم (صلوات الله و سلامه علیه) فهلم جراً فلم یبعث الله نبیاً ولا رسولاً إلا رد جمیعهم إلی الدنیا حتی یقاتلوا بین یدی علی بن أبی طالب أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه)). المصدر السابق ص28: (...عن محمد بن سلیمان الدیلمی عن أبیه قال سألت أبا عبد الله (صلوات الله و سلامه علیه) عن قول الله عز وجل «وجعلکم أنبیاء وجعلکم ملوکاً» فقال الأنبیاء رسول الله صلی الله علیه وآله وإبراهیم وإسماعیل وذریته والملوک الأئمة علیهم السلام قال فقلت وأی ملک أعطیتم فقال ملک الجنة وملک الکرة).
2- لقد ناقش هذه المسألة السید محمد علی الحلو فی کتابه (مقامات فاطمة الزهراء فی الکتاب والسنة) ص17 وما بعدها فمن أراد التوسع فلیراجع.

ص: 245

اطلاعی __ أحد ممن کتب حول هذه المسألة.

الدلیل الأول: ان المسلمین جمیعا أقروا بکون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بضعة النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، والبضعة کما عرفنا سابقا هی الجزء والقطعة من الشیء، وبما أن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) حجة علی جمیع الأنبیاء والرسل والأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) إذن فجمیع أبعاضه وأجزائه حجة علیهم أیضا لعدم إمکان التجزئة فی الحجیة(1)، إذن فالزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) حجة علیهم لأنها جزء منه.

الدلیل الثانی: ان الإجماع قائم عند علماء المذهب أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) کانت کفؤ الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) ولولا أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) لما کان لفاطمة کفؤ من آدم فما دون(2)، والکفؤ هو النظیر والمساوی(3)، وبما ان الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) حجة علی باقی الأئمة


1- فلا مجال فی تبعیض الحجیة بالنسبة للنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) اذ لا یمکن لنا ان نقول هذا الجزء منه (صلی الله علیه و آله و سلم) حجة وهذا الجزء منه لیس بحجة لان حجیته (صلی الله علیه و آله و سلم) ثابتة لجمیع أبعاضه وأجزائه بنص القرآن والسنة، ومن یقول بالتفریق فعلیه ان یأتی بدلیل قاطع.
2- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج1 ص461: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن الخیبری، عن یونس بن ظبیان، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: سمعته یقول: لولا أن الله تبارک وتعالی خلق أمیر المؤمنین علیه السلام لفاطمة، ما کان لها کفؤ علی ظهر الأرض من آدم ومن دونه) والروایة معتبرة من حیث الإسناد، نص علی اعتبارها محمد تقی المجلسی فی روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه ج5 ص343 . وقد علق المولی محمد صالح المازندرانی فی شرح أصول الکافی ج7 ص222 علی هذا الحدیث بقوله: (قوله «ما کان لها کفؤ علی ظهر الأرض من آدم فمن دونه» المقصود أن فاطمة علیها السلام أفضل من آدم فمن دونه مع قطع النظر عن حرمة النکاح أو حلّه).
3- انظر تاج العروس ج20 ص129.

ص: 246

والأنبیاء والرسل کما أثبتنا سابقا، إذن فلابد أن تکون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) حجة علیهم أیضا لأنها مساویة له).

أسامة: (أتصور أن کون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) کفؤاً للإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) قد ورد فی حدیث زواجهما (صلوات الله و سلامه علیهما)، فأحدهما کفؤ الآخر فی مسألة الزواج لا غیر، وعلیه لا یمکن الاستفادة من هذا الحدیث بشکل مطلق ولا یمکن القول بأن تساویهما وارد فی کل شیء).

خالد: (هنالک قاعدة متسالم علی صحتها عند الأصولیین والمفسرین والفقهاء وغیرهم وهی: «ان المورد لا یخصص الوارد» أو «أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» وعلیه فلا وجه لتخصیص التکافؤ بین السیدة الزهراء والإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیهما) بخصوص مسألة الزواج، بحجة أن الروایة وردت فی واقعة زواجهما، بل إن اللفظ الوارد فی الروایة ما دام مطلقا فیبقی علی إطلاقه، فیعم بقیة الموارد التی لا ترتبط بمسألة الزواج).

فاطمة: (ما تقوله یا خالی العزیز عین الصواب، بدلیل ان أکثر الأحکام الشرعیة والآیات القرآنیة قد نزلت حسب وقائع شخصیة علی أناس معینین ولو أن کل آیة أو حکم اختص بخصوص السبب الذی نزل لأجله أو الشخص الذی نزل بسببه لماتت الأحکام والآیات مع موت الأشخاص والوقائع التی نزلت بخصوصها، وهذا ما تعلمناه فی الدراسة).

وکتب خالد: (أحسنتِ یا فاطمة، وإضافة إلی ما قلتِهِ، فانه وردت روایات أخری توضح بأن المساواة والتکافؤ بین السیدة الزهراء والإمام أمیر المؤمنین

ص: 247

 (صلوات الله و سلامه علیهما) لا تقتصر علی مسألة الزواج، فقد أورد الشیخ الکلینی (رضوان الله تعالی علیه) روایة عن مفضل بن عمر قال: «قلت لأبی عبد الله علیه السلام: من غسل فاطمة علیها السلام؟ قال: ذاک أمیر المؤمنین علیه السلام فکأنما استفظعت ذلک من قوله فقال لی: کأنک ضقت مما أخبرتک؟ فقلت: قد کان ذلک جعلت فداک، فقال لی: لا تضیقن فإنها صدیقة لم یکن یغسلها إلا صدیق أما علمت أن مریم علیها السلام لم یغسلها إلا عیسی علیه السلام»(1) والروایة کما ترون صریحة فی جعل التکافؤ بینهما أعم من الزواج فلولا الإمام أمیر المؤمنین لما کان لفاطمة کفؤ یغسلها حتی).


1- الکافی للشیخ الکلینی ج3 ص159 باب الرجل یغسل المرأة والمرأة تغسل الرجل، حدیث رقم 13.

ص: 248

الدلیل الثامن عشر: إنها علیها السلام مثل القرآن فی الحجیة والرشاد والعصمة

وکتبت فاطمة: (وحدیث الغدیر(1) الذی تواتر معناه وإسناده(2)، یدل بما لا یقبل الشک علی حجیتها علی جمیع أمة محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) إلی یوم القیامة، لان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) جعل عترته أهل بیته عدل القرآن ومثله، والقرآن حجة فلابد أن یکون من هو مثله وعدله حجة أیضا.

ولا شک عند فرق المسلمین جمیعا أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) هی من


1- جاء فی مسند احمد بن حنبل ج5 ص189 _ 190:(حدثنا عبد الله حدثنی أبی ثنا أبو أحمد الزبیری ثنا شریک عن الرکین عن القاسم بن حسان عن زید بن ثابت قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم إنی تارک فیکم خلیفتین کتاب الله وأهل بیتی وانهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض جمیعا). وقد علق الهیثمی فی مجمع الزوائد ج9 ص162 __ 163 بقوله: (رواه أحمد وإسناده جید).
2- حدیث الثقلین هو حیث متواتر الإسناد والمعنی، وهو وان کان مختلف اللفظ لکن مؤداه واحد. وقد خطب به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) یوم حجة الوداع بعرفة فی مائة ألف أو یزیدون...رواه جماعة من الصحابة وقد أفرد لطرق هذا الحدیث الحافظ الذهبی بکتاب سماه: «رسالة طرق حدیث: من کنت مولاه فعلی مولاه» طبع بمکتبة المحقق الطباطبائی بتحقیق عبد العزیز الطباطبائی، وخرجه من حدیث 31 صحابیا. وکذا جمع طرق هذا الحدیث الحافظ ابن عقدة، ومن المتأخرین: ألف الشیخ أبو المنذر سامی بن أنور خلیل جاهین المصری الشافعی رسالة بعنوان «الزهرة العطرة فی حدیث العترة» جمع فیه مجموعة من طرقه ودرسها وشرحها، طبع بدار الفقیه بالقاهرة – مصر، عام 1996م.

ص: 249

العترة ومن أهل البیت المشمولین بحدیث الثقلین، فتکون حجة وتکون معصومة وتکون وسیلة وواسطة من وسائط الهدایة والرشاد شأنها شأن القرآن الکریم).

أسامة: (فیمکن لنا إذن أن نعدّ ما قالته أختنا فاطمة دلیلاً آخر من أدلة تفضیلها (صلوات الله و سلامه علیها) علی جمیع أمة محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ومساواتها بالنبی والأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) من حیث الحجیة والهدایة والعصمة.

بل وأکثر من ذلک فکل ما یثبت للقرآن یثبت لها أیضا، لان النبی جعلها والقرآن ککفتی المیزان فکل ما فی هذه الکفة لابد أن یکون فی الکفة الأخری أیضا حتی تتحقق المساواة والمماثلة).

خالد: (أحسنتما فکلامکما متین للغایة وفی محله إن شاء الله، ویؤید کلامکما ما رواه الشیخ الصدوق عن أمر النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) بالتمسک بالشمس والقمر والزهرة والفرقدین، وقد فسرت الروایات الشریفة ان المقصود بالشمس هو رسول الله وبالقمر أمیر المؤمنین وبالزهرة السیدة الزهراء والفرقدین هما الإمامان الحسن والحسین(1)، فالتمسک یستلزم الحجیة کما لا یخفی، إذ لابد أن تکون حجة من حجج الله سبحانه کی یصح التمسک والاقتداء بها).

أسامة: (شکرا علی الإطراء).


1- معانی الأخبار للشیخ الصدوق ص115 وما بعدها: (...صلی رسول الله صلی الله علیه وآله صلاة الفجر، فلما انفتل من صلاته أقبل علینا بوجهه الکریم علی الله عز وجل ثم قال: معاشر الناس من افتقد الشمس فلیستمسک بالقمر، ومن افتقد القمر فلیستمسک بالزهرة، فمن افتقد الزهرة فلیستمسک بالفرقدین. ثم قال رسول الله صلی الله علیه وآله: أنا الشمس، وعلی القمر، وفاطمة الزهرة، والحسن والحسین الفرقدان. وکتاب الله لا یفترقان حتی یردا علی الحوض).

ص: 250

الدلیل التاسع عشر: إنها علیها السلام من أهل الذکر الذین أمر الله سبحانه بسؤالهم

اشارة

خالد: (وأیضا مما یؤکد حجیتها علی جمیع أمة محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) هو قوله تعالی: «فَاسْأَلُوا أهل الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»(1) فقد أجمعت کلمة علماء الطائفة المحقة أن أهل الذکر فی الآیة الذین أمر الناس بسؤالهم هم الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ومعهم السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)(2).

وقد ورد فی الروایات ان معنی الذِّکْر فی الآیة هو رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل الذکر هم أهل بیته (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) والسیدة الزهراء من ضمنهم قطعا(3).


1- قد ورد الأمر بسؤال أهل الذکر فی موضعین من القرآن الکریم أحدهما فی سورة النحل الآیة رقم 43 وهو قوله تعالی: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِی إِلَیْهِمْ فَاسْأَلُوا أهل الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، والآخر فی سورة الأنبیاء الآیة رقم 7 وهو قوله سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِی إِلَیْهِمْ فَاسْأَلُوا أهل الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
2- روی محمد بن الحسن الصفار فی بصائر الدرجات ص61: (عن أبی عبد الله علیه السلام انه سئل عن قول الله تعالی (فاسألوا أهل الذکر إن کنتم لا تعلمون) قال هم آل محمد ألا وأنا منهم).
3- روی الکلینی فی الکافی ج1 ص210: (...عبد الرحمن بن کثیر قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: "فاسألوا أهل الذکر إن کنتم لا تعلمون " قال: الذکر محمد صلی الله علیه وآله ونحن أهله المسؤولون، قال: قلت: قوله: "وإنه لذکر لک ولقومک وسوف تسألون " قال: إیانا عنی ونحن أهل الذکر ونحن المسؤولون). وفی روایة أخری: (عن أبی بصیر، عن أبی عبد الله علیه السلام فی قول الله عز وجل " وإنه لذکر لک ولقومک وسوف تسألون " فرسول الله صلی الله علیه وآله الذکر وأهل بیته علیه السلام المسؤولون وهم أهل الذکر). وللامام الرضا (صلوات الله و سلامه علیه) کلام مهم فی هذا المجال قاله فی مجلس المأمون وقد اجتمع علیه جماعة من العلماء لمناظرته نقله الشیخ الصدوق فی الأمالی ص625حیث قال (صلوات الله و سلامه علیه): (فنحن أهل الذکر الذین قال الله فی محکم کتابه: «فَاسْأَلُوا أهل الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» فقالت العلماء: إنما عنی بذلک الیهود والنصاری. فقال أبو الحسن علیه السلام سبحان الله! وهل یجوز ذلک؟ إذن یدعونا إلی دینهم. ویقولون: إنه أفضل من دین الإسلام. فقال المأمون: فهل عندک فی ذلک شرح بخلاف ما قالوا، یا أبا الحسن؟ فقال علیه السلام: نعم، الذکر: رسول الله صلی الله علیه وآله، ونحن أهله، وذلک بین فی کتاب الله عز وجل حیث یقول فی سورة الطلاق: «فَاتَّقُوا اللَّهَ یَا أُولِی الْأَلْبَابِ الَّذِینَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَیْکُمْ ذِکْرًا * رَسُولًا یَتْلُو عَلَیْکُمْ آَیَاتِ اللَّهِ مُبَیِّنَاتٍ»، فالذکر رسول الله، ونحن أهله).

ص: 251

وورد روایات أخری ان الذکر فی الآیة هو القرآن(1)، وان أهل البیت هم أهل القرآن، ولذلک جعلهم النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) فی حدیث الثقلین عدل القرآن ومثله وقد أمر بالتمسک بهما، والتمسک یقتضی السؤال منهما والاقتداء بهما، والسؤال والاقتداء یقتضی حجیتهما کی یمکن أن یکون إتباعهما مبرئا للذمة).


1- فعن محمد بن الحسن الصفار فی بصائر الدرجات ص62: (عن أبی عبد الله علیه السلام فی قول الله تعالی فاسألوا أهل الذکر إن کنتم لا تعلمون قال کتاب الله الذکر وأهله آل محمد الذین أمر الله بسؤالهم ولم یؤمروا بسؤال الجهال وسمی الله القرآن ذکرا فقال وأنزلنا إلیک الذکر لتبین للناس ما نزل إلیهم ولعلهم یتفکرون).

ص: 252

فاطمة حجة الله وأعداؤها أعداء الله وأولیاؤها أولیاء الله

خالد: (عفوا نسیت أن أذکر لکم أن هنالک روایة حسنة من حیث السند فیها تصریح واضح بکون السیدة الزهراء حجة من حجج الله سبحانه علی البشریة شأنها شأن النبی الأعظم والإمام أمیر المؤمنین وبقیة الأئمة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وقد کنت کتبتها إلا أنی نسیتها والآن رأیتها أمامی وسأکتبها لکم، فقد روی الشیخ الصدوق (قدس الله روحه) فی کتابه الأمالی: «... عن أبی حمزة عن علی بن الحسین عن أبیه عن أمیر المؤمنین صلوات الله علیهم، أنه جاء إلیه رجل فقال له: یا أبا الحسن، إنک تدعی أمیر المؤمنین، فمن أمرک علیهم؟ قال: الله عز وجل أمرنی علیهم. فجاء الرجل إلی رسول الله صلی الله علیه وآله فقال: یا رسول الله، أتصدق علیا فیما یقول: إن الله أمره علی خلقه؟ فغضب النبی صلی الله علیه وآله، ثم قال: إن علیا أمیر المؤمنین بولایة الله عز وجل، عقدها له فوق عرشه وأشهد علی ذلک ملائکته. إن علیا خلیفة الله وحجة الله وإنه إمام المسلمین، طاعته مقرونة بطاعته ومعصیته مقرونة بمعصیته. فمن جهله فقد جهلنی ومن عرفه عرفنی ومن أنکر إمامته فقد أنکر نبوتی ومن جحد إمرته فقد جحد رسالتی ومن دفع فضله فقد نقضنی ومن قاتله فقد قاتلنی ومن سبه فقد سبنی، لأنه خلق من طینتی، وهو زوج فاطمة ابنتی وأبو ولدی الحسن والحسین وتسعة من ولد الحسین حجج الله علی خلقه. أعداؤنا أعداء الله وأولیاؤنا أولیاء الله.

ثم قال صلی الله علیه وآله أنا وعلی وفاطمة والحسن والحسین وتسعة من ولد الحسین حجج الله علی خلقه، أعداؤنا أعداء الله، وأولیاؤنا أولیاء الله).

ص: 253

فاطمة: (هل أفهم من الروایة أنها جعلت من خلق الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) من طینة النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) سببا لصیرورته خلیفة الله وحجته علی خلقه، وانه وبسبب اتحادهما فی الطینة صارت طاعته مفروضة، ومعصیة أحدهما مقرونة بمعصیة الآخر، وأن من جهل الإمام فقد جهل النبی، وأن من عرف الإمام فقد عرف النبی، وأن من قاتله فقد قاتل النبی ومن سبه فقد سب النبی ؟).

خالد: (نعم کل هذه الامتیازات أعطیت للإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) بسبب اشتراکه مع النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) بنفس الطینة).

محمد: (ألیس کل البشر من الطین؟ فلماذا لا تکون لنا نفس تلک الامتیازات التی جعلت للإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) التی وردت فی هذه الروایة؟).

خالد: (صحیح أن کل البشر قد خلقوا من الطین، ولکن الروایات الشریفة تصرح بأن الطینة التی خلق منها أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) خاصة لم یشارکهم فیها أحد من البشر حتی الأنبیاء والرسل (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فکانوا بشراً کسائر البشر ولکنهم بشر نورانیون(1)، ولان طینتهم واحدة صارت قدسیتهم واحدة وعلمهم


1- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج1 ص389: (أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن عیسی بن عبید، عن محمد بن شعیب، عن عمران بن إسحاق الزعفرانی، عن محمد بن مروان، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: سمعته یقول: إن الله خلقنا من نور عظمته، ثم صور خلقنا من طینة مخزونة مکنونة من تحت العرش، فأسکن ذلک النور فیه، فکنا نحن خلقا وبشرا نورانیین لم یجعل لأحد فی مثل الذی خلقنا منه نصیبا، وخلق أرواح شیعتنا من طینتنا وأبدانهم من طینة مخزونة مکنونة أسفل من ذلک الطینة ولم یجعل الله لأحد فی مثل الذی خلقهم منه نصیبا إلا للأنبیاء، ولذلک صرنا نحن وهم: الناس، وصار سائر الناس همجاً، للنار وإلی النار).

ص: 254

واحد ومعرفتهم واحدة والاعتداء علی أحدهم اعتداء علی الجمیع وقتال أحدهم قتالاً لجمیعهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)).

أسامة: (کلامک یعنی أننا یمکن أن نطبق الروایة علی سائر الأئمة المعصومین ومنهم السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، فبسبب کون طینتهم جمیعا واحدة تصبح طاعتهم مفروضة ومعصیتهم مقرونة بمعصیته ومن جهلهم فقد جهل النبی ومن عرفهم فقد عرف النبی ومن جحدهم فقد جحد نبوة النبی ومن قاتلهم فقد قاتل النبی ومن سبهم فقد سب النبی، فهل استنتاجی هذا صحیح؟).

خالد: (استنتاجک صحیح یا أسامة).

توقف خالد عن الکتابة وقد لاحت له عقارب الساعة وهی تشیر إلی الحادیة عشرة لیلا، فکتب: (لنتوقف الیوم إلی هذا الحد ولنکمل غدا، ولا تنسوا أن تتعبوا أنفسکم أکثر، کی یکون الجهد موزعا بین الجمیع، وانزعوا عنکم ثوب الکسل، واتجهوا باکرا إلی المکتبة مثل سابق عهدکم).

فاطمة: (عندی اقتراح، فلو نقترح موضوعا معینا، أو جانبا معینا من حیاتها (صلوات الله و سلامه علیها) لیتم الترکیز علیه غدا فی أثناء بحثنا فی المکتبة، حتی لا یتشتت جهدنا وحتی لا یشرق بعضنا ویغرب بعضنا الآخر).

خالد والآخرون: (اقتراح جمیل، ونحن موافقون).

محمد: (ولکن ماذا سنبحث غدا؟ وعن أی جانب من جوانب حیاتها

ص: 255

 (صلوات الله و سلامه علیها) سنتحدث؟).

خالد: (فلننظر إلی رأی صاحبة الاقتراح فلعلها قد وضعت مسبقا موضوعا معینا فی بالها).

فاطمة: (أنا أری أن نبحث فی موضوع علم السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، لأنه موضوع قل ما یتعرض له المتعرضون، فإن أغلب الذین یکتبون عن حیاتها (صلوات الله و سلامه علیها) یرکزون علی موضوع عبادتها ومصیبتها وفضائلها، ولکننا قل ما نجد من یکتب عن کونها عالمة ومدی تأثیر علمها فی الأمة الإسلامیة إلی یوم القیامة).

خالد: (نعم الرأی وأنا موافق علیه).

أسامة: (وأنا موافق أیضاً).

محمد: (وأنا معکم بقدر ما أستطیع).

ودع الأصدقاء بعضهم وراح کل منهم إلی عمله، فمنهم من استلقی علی فراشه ونام، ومنهم من نزل لیتعشی، ومنهم من أمسک بکتاب لیبحث عن معلومة إضافیة تنفعه فی البحث، ومنهم من جلس یتصفح الانترنت ویتفحص بریده الالکترونی.

مصحف فاطمة وما یرتبط فیه من المباحث

اجتمع الأصدقاء مرة أخری وبعد السؤال عن الحال والأحوال کتب خالد: (هل ذهبتم الیوم إلی المکتبة وبحثتم عن الموضوع الذی اتفقنا علیه بالأمس؟).

ص: 256

فأجاب أسامة وفاطمة بالإیجاب وأجاب محمد بالنفی واعتذر عن ذلک بمجیء ضیوف إلی بیتهم منعوه من الالتحاق بأسامة والذهاب معه إلی المکتبة.

خالد: (فابدأ یا أسامة علی برکة الله وقل ما عندک).

أسامة: (قرأت البارحة علی عدة مواقع فی الانترنت، وکذلک قرأت الیوم فی المکتبة عدة کتب کلها تتحدث عن مصحف سمی فی الروایات الشریفة بمصحف فاطمة، وهو من أعظم الآثار العلمیة التی ترکتها السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)).

رد شبهة أن للشیعة قراناً اسمه مصحف فاطمة

محمد: (أنا اسمع من بعض القنوات وأقرأ فی بعض مواقع الانترنت أن للشیعة قرآنا یسمی مصحف فاطمة، فهل هو نفسه الذی تتحدث عنه تلک القنوات والمواقع؟).

خالد: (مصحف فاطمة لیس قرآناً ثانیاً، والشیعة لیس لهم قرآن غیر هذا القرآن الموجود بین أیدی المسلمین الیوم، ونتحدی أی واحد یأتینا بقرآن ثانٍ من مساجد الشیعة أو حسینیاتهم وبیوتهم).

محمد: (إذن فمن أین جاءت هذه المقولة؟ ).

خالد: (لم یترک أعداء أهل البیت طریقاً یستطیعون استغلاله لتشویه مذهب أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) إلا سلکوه، وقد استفادوا من کلمة «مصحف» لیوهموا الناس بأنه قرآن مثل القرآن الکریم، لأن من أسماء القرآن عندهم هو المصحف،

ص: 257

علماً انه لا توجد آیة فی القرآن أطلقت علی القرآن لفظ المصحف، وکذلک _ وبحسب ما تتبعت _ لا توجد روایة نبویة عندنا وعندهم تسمی القرآن بالمصحف).

معنی المصحف فی اللغة

فاطمة: (إضافة إلی ما قلته یا خالی العزیز فإن المصحف فی اللغة هو الکتاب الذی یجمع فی داخله عدة صفحات(1)، وعلیه فکل الکتب الآن یمکن أن تسمی مصاحف).

لماذا یغضون الطرف عن مصحف عائشة وحفصة وعمر ویشنعون علی مصحف فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها)؟

خالد: (والأهم من هذا کله أن المخالفین یتهموننا بأن لدینا قرآنا أسمه


1- قال الجوهری فی الصحاح ج4 ص1384: (... والمصحف قال الفراء: وقد استثقلت العرب الضمة فی حروف فکسروا میمها وأصلها الضم، من ذلک مصحف... لأنها فی المعنی مأخوذة من أصحف أی جمعت فیه الصحف). وقال ابن منظور فی لسان العرب ج9 ص186: (والمُصْحَفُ والمِصْحَفُ: الجامع للصُّحُف المکتوبة بین الدَّفَّتَیْنِ کأَنه أُصْحِفَ، والکسر والفتح فیه لغة، قال أَبو عبید: تمیم تکسرها وقیس تضمها، ولم یذکر من یفتحها ولا أَنها تفتح إنما ذلک عن اللحیانی عن الکسائی، قال الأَزهری: وإنما سمی المصحف مصحفاً لأَنه أُصحِف أَی جعل جامعاً للصحف المکتوبة بین الدفتین، قال الفراء: یقال مُصْحَفٌ ومِصْحَفٌ کما یقال مُطْرَفٌ ومِطْرَفٌ ؛ قال: وقوله مُصْحف من أُصْحِفَ أَی جُمِعَتْ فیه الصحف). وقال ابن سیدة فی المخصص ج4 ص8: (والمُصحف: الجامع للصحف المکتوبة بین الدّفتین کأنه أُصْحِف أی جُمعت فیه الصحف بکسر المیم وضمها وفتحها).

ص: 258

مصحف فاطمة، مع أن کثیراً من الروایات الشریفة للمعصومین تصرح بأنه لیس فی مصحف فاطمة آیة واحدة من القرآن الکریم.

ولکنهم وللأسف یغضون الطرف عن عشرات الروایات فی صحاحهم ومسانیدهم المعتبرة، والتی تصرح بوجود عدة مصاحف عند المخالفین فیها قرآن یختلف عن قرآننا، وفی بعض هذه المصاحف آیات وسور کاملة لا توجد فی قرآننا الحالی، فعندهم مصحف عائشة(1) ومصحف حفصة(2) ومصحف عمر بن


1- اخرج إسحاق بن راهویه فی مسنده ج2 ص1042: (أخبرنا المؤمل، نا حماد بن سلمة، نا هشام بن عروة، عن أبیه قال: قرأت فی مصحف عائشة (فمنها رکوبتهم ومنها یأکلون). أقول: واللفظ الصحیح الموجود فی القرآن الذی بین أیدینا هی هکذا: (أَوَلَمْ یَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَیْدِینَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِکُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَکُوبُهُمْ وَمِنْهَا یَأْکُلُونَ) سورة یس الآیة رقم 71 __ 72. وفی کتاب الإتقان فی علوم القرآن لجلال الدین السیوطی ج2 ص67: (وقال حدثنا حجاج عن ابن جریج أخبرنی ابن أبی حمید عن حمیدة بنت أبی یونس قالت قرأ علی أبی وهو ابن ثمانین سنة فی مصحف عائشة «إن الله وملائکته یصلون علی النبی یا أیها الذین آمنوا صلوا علیه وسلموا تسلیما وعلی الذین یصلون الصفوف الأول» قالت قبل أن یغیر عثمان المصاحف). أقول: والآیة فی القرآن الموجود بین أیدینا خالیة من عبارة: (وعلی الذین یصلون الصفوف الأول).
2- قال السمعانی فی تفسیره ج2 ص312: (ونقل فی مصحف حفصة «فأنزل الله سکینته علیهما وأیدهما بجنود لم تروها»). أقول: والآیة فی القرآن الموجود بین أیدینا هی کالتالی: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِینَ کَفَرُوا ثَانِیَ اثْنَیْنِ إِذْ هُمَا فِی الْغَارِ إِذْ یَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَکِینَتَهُ عَلَیْهِ وَأَیَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلَی وَکَلِمَةُ اللَّهِ هِیَ الْعُلْیَا وَاللَّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ). والآیة المبارکة نزلت فی قضیة الغار المعروفة، وهی صریحة فی ان السکینة وتأیید الملائکة قد نزلا علی النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) خاصة، ولکن حفصة ولأسباب لا تخفی تعمدت تغییر اللفظ وتحریفه لتدخل أبا بکر بهدف تسویته مع النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) بإنزال السکینة وتأیید الملائکة.

ص: 259

الخطاب ومصحف أبی بن کعب ومصحف عبد الله بن مسعود ومصحف عثمان ومصاحف أخری کثیرة(1)، فإذا کان الشیعة عندها قرآن __ وهو کذب قطعا __ فإن أهل السنة عندهم خمسون قراناً غیر قرآننا الحالی فهل یرضون بهذه النتیجة؟!).

أمحتوی هذه المصاحف تفسیر أم تحریف؟

محمد: (ألا تعتقد أن هذه المصاحف هی من قبیل تفسیر لألفاظ الآیات والسور، شأنها شأن التفاسیر الموجودة فی عصرنا، غایة ما فی الأمر أنهم کانوا یکتبون التفسیر مدمجا مع الآیة؟ وقد قرأت تصریحاً للقرضاوی أمس یقول فیه: «فی تلک الأیام لم تکن هناک طریقة معروفة فی الکتابة لفصل الأصل عن التفسیر، فلیست هناک أقواس معروفة مثلا یوضع الکلام التفسیری بینها، أو حبر مغایر فی اللون یکتب به ما یضاف إلی الأصل… فالإضافة إذن نوع من التفسیر ولیست من کلام الله عز وجل»).


1-  ولنضرب للقارئ العزیز مثالا واحدا یتبین من خلاله مدی الاختلاف بین هذه المصاحف مع کتاب الله الموجود الآن بین أیدینا، ففی سورة الأعراف الآیة رقم 154 نقرأ قوله تعالی: (وَلَمَّا سَکَتَ عَنْ مُوسَی الْغَضَبُ أخذ الْأَلْوَاحَ وَفِی نُسْخَتِهَا هُدًی وَرَحْمَةٌ لِلَّذِینَ هُمْ لِرَبِّهِمْ یَرْهَبُونَ). وقد ذکر السمعانی فی تفسیره ج2 ص219 اختلاف هذه المصاحف بقوله: (وقرأ معاویة بن قرة: «ولما سکن عن موسی الغضب» وفی مصحف ابن مسعود وأبی بن کعب: «ولما سیر عن موسی الغضب» وفی مصحف حفصة: «وإنما أسکت عن موسی الغضب»).

ص: 260

أمثلة لبعض التحریفات فی هذه المصاحف، مصحف حفصة أنموذجاً

خالد: (أنا لا أنکر أن فی بعض هذه المصاحف توضیحات لبعض ألفاظ القرآن وآیاته، فیمکن عدها من قبیل التفسیر، ولکن فی کثیر منها زیادات أو تحریفات لا یمکن عدّها تفسیراً.

ولأضرب لک مثالاً، فآیة الغار المعروفة عند الجمیع یقول الله سبحانه وتعالی فیها: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِینَ کَفَرُوا ثَانِیَ اثْنَیْنِ إِذْ هُمَا فِی الْغَارِ إِذْ یَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَکِینَتَهُ عَلَیْهِ وَأَیَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلَی وَکَلِمَةُ اللَّهِ هِیَ الْعُلْیَا وَاللَّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ» وأرجو أن تنتبهوا إلی العبارة التی وضعت تحتها خط، لأنها فی مصحف حفصة هکذا: «فأنزل الله سکینته علیهما وأیدهما بجنود لم تروها».

وهذا لا یمکن عدّه تفسیراً، لأنها لم تقل لنا إن الذی نزلت علیه السکینة هو فلان، أو إن الذی أیده الله بجنود هو فلان، حتی یمکن ان نعدّه تفسیرا، وإنما قالت أمراً لم یقله الله سبحانه، فالله یقول: «علیه» وهی تقول: «علیهما» والله سبحانه یقول: «وأیده» وهی تقول: «وأیدهما».

وبمعنی آخر، أن الله سبحانه یقول: أنا أتکلم عن شخص واحد أنزلت علیه سکینتی ونصرته بجنود لم تروها، وهی تقول: لا بل أنت أنزلت السکینة علی اثنین وأیدت اثنین بجنود لم نرها. وکأن حفصة أعلم من الله سبحانه.

ص: 261

اعتراف أصحاب هذه المصاحف بضیاع آیات القرآن وسوره

والأمرّ والأدهی من کل هذا هو اعتراف أصحاب هذه المصاحف المزورة بضیاع آیات کثیرة وسور کاملة من القرآن الکریم، کاعتراف أبی بن کعب بضیاع «213» آیة من سورة الأحزاب(1)، وکاعتراف عائشة بنت أبی بکر بضیاع آیات من القرآن تتعلق بمسألة الرضاع أکلتها الشاة بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)(2)، وکاعتراف عبد الله بن مسعود بعدم قرآنیة سورة الفلق والناس، فکان یحکهما ویمحوهما من مصاحفه ویقول إنهما لیستا من کتاب الله تبارک وتعالی(3)، وکان


1- روی النسائی فی السنن الکبری ج4 ص272: (أخبرنی معاویة معاویة بن صالح الأشعری قال ثنا منصور وهو ابن أبی مزاحم قال ثنا أبو حفص عن منصور عن عاصم عن ذر قال: قال أبی بن کعب: کم تعدون سورة الأحزاب آیة قلنا ثلاثاً وسبعین فقال أبی کانت لتعدل سورة البقرة ولقد کان فیها آیة الرجم الشیخ والشیخة فارجموهما البتة نکالا من الله والله عزیز حکیم). أقول: وعدد آیات سورة البقرة هی (286) فإذا طرحنا عدد سورة الأحزاب التی هی (73) من مجموع (286) فیبقی (213) آیة مفقودة من سورة الأحزاب کما یدعیه أبی بن کعب.
2- روی ابن ماجة فی سننه ج1 ص626 باب رضاع الکبیر: (حدثنا أبو سلمة یحیی بن خلف. ثنا عبد الأعلی عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبی بکر، عن عمرة، عن عائشة. وعن عبد الرحمن ابن القاسم عن أبیه، عن عائشة، قالت: لقد نزلت آیة الرجم، ورضاعة الکبیر عشرا. ولقد کان فی صحیفة تحت سریری. فلما مات رسول الله صلی الله علیه وسلم وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأکلها).
3- فی مسند احمد بن حنبل ج5 ص129 __ 130: (...عن عبد الرحمن بن یزید قال کان عبد الله یحک المعوذتین من مصاحفه ویقول إنهما لیستا من کتاب الله تبارک وتعالی. قال الأعمش وحدثنا عاصم عن زر عن أبی بن کعب قال سألنا عنهما رسول الله صلی الله علیه وسلم قال فقیل لی فقلت حدثنا عبد الله حدثنی أبی ثنا سفیان بن عیینة عن عبدة وعاصم عن زر قال قلت لأبی ان أخاک یحکهما من المصحف فلم ینکر. قیل لسفیان بن مسعود قال نعم ولیسا فی مصحف ابن مسعود کان یری رسول الله صلی الله علیه وسلم یعوذ بهما الحسن والحسین ولم یسمعه یقرؤهما فی شیء من صلاته فظن أنهما عوذتان وأصر علی ظنه وتحقق الباقون کونهما من القرآن فأودعوهما).

ص: 262

عبد الله بن عمر یصرح بأن القرآن الکریم قد ذهب منه شیء کثیر(1)).

إذا کان بیتک من زجاج فلا ترم ِ الناس بالحجارة

محمد: (یعنی هل یذهب رأیک إلی أن أهل السنة یقولون بتحریف القرآن الکریم؟).

خالد: (أنا لا أقول بنفی ولا إثبات، فهذه کتبهم وروایاتهم ولیحکم علیها من یقرأها بنفسه، ولکنی أقول إذا کان بیتک من زجاج فلا ترمِ الناس بالحجارة، فإذا کان فی کتبکم أیها المخالفون أحادیث تکسر الظهر ویشیب منها الرأس فلا ترموا الشیعة بأنهم یقولون بتحریف القرآن، أو ان الشیعة عندهم قرآن اسمه مصحف فاطمة، والآن یکفینا ما قلناه وأطلب من الجمیع العودة إلی موضوع البحث).

علی ماذا یحتوی مصحف فاطمة؟

محمد: (هل لکم أن تخبرونی إذن ما هو مصحف فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها)؟ وماذا یوجد فیه؟).


1- أخرج جلال الدین السیوطی فی الإتقان فی علوم القرآن ج2 ص67: (قال أبو عبید حدثنا إسماعیل بن إبراهیم عن أیوب عن نافع عن ابن عمر قال لا یقولن أحدکم قد أخذت القرآن کله وما یدریه ما کله قد ذهب منه قرآن کثیر ولکن لیقل قد أخذت منه ما ظهر).

ص: 263

أسامة: (روی الشیخ الکلینی: «عن محمد بن یحیی، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبی عبیدة، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: إن فاطمة علیها السلام مکثت بعد رسول الله صلی الله علیه وآله خمسة وسبعین یوما وکان دخلها حزن شدید علی أبیها وکان یأتیها جبرئیل فیحسن عزاءها علی أبیها ویطیب نفسها ویخبرها عن أبیها ومکانه ویخبرها بما یکون بعدها فی ذریتها وکان علی علیه السلام یکتب ذلک»(1)والروایة صحیحة من حیث الإسناد).

 فاطمة: (الذی یظهر لی من هذه الروایة ان مصحف فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) یحتوی علی أمور ثلاثة:

الأمر الأول: إخبار جبرائیل للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) عن أبیها (صلی الله علیه و آله و سلم)، والذی یظهر لی من عبارة الروایة ان هنالک مقامات وحقائق تخص النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) لم تکن حتی السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لتطلع علیها لولا جبرائیل.

الأمر الثانی:  إخبارها عن موضع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فی الملکوت الأعلی وما منحه الله سبحانه من منزلة، وما هو فیه من النعیم المقیم فی جنات الله سبحانه، والذی یظهر لی أیضا ان هنالک مقامات معنویة ملکوتیة أعطیت للنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد استشهاده لم تخطر علی قلب بشر ولا یمکن تخیلها أو الاطلاع علیها حتی من قبل موجود هو بمنزلة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وقد أطلعها الله سبحانه علیها بواسطة جبرائیل، وإلا فلو کانت هذه الأخبار معروفة عند السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لما احتاج جبرائیل إلی ذکرها وإیضاحها، لان إیضاح


1- الکافی للشیخ الکلینی ج1 ص458 باب مولد الزهراء فاطمة علیها السلام.

ص: 264

الواضحات لیس من فعل العقلاء.

الأمر الثالث: إخبارها عن حوادث ستقع فی المستقبل، وبالتحدید تلک التی ستقع علی ذریتها، ولفظ ذریتها قد یشمل کل فرد من أفراد ذریتها علی نحو التفصیل، والی یوم القیامة، أو قد یکون مختصا بالأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) من ذریتها فقط، ونستطیع ان نستنتج من کلا الفرضین ان هذه الأخبار ستحتوی علی کل أمر سیحدث بعد استشهادها (صلوات الله و سلامه علیها) والی یوم القیامة، لان کلا من الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) أو عامة ذریتها سیمتد وجودهم إلی یوم القیامة).

خالد: (ویظهر من بعض الروایات الشریفة أن هنالک وصیة لفاطمة مودعة أیضا فی ضمن طیات هذا المصحف المبارک(1)، والذی یظهر لی ان هذه الوصیة تتعلق بما سیکون بعدها من أحداث وما سیقع علی ذریتها.

فکل أم رحیمة بأبنائها عطوفة علی ذریتها إذا ما رأت أو أحست بأن واحدا من أبنائها سیقع فی مشکلة معینة فانها تقوم بواجب النصح وتعطی ولدها ما یستطیع من خلاله أن ینجو من مأزقه.

والسیدة الزهراء أرأف امرأة عرفتها البشریة، وأحرص أم علی مصلحة


1- روی محمد بن الحسن الصفار بسند صحیح فی کتابه بصائر الدرجات ص178 باب 14 فی الأئمة علیهم السلام أنهم أعطوا الجفر والجامعة ومصحف فاطمة علیها السلام: (حدثنا أحمد بن محمد عن النضر بن سوید عن هشام بن سالم عن سلیمان بن خالد قال سمعته یقول إن فی الجفر الذی یذکرونه لما یسؤهم انهم لا یقولون الحق وان الحق لفیه فلیخرجوا قضایا علی وفرایضه إن کانوا صادقین وسلوهم عن الخالات والعمات ولیخرجوا مصحفا فیه وصیة فاطمة علیها السلام وسلاح رسول الله قال الله تعالی إیتونی بکتاب من قبل هذا أو إثارة من علم أن کنتم صادقین).

ص: 265

أبنائها، ومن المستحیل أن تری ما سیجری علی ذریتها من الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وغیرهم ثم تقف مکتوفة الأیدی متفرجة علی ما سیحیط بهم من البلاء والنوائب، وعلیه فمن المنطقی جدا انها ستکتب وصایاها التی تکفل خلاص ذریتها ونجاتهم من کید عدوهم ومخططاته.

علما أن هذه الوصایا لها أهمیتها من حیث إنها لیست صادرة عن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وحدها، لان المجالس التی کانت تعقد لکتابة مصحف فاطمة کانت تضم جبرائیل (صلوات الله و سلامه علیه) الذی هو رسول رب العالمین إلیها، وتضم أیضا الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه)، فلابد والحال هذه أن تکون الوصیة التی تعطیها فاطمة ممضاة من قبل الله سبحانه بواسطة جبرائیل، وممضاة أیضا من قبل الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) الخلیفة والإمام الشرعی بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)).

فاطمة: (ولکن یا خالی توجد روایة فی الکافی وغیره تقول: إن وصیة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) کانت تتمحور حول إدارة بعض الأوقاف والأراضی التی کانت تحت تصرفها وملکها (صلوات الله و سلامه علیها)(1)، وهذا یخالف ما ذهبتم إلیه).


1- الکافی للشیخ الکلینی ج7 ص48: (...عن أبی بصیر قال: قال أبو جعفر علیه السلام: ألا أقرئک وصیة فاطمة علیها السلام؟ قال: قلت بلی قال: فأخرج حقا أو سفطا فأخرج منه کتابا فقرأه بسم الله الرحمن الرحیم هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد رسول الله صلی الله علیه وآله أوصت بحوائطها السبعة: العواف، والدلال، والبرقة، والمیثب، والحسنی، والصافیة، وما لام إبراهیم إلی علی بن أبی طالب علیه السلام فإن مضی علی فإلی الحسن فإن مضی الحسن فإلی الحسین فإن مضی الحسین فإلی الأکبر من ولدی شهد الله علی ذلک والمقداد بن الأسود والزبیر بن العوام وکتب علی بن أبی طالب).

ص: 266

خالد: (إن إثبات هذه الوصیة للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بخصوص حوائطها السبعة لا ینفی أن یکون عندها وصیة أخری فیها توجیهات وإرشادات وأوامر تتعلق بما سیجری علی ذریتها إلی یوم القیامة، لان إثبات الشیء لا ینفی ما عداه کما هو معروف، فلیس هنالک تعارض بین ما قلته أنا وبین ما تفضّلتِ به).

رد إشکال رؤیة السیدة الزهراء لجبرائیل والحدیث معه

محمد: (أرجوکم توقفوا ولا تکملوا حتی تجیبونی لأنی أسمع الآن کلاما لم أسمعه من قبل! فکیف یعقل أن یتنزل جبرائیل وهو من أعظم ملائکة الله المقربین وحامل أخبار السماء إلی الأنبیاء والمرسلین إلی السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، وهل هی نبیة أو رسولة حتی ینزل علیها جبرائیل؟! وماذا نجنی من هذه الروایات سوی سخریة المخالفین وتشنیعهم علینا أکثر مما یشنعون به علینا الآن؟!).

خالد: (عدم سماعک یا أخی العزیز بشیء لا یعنی عدم صحته، وأنت وبسبب ابتعادک قبل هذه الحوارات عن روایات أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ومقاماتهم صرت تستهجن کل أمر لم تسمع به من قبل، وأنا أعذرک من هذه الناحیة فقط، وان کان هذا الأمر لا یسوغ لک الإنکار والاستهجان لروایاتهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بسبب عدم سماعک بها أو عدم تعقلک لها، لان دین الله لا یقاس بالعقول ولا یخضع للتشهی والمیول.

والآن نأتی إلی استغرابک لنزول الملک جبرائیل علی سیدة نساء العالمین، فأقول انه استغراب فی غیر محله، لان جبرائیل قد نزل علی من هو أدنی رتبة

ص: 267

وکمالاً من السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، فقد حکی القرآن الکریم نزوله علی السیدة مریم العذراء(1).

والآیة المبارکة صریحة فی إرسال الله سبحانه جبرائیل للسیدة مریم مع أنها لیست نبیة ولا رسولة، والآیة أیضا صریحة فی کلام جبرائیل معها مباشرة ورؤیته رؤیة العین، فإذا جاز لمریم العذراء أن تری جبرائیل ولم یکن هنالک مانع عقلی أو شرعی جاز للسیدة فاطمة أن تراه أیضا لأنها أرفع درجة وکمالا، ولا ینبغی للعقل أن یمانع أیضا لأنّ حکم الأمثال فیما یجوز وما لا یجوز واحد، والشّیء یشمله حکم مثله.

ولم یکن جبرائیل الوحید الذی کلم مریم، فالقرآن یصرح بأنها تکلمت مع ملائکة آخرین بشروها بولادة عیسی وبشروها باصطفاء الله سبحانه لها علی نساء العالمین(2).

وهذه امرأة نبی الله إبراهیم (صلوات الله و سلامه علیه) تکلمها الملائکة وتبشرها بإسحاق


1- : قال سبحانه فی سورة مریم الآیة رقم 17 __ 19: (وَاذْکُرْ فِی الْکِتَابِ مَرْیَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَکَانًا شَرْقِیًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَیْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِیًّا * قَالَتْ إِنِّی أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْکَ إِنْ کُنْتَ تَقِیًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّکِ لِأَهَبَ لَکِ غُلَامًا زَکِیًّا).
2- قال سبحانه فی سورة آل عمران الآیة رقم 42 _ 45: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِکَةُ یَا مَرْیَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاکِ وَطَهَّرَکِ وَاصْطَفَاکِ عَلَی نِسَاءِ الْعَالَمِینَ * یَا مَرْیَمُ اقْنُتِی لِرَبِّکِ وَاسْجُدِی وَارْکَعِی مَعَ الرَّاکِعِینَ * ذَلِکَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَیْبِ نُوحِیهِ إِلَیْکَ وَمَا کُنْتَ لَدَیْهِمْ إِذْ یُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَیُّهُمْ یَکْفُلُ مَرْیَمَ وَمَا کُنْتَ لَدَیْهِمْ إِذْ یَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِکَةُ یَا مَرْیَمُ إِنَّ اللَّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهًا فِی الدُّنْیَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِینَ).

ص: 268

ویعقوب(1)، وقد ورد فی بعض النصوص أن هؤلاء الرسل من الملائکة هم کل من جبرائیل ومیکائیل وإسرافیل(2)، والکلام حول هذه الآیة هو نفس الکلام السابق فتأمل.

ومن قرأ القرآن الکریم وآیاته البینات یری العجب العجاب فی هذا الباب، فقد أوحی الله سبحانه إلی النحل(3)، والی أم موسی(4)، والی الحواریین(5)، والی


1- : کما فی قوله تعالی فی سورة هود الآیة 69 _ 73: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِیمَ بِالْبُشْرَی ... وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِکَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ یَعْقُوبَ * قَالَتْ یَا وَیْلَتَی أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِی شَیْخًا إِنَّ هَذَا لَشَیْءٌ عَجِیبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِینَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَکَاتُهُ عَلَیْکُمْ أهل الْبَیْتِ إِنَّهُ حَمِیدٌ مَجِیدٌ).
2- قال الثعلبی فی الکشف والبیان عن تفسیر القرآن ج5 ص177: (واختلفوا فی عددهم، فقال ابن عباس: کانوا ثلاثة: جبرئیل ومیکائیل وإسرافیل. الضحّاک: تسعة، السدّی: أحد عشر، وکانوا علی صورة الغلمان الوِضاء وجوههم).
3- قال تعالی فی سورة النحل الآیة رقم 68 _ 69: (وَأَوْحَی رَبُّکَ إلی النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِی مِنَ الْجِبَالِ بُیُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا یَعْرِشُونَ * ثُمَّ کُلِی مِنْ کُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُکِی سُبُلَ رَبِّکِ ذُلُلًا یَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِیهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِی ذَلِکَ لَآَیَةً لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ).
4- قال تعالی فی سورة طه الآیة رقم 36 _ 39: (قَالَ قَدْ أُوتِیتَ سُؤْلَکَ یَا مُوسَی * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَیْکَ مَرَّةً أُخْرَی * إِذْ أَوْحَیْنَا إلی أُمِّکَ مَا یُوحَی * أَنِ اقْذِفِیهِ فِی التَّابُوتِ فَاقْذِفِیهِ فِی الْیَمِّ فَلْیُلْقِهِ الْیَمُّ بِالسَّاحِلِ یَأخذهُ عَدُوٌّ لِی وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَیْتُ عَلَیْکَ مَحَبَّةً مِنِّی وَلِتُصْنَعَ عَلَی عَیْنِی). وقال سبحانه فی سورة القصص الایة رقم 7: (وَأَوْحَیْنَا إلی أُمِّ مُوسَی أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَلَا تَخَافِی وَلَا تَحْزَنِی إِنَّا رَادُّوهُ إِلَیْکِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ).
5- قال سبحانه فی سورة المائدة الآیة رقم 111: (وَإِذْ أَوْحَیْتُ إلی الْحَوَارِیِّینَ أَنْ آَمِنُوا بِی وَبِرَسُولِی قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ).

ص: 269

السماوات(1)، والی الأرض(2). وکذلک أخبر القرآن بأن الملائکة تتنزل علی الذین قالوا ربنا الله ثم استقاموا(3).

فلماذا لا نتعجب حینما یوحی الله إلی النحل أو إلی الأرض وهی خلیط من تراب وحجر، أو یکلم الحواریین، ونتعجب حینما نقول بأن جبرائیل یکلم السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وهی أعظم من الحواریین ومن النحل ومن أم موسی بل هی أعظم وأفضل من الأنبیاء والرسل «فَمَا لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ».

وأما خوفک من سخریة المخالفین لنا فهو خوف فی غیر محله، ولیس لهم الحق فی ذلک، وعلیهم أن یرجعوا إلی کتبهم وصحاحهم ولینظروا إلی اعترافهم بأن مجموعة من الصحابة والتابعین کانت تکلمهم الملائکة، فقد أخرج البخاری فی صحیحه: «حدثنا عبد العزیز بن عبد الله حدثنا إبراهیم بن سعد عن أبیه عن أبی سلمة عن أبی هریرة رضی الله عنه عن النبی صلی الله علیه وسلم قال إنه قد کان فیما مضی قبلکم من الأمم محدثون وانه إن کان فی أمتی هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب»(4)،


1- قال تعالی فی سورة فصلت الآیة رقم 11 _ 12: (ثُمَّ اسْتَوَی إلی السَّمَاءِ وَهِیَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِیَا طَوْعًا أَوْ کَرْهًا قَالَتَا أَتَیْنَا طَائِعِینَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِی یَوْمَیْنِ وَأَوْحَی فِی کُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَیَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْیَا بِمَصَابِیحَ وَحِفْظًا ذَلِکَ تَقْدِیرُ الْعَزِیزِ الْعَلِیمِ).
2- قال سبحانه فی سورة الزلزلة الآیة رقم 2 _ 5: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا * یَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّکَ أَوْحَی لَهَا).
3- قال سبحانه فی سورة فصلت الآیة رقم 30: (إِنَّ الَّذِینَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ الْمَلَائِکَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِی کُنْتُمْ تُوعَدُونَ).
4- صحیح البخاری ج4 ص149.

ص: 270

وقد نقل العینی عن الکرمانی أن المحدثین: «یعنی الملائکة تکلمهم»(1).

وکذلک ذکروا فی ترجمة عمران بن الحصین أن الملائکة الحفظة کانت تکلمه(2)، وان الملائکة کانت تسلم علیه(3)، وغیر هذا الکثیر لمن تتبع أخبارهم).

هل کانت السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لا تعرف النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) کی تحتاج إلی جبرائیل لیعلمها؟

محمد: (قد أقنعتنی بهذا الجواب، ولکن عندی سؤال آخر، فالأخت فاطمة ذکرت أن هنالک مقامات دنیویة وأخرویة تخص النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) لم تکن حتی السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لتطلع علیها لولا جبرائیل، فهل یعقل هذا؟ وهل السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أقل علما من جبرائیل حتی تحتاج إلیه لیعلمها؟).

فاطمة: (أنا لم أذهب إلی ما ذهبت إلیه من دون دلیل، فعندنا روایة معروفة ومتسالمة عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال للإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه): «یا علی لا یعرف الله تعالی إلا أنا وأنت ولا یعرفنی إلا الله وأنت ولا یعرفک إلا الله وأنا»(4).


1- عمة القاری للعینی ج16 ص199.
2- قال ابن عبد البر فی الاستیعاب ج3 ص1209: (عمران بن حصین... وکان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، یقول عنه أهل البصرة: إنه کان یری الحفظة وکانت تکلِّمه حتی اکتوی).
3- قال ابن الأثیر فی أسد الغابة ج4 ص138: (وکان فی مرضه تسلم علیه الملائکة فاکتوی ففقد التسلیم ثم عادت إلیه).
4- صرح العالم النحریر محمد تقی المجلسی فی کتابه روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه ج13 ص273 ان هذا الحدیث روی بطرق متکثرة.

ص: 271

وکذلک روی عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم): «لله حق لا یعلمه إلا أنا وعلی، وإن لی حقاً لا یعلمه إلا الله وعلی، ولعلی حق لا یعلمه إلا الله وأنا»(1).

والحدیثان یدلان علی ان للنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وللإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) حقاً أو منزلة لا یعلمها إلا الله سبحانه، وقد حجبت هذه المنازل حتی عن السیدة الزهراء وبقیة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، لان الحدیث لم یذکرهم، ولکن هذه المنازل وان کانت غیر معلومة إلا لله سبحانه،  إلا انه یمکن لله سبحانه أن یختص السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لتطلع علیها بواسطة جبرائیل).

خالد: (والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لم تکن تأخذ من جبرائیل بوصفه جبرائیل، بل کانت تأخذ منه بوصفه مرسلاً من الله إلی السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، وهذا لا عیب فیه، ولا یلزم منه نقص، فالنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) الذی هو أعظم من السیدة الزهراء کان یأخذ من جبرائیل بوصفه المرسل الأمین من قبل الله سبحانه، وتوجد روایة صحیحة تدل علی ان الذی أملی مصحف فاطمة علیها هو الله سبحانه بوحی منه عن طریق جبرائیل الأمین(2)وهذا غایة الفضل ومنتهی الکمال).


1- الروضة فی فضائل أمیر المؤمنین لابن شاذان ص169. وورد فی بعض المصادر هکذا: (إنّ للّه حقّاً لا یعلمه إلاّ أنا وهو، وإنّ لی حقّاً لا یعلمه إلاّ الله وهو، وإنّ لعلیّ حقّاً لا یعلمه إلاّ الله وأنا) راجع العقد النضید والدر الفرید لمحمد بن الحسین القمی ص18.
2- روی محمد بن الحسن الصفار فی بصائر الدرجات ص172 عن الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال: (... وان عندنا لمصحف فاطمة علیه السلام وما یدریهم ما مصحف فاطمة قال مصحف فیه مثل قرآنکم هذا ثلاث مرات والله ما فیه من قرآنکم حرف واحد إنما هو شیء أملاها الله وأوحی إلیها قال قلت هذا والله هو العلم...).

ص: 272

الدلیل العشرون: وجه الاستدلال بمصحف فاطمة علی أفضلیتها علیها السلام

اشارة

أسامة: (ألا ترحمنا الیوم یا محمد من إشکالاتک، فنحن إلی الآن لم نتقدم فی البحث إلا قلیلا، وقد کان الأحری بک أن تستمع إلی البحث کاملاً ومن ثم تسجل ما عندک من أسئلة وتطلب الإجابات علیها).

خالد: (لا تغضب یا أسامة، ودع محمداً یسأل عما عنده، لان الغرض من هذا الحوار __ إذا کنت تذکر __ هو للإجابة عن الأسئلة والإشکالات التی تربک ذهنکم ولا تستطیعون حلها بمفردکم، ثم إنی أتعجب من انتقادک لأخینا محمد وقد کنت مثله، وأنا أتذکر حینما کنا نجلس فی حدیقة المکتبة لا نستطیع التکلم لدقیقتین من دون أن تعترض وتشکل وتطلب الإجابات فسبحان مغیر الأحوال من حال إلی حالّ).

محمد: (مرحبا بناصری).

أسامة: (آسف).

خالد: (والآن لنرجع إلی موضوع الحوار، وأخبرونی ما هو وجه دلالة مصحف فاطمة علی أفضلیة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)؟).

ص: 273

أسامة: (لقد وجدت الیوم روایة عن الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) یقول فیها: «... ولقد أعطیت زوجتی مصحفا فیه من العلم ما لم یسبقها إلیه أحد خاصة من الله ورسوله»(1) وهو واضح فی تفضیلها علی جمیع الخلق، إلا النبی وعلی (صلوات الله و سلامه علیهما) کما کررنا ذلک من قبل).

فاطمة: (لدی دلیل أحب أن أعرضه لکم عن طریق نقاط عدیدة تسهیلاً لفهمه، فأقول:

أولا: إن أعظم الناس أجراً وقدراً ومنزلةً عند الله سبحانه هم العلماء، وإن إحدی أهم أسباب تفاضل البشر بعضهم علی بعض هو بالعلم، کما قال تعالی: «یَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِینَ آَمَنُوا مِنْکُمْ وَالَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ»(2).

ثانیا: إن أشرف العلوم علی الإطلاق هو علم التوحید ومعرفة الخالق جل وعلا، وهذا العلم لا یأتی بنتائجه الرفیعة العظیمة من دون معرفة منازل ومراتب أهل البیت  التی رتبهم الله فیها، لأنهم الطریق والسبیل إلی معرفة الله سبحانه.

ثالثا: إن فی معرفتهم یرفع الله الذین آمنوا وعملوا الصالحات درجات، کل بحسبه وبحسب سعة معرفته(3).


1- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص220 الباب 9 الحدیث 2.
2- سورة المجادلة الآیة رقم 11.
3- وقد جاء تصدیق کل ذلک علی لسان الروایات الشریفة، نختار منها ما عن المفضل أنه دخل علی مولانا الصادق صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فقال له: (یا مفضل هل عرفت محمدا وعلیا وفاطمة والحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کنه معرفتهم؟ قلت: یا سیدی وما کنه معرفتهم؟ قال: یا مفضل من عرفهم کنه معرفتهم کان مؤمنا فی السنام الأعلی) راجع مستدرک سفینة البحار للشیخ علی النمازی الشاهرودی ج 7 ص 180 __ 182.

ص: 274

رابعا: ان أعظم الناس معرفة بمحمد وأهل بیته الأطهار هم الرسل (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) أعظم معرفة بالله سبحانه وبأنفسهم من بقیة الرسل، لان أهل البیت أدری بمن فیه وبما فیه، فیکونوا (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) أکمل من الرسل وارفع منزلة وأجرا، لذلک صارت درجاتهم فی الجنة لا یبلغها بالغ ولا یصل إلیها طامح(1).

خامسا: ان فی مصحف فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) علم ببعض مقامات وکمالات النبی الأعظم (صلوات الله و سلامه علیها)، وعلم ببعض المراتب الملکوتیة التی منحت له بعد رحیله من الدنیا لم یطلع علیها أحد من العالمین حتی الأنبیاء والرسل والملائکة(2)، وقد أتحف الله السیدة الزهراء به وشرفها بمعرفته، فازدادت کمالا إلی کمالها وشرفا إلی شرفها(3)، فعلت بذلک مرتبتها الکمالیة علی مراتب الأنبیاء


1- لذلک ورد فی زیارتهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) کما روی فی عیون أخبار الرضا للشیخ الصدوق ج2 ص307: (فبلغ الله بکم أشرف محل المکرمین وأعلی منازل المقربین وأرفع درجات أوصیاء المرسلین حیث لا یلحقه لاحق ولا یفوقه فائق ولا یسبقه سابق ولا یطمع فی إدراکه طامع حتی لا یبقی ملک مقرب ولا نبی مرسل ولا صدیق ولا شهید ولا عالم ولا جاهل ولا دنی ولا فاضل ولا مؤمن صالح ولا فاجر طالح ولا جبار عنید ولا شیطان مرید ولا خلق فیما بین ذلک شهید إلا عرفهم جلالة أمرکم وعظم خطرکم وکبر شأنکم وتمام نورکم وصدق مقاعدکم وثبات مقامکم وشرف محلکم ومنزلتکم عنده وکرامتکم علیه وخاصتکم لدیه وقرب منزلتکم منه).
2- مر الکلام عن هذه النقطة فی عنوان (علی ماذا یحتوی مصحف فاطمة؟) فراجع.
3- لأنه وکما قلنا سابقا کلما عظمت معرفة الإنسان بالله سبحانه وبأهل البیت ازداد کمالا وشرفا عند الله سبحانه.

ص: 275

أضعافا مضاعفة، لأنها أصبح عندها من العلم ما لیس عند أحد من العالمین، فأصبحت بذلک أفضل العالمین.

سادسا: إن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أورثت هذا العلم إلی الأئمة من ولدها (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فازدادوا بذلک فضلا، وزادت علیهم بأن کانت سببا لإیصال هذا العلم لهم، فلها ضعفان من الأجر والکمال).

خالد: (أمّا أنا فقد قرأت البارحة کلاماً مهماً للسید الخمینی حول روایة نزول جبرائیل علیها لمدة خمسة وسبعین یوما وسأنقله لکم بالنص: «وظاهر الروایة أنه کانت تحصل مراودة خلال هذه الخمسة و السبعین یوماً، أی إن هبوط جبرائیل وصعوده کان کثیراً، ولا أظن أنه قد ورد فی حق أحد غیر الطبقة الأولی من الأنبیاء العظام مثل ما ورد فی شأنها من أنّ جبرائیل الأمین وخلال مدة خمسة وسبعین یوماً کان یهبط علیها ویذکر لها القضایا التی ستقع فی المستقبل وما سیجری علی ذریتها، وکان الأمیر یکتب ذلک، وکما کان أمیر المؤمنین کاتباً لوحی رسول الله فقد کان کاتباً لوحی السیدة الصدیقة خلال الخمسة والسبعین یوماً، وبالطبع فإن الوحی بمعنی الإتیان بالأحکام قد انتهی بموت الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله.

وإنّ مسألة مجیء جبرائیل لشخص لیست مسألة بسیطة، فلا یُظنّ أن جبرائیل قد هبط أو یمکن أن یهبط لکل فرد، فإن هذا یستلزم تناسباً ما بین روح ذلک الشخص الذی سیهبط علیه جبرائیل وبین مقام جبرائیل الذی هو الروح الأعظم...، وکان مثل هذا التناسب متحقّقاً بین جبرائیل الذی هو الروح الأعظم

ص: 276

وبین الأنبیاء ذوی الدرجة الأولی مثل رسول الله وموسی وعیسی وإبراهیم وأمثالهم، ولم أرَ هذا قد حصل لکل الأفراد ولم یقع بعد ذلک لشخص آخر، بل إننی لم أرَ حتی فی حق الأئمّة أن جبرائیل قد نزل علیهم بهذا الشکل، وکل ما شاهدته أنه نزل علی الزهراء علیها السلام فقط، وبشکل متکرر خلال هذه الخمسة والسبعین یوماً وکان یحدّثها بما سیجری علی ذریّتها...، وعلی کل حال فإننی أعد هذا الشرف وهذه الفضیلة أعظم من جمیع الفضائل التی ذکروها للزهراء رغم إنها فضائل عظیمة، حیث إنه لم تقع مثل هذه الفضیلة لغیر الأنبیاء علیهم السلام بل إنها لم تقع لکل الأنبیاء، بل للطبقة الرفیعة من الأنبیاء علیهم السلام ولبعض الأولیاء الذین هم فی رتبتهم»(1)).

محمد: (لقد جذبت انتباهی مسألة نزول جبرائیل (صلوات الله و سلامه علیه) لهذه المدة الطویلة، وإیحاء الله سبحانه لها وإتحافها بشیء لم یعطه للأنبیاء والرسل من قبلها، کل ذلک لمجرد شعور السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بالحزن الشدید علی أبیها، وهذا یعکس لنا مدی مراعاة الله سبحانه لأحاسیس ومشاعر السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها).

والروایة التی فی الکافی تظهر بأن الکون کله کان مشغولاً لمجرد أن السیدة الزهراء دخلها الحزن علی فقد أبیها، وأن المستحیل یجب أن یبذل فی سبیل تخفیف هذا الحزن واللوعة، بدلیل أن أعلی سلطة فی الملائکة وهو جبرائیل کلف بأن ینزل لیخفف عنها آلامها وحزنها، وهذا ما لم نعهده فی الأنبیاء


1- صحیفة النور  ج19 ص278-279.

ص: 277

السابقین والرسل الماضین، فهذا یعقوب النبی (صلوات الله و سلامه علیه) قد دخله الحزن الشدید علی ابنه یوسف حتی کاد یهلک وقد ابیضت عیناه من الحزن وهو کظیم(1)، إلا أن جبرائیل لم ینزل علیه لمدة خمسة وسبعین یوما فی محاولة منه لتخفیف ألمه وحزنه،  وهذه الزیادة فی الاهتمام تکشف عن الزیادة فی الکمال والأفضلیة).

خالد: (أحسنت الاستنتاج أخی العزیز محمد، وأحب أن أضیف إلی کلامک أن مدة الخمسة والسبعین المذکورة فی الروایة هی مدة بقائها (صلوات الله و سلامه علیها) علی قید الحیاة، ولو کانت السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) قد بقیت مئة عام لبقی جبرائیل ینزل علیها مئة عام ویحدثها، ولبقی الکون مشغولاً بحزنها ما دامت علی قید الحیاة، وهذا ما لم یحصل مع أحد من الناس، أنبیاءً کانوا أو أوصیاء أو صحابة، جناً کانوا أو إنساً أو ملائکة).

توقف الجمیع عن الکتابة فعرف خالد أن القوم قد أکملوا ما عندهم من کلام حول هذه المسألة، فکتب: (هل عندکم سؤال عن مصحف فاطمة قبل أن ننهی الکلام حوله؟).

هل نزل مصحف فاطمة من السماء؟

أسامة: (قد قرأت الیوم فی أحد کتب المکتبة أن الله سبحانه أمر جبرائیل ومیکائیل وإسرافیل أن یحملوا مصحف فاطمة فینزلوا به علیها، وذلک فی لیلة


1- قال سبحانه فی سورة یوسف 84 __ 85: (وَتَوَلَّی عَنْهُمْ وَقَالَ یَا أَسَفَی عَلَی یُوسُفَ وَابْیَضَّتْ عَیْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ کَظِیمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْکُرُ یُوسُفَ حَتَّی تَکُونَ حَرَضًا أَوْ تَکُونَ مِنَ الْهَالِکِینَ).

ص: 278

الجمعة، وان فیه خبر ما کان، وخبر ما یکون إلی یوم القیامة، وفیه خبر سماء سماء، وعدد ما فی سماء سماء من الملائکة، وغیر ذلک، وعدد کل من خلق الله مرسلاً وغیر مرسل، وأسماؤهم، وأسماء الذین أرسلوا إلیهم، وأسماء من کذب ومن أجاب منهم، وفیه أسماء جمیع من خلق الله من المؤمنین والکافرین، من الأولین والآخرین، وأسماء البلدان، وصفة کل بلد فی شرق الأرض وغربها وأشیاء أخری(1)، فهل هذا


1- روی هذه الروایة محمد بن جریر الطبری (الشیعی) فی دلائل الإمامة ص106: (حدثنی أبو الحسین محمد بن هارون بن موسی التلعکبری، قال: حدثنا أبی، قال: حدثنا أبو علی محمد بن همام قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مالک الفزاری قال: حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، قال: حدثنی علی بن سلیمان وجعفر بن محمد، عن علی بن أسباط، عن الحسین بن أبی العلاء وعلی ابن أبی حمزة، عن أبی بصیر، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علی علیه السلام عن مصحف فاطمة صلوات الله علیها، فقال: انزل علیها بعد موت أبیها. فقلت: ففیه شیء من القرآن؟ قال: ما فیه شیء من القرآن. قال: قلت: فصفه لی. قال: له دفتان من زبرجدتین علی طول الورق وعرضه حمراوین. قلت له: جعلت فداک صف لی ورقه. قال: ورقه من در أبیض قیل له: کن فکان. قلت: جعلت فداک، فما فیه؟ قال: فیه خبر ما کان، وخبر ما یکون إلی یوم القیامة، وفیه خبر سماء سماء، وعدد ما فی سماء سماء من الملائکة، وغیر ذلک، وعدد کل من خلق الله مرسلا وغیر مرسل، وأسماؤهم، وأسماء الذین أرسلوا إلیهم، وأسماء من کذب ومن أجاب منهم، وفیه أسماء جمیع من خلق الله من المؤمنین والکافرین، من الأولین والآخرین، وأسماء البلدان، وصفة کل بلد فی شرق الأرض وغربها، وعدد ما فیها من المؤمنین، وعدد ما فیها من الکافرین، وصفة کل من کذب، وصفة القرون الأولی وقصصهم، ومن ولی من الطواغیت ومدة ملکهم وعددهم، وفیه أسماء الأئمة وصفتهم، وما یملک واحدا واحدا، وفیه صفة کراتهم، وفیه صفة جمیع من تردد فی الأدوار من الأولین والآخرین. قال: قلت: جعلت فداک وکم الأدوار؟ قال: خمسون ألف عام، وهی سبعة أدوار، وفیه أسماء جمیع من خلق الله من الأولین والآخرین وآجالهم، وصفة أهل الجنة، وعدد من یدخلها، وعدد من یدخل النار، وأسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء، وفیه علم القرآن کما أنزل، وعلم التوراة کما أنزلت، وعلم الإنجیل، والزبور، وعدد کل شجرة ومدرة فی جمیع البلاد. قال أبو جعفر علیه السلام: فلما أراد الله عز وجل أن ینزله علیها، أمر جبرئیل ومیکائیل وإسرافیل أن یحملوا المصحف فینزلوا به علیها، وذلک فی لیلة الجمعة من الثلث الثانی من اللیل، هبطوا به علیها وهی قائمة تصلی، فما زالوا قیاما حتی قعدت، فلما فرغت من صلاتها سلموا علیها، وقالوا لها: السلام یقرئک السلام. ووضعوا المصحف فی حجرها، فقالت لهم: الله السلام، ومنه السلام، وإلیه السلام، وعلیکم یا رسل الله السلام. ثم عرجوا إلی السماء، فما زالت من بعد صلاة الفجر إلی زوال الشمس تقرأه، حتی أتت علی آخره. ولقد کانت صلوات الله علیها طاعتها مفروضة علی جمیع من خلق الله من الجن، والإنس، والطیر، والبهائم، والأنبیاء، والملائکة. فقلت: جعلت فداک فلما مضت إلی من صار ذلک المصحف؟ فقال: دفعته إلی أمیر المؤمنین علیه السلام، فلما مضی صار إلی الحسن، ثم إلی الحسین، ثم عند أهله حتی یدفعوه إلی صاحب هذا الأمر. فقلت: إن هذا العلم کثیر! فقال: یا أبا محمد، إن هذا الذی وصفته لک لفی ورقتین من أوله، وما وصفت لک بعد ما فی الورقة الثالثة، ولا تکلمت بحرف منه).

ص: 279

صحیح؟ وهل فیه تعارض مع تلک الروایة التی مرت علینا فی الکافی؟).

خالد: (هذه الروایة إن ثبتت فهی متعارضة مع روایة الشیخ الکلینی الصحیحة السند، لان روایة الشیخ الکلینی تقول إن جبرائیل هو الذی حدثها والإمام أمیر المؤمنین یکتب، وهذه الروایة تقول إن المصحف أنزل علیها جاهزاً مجهزاً، وإن جبرائیل والإمام أمیر المؤمنین لم یکن لهما دور فی الموضوع أصلاً، وهذا تعارض واضح بین الروایتین.

ولکن الأمر کما یقولون هین، لان هذه الروایة التی تقول إن مصحف فاطمة قد نزل من السماء ضعیفة السند، وإذا تعارضت روایتان أحدهما صحیحة

ص: 280

والأخری ضعیفة تقدم الصحیحة وتهمل الضعیفة کما هو مقرر ومعروف عند أهل هذا العلم.

وضعف الروایة القائلة بنزول مصحف فاطمة من السماء یرجع إلی عدة أسباب منها:

1: أن محمد بن هارون بن موسی التلعکبری، اُختلف فی توثیقه وتضعیفه، فمن وثقه اعتمد علی ترحم الشیخ النجاشی علیه فی رجاله(1)، ومن ضعفه اعتمد علی أن مجرد الترحم لا یکفی فی توثیق الراوی(2).

2: محمد بن أحمد بن حمدان لم أجد له ترجمة فهو مجهول، وعلی أقل التقادیر فإنه مشترک بین مجموعة من الأشخاص کلهم ما بین ضعیف ومجهول.

3: علی بن سلیمان: وهو علی بن سلیمان بن داود الرازی، وهو مجهول، إذ لا


1- قال الشیخ النجاشی فی فهرست أسماء مصنفی الشیعة ص79 عند حدیثه عن احمد بن محمد بن الربیع: (... قال أبو الحسین محمد بن هارون بن موسی رحمه الله: قال أبی: قال أبو علی بن همام: حدثنا عبد الله بن العلاء قال: کان أحمد بن محمد بن الربیع عالما بالرجال).
2- من الذین لا یرون أن فی الترحم توثیقا السید الخوئی فقد قال فی معجم رجال الحدیث ج1 ص74: (إن الترحم هو طلب الرحمة من الله تعالی، فهو دعاء مطلوب ومستحب فی حق کل مؤمن، وقد أمرنا بطلب المغفرة لجمیع المؤمنین وللوالدین بخصوصهما. وقد ترحم الصادق علیه السلام لکل من زار الحسین علیه السلام، بل إنه سلام الله علیه، قد ترحم لأشخاص خاصة معروفین بالفسق لما فیهم ما یقتضی ذلک، کالسید إسماعیل الحمیری وغیره، فکیف یکون ترحم الشیخ الصدوق أو محمد بن یعقوب وأمثالهما کاشفا عن حسن المترحم علیه؟ وهذا النجاشی قد ترحم علی محمد بن عبد الله بن محمد بن عبید الله بن البهلول، بعد ما ذکر أنه رأی شیوخه یضعفونه وأنه لأجل ذلک لم یرو عنه شیئا وتجنبه).

ص: 281

توجد له ترجمة فی کتب الرجال، وقد اعترف السید الخوئی بمجهولیة هویته(1).

4: جعفر بن محمد بن مالک الفزاری، حیث ضعفه الشیخ النجاشی(2)، وکذلک فعل ابن الغضائری(3)، ولکن الشیخ الطوسی وثقه(4)، وقد حکم أکثر أهل هذا الفن علی تقدیم قول النجاشی علی قول الشیخ الطوسی حین التعارض(5)، ولاسیما ان رأی الشیخ النجاشی معتضد بقول ابن الغضائری وقدحه المتقدم بجعفر بن محمد بن مالک الفزاری، ومعضود أیضا بتوقف العلامة الحلی وعدم قبول روایة الفزاری هذا(6).


1- معجم رجال الحدیث للسید الخوئی ج15 ص150: (...فإن علی بن سلیمان مجهول).
2- قال الشیخ النجاشی فی فهرست أماء مصنفی الشیعة ص122: (جعفر بن محمد بن مالک بن عیسی بن سابور، مولی أسماء بن خارجة بن حصن الفزاری، کوفی، أبو عبد الله، کان ضعیفا فی الحدیث، قال أحمد بن الحسین کان یضع الحدیث وضعا ویروی عن المجاهیل، وسمعت من قال: کان أیضا فاسد المذهب والروایة، ولا أدری کیف روی عنه شیخنا النبیل الثقة أبو علی بن همام، وشیخنا الجلیل الثقة أبو غالب الزراری رحمهما الله، ولیس هذا موضع ذکره).
3- رجال ابن الغضائری لأحمد بن الحسن الغضائری ص48: (جعْفَرُ بنُ مُحَمَّد بن مالِک بن عِیْسی بن سابُوْر، مولی مالِک ابن أسْماء بن خارِجة، الفَزَاریّ، أبُو عَبْدِ الله. کَذّابٌ، مَتْرُوکُ الحدیثِ جُمْلةً، وفی مذهبِهِ ارْتفاعٌ، ویَرْوی عن الضُعفاء والمجاهِیْل، وکلُّ عُیُوب الضُعفاء مُجْتَمِعَةٌ فِیه).
4- قال الشیخ الطوسی فی رجاله ص418: (جعفر بن محمد بن مالک، کوفی، ثقة، ویضعفه قوم، روی فی مولد القائم علیه السلام أعاجیب).
5- راجع الرسائل الرجالیة لمحمد بن محمد إبراهیم الکلباسی ج2 ص313 (التذییل الثانی عشر: فی تعارض قول الشیخ النجاشی والشیخ الطوسی) فقد ذکر هنالک تصریحات کثیر من العلماء فی تقدیم قول الشیخ النجاشی علی الطوسی مع تبیان أسباب هذا التقدیم.
6- قال العلامة الحلی فی خلاصة الأقوال ص331: (والظاهر أنه هو هذا المشار إلیه، فعندی فی حدیثه توقف، ولا أعمل بروایته).

ص: 282

5: الحسین بن أبی العلاء: وقد اختلفوا فی توثیقه وعدمه، فمنهم من زکاه، ومنهم من توقف فی روایاته(1)، وقد صرح المازندرانی أن من وثقه قد قبل قوله فیما لو لم یوجد له معارض(2)، وروایة الشیخ الکلینی الصحیحة السند معارضة لقوله بأن مصحف فاطمة قد نزل من السماء، فیرفض قوله وترد روایته عملا بقول المازندرانی.

6: علی بن أبی حمزة البطائنی، وهو أحد أعمدة الواقفة(3)، وقد وردت أحادیث کثیرة فی لعنه وذمه(4)، وقد ضعفه ابن الغضائری ولعنه(5)، وکذلک فعل علی بن الحسن بن فضال(6)، ولکن البعض عمل بروایته(7). والشیخ الطوسی أعطی


1- رجال ابن داود الحلی ص79: (الحسین بن أبی العلاء الخفاف أبو علی الأعور، وقیل الخصاف وقیل مولی لبنی عامر «کش» فیه نظر عندی لتهافت الأقوال فیه، وقد حکی سیدنا جمال الدین رحمه الله فی «البشری» تزکیته، وأخواه علی وعبد الحمید رویا عنه علیه السلام وکان هو أوجههم).
2- منتهی المقال فی أحوال الرجال للشیخ محمد بن إسماعیل المازندرانی ج3 ص10 __ 12: (وظاهر الأصحاب قبول قوله مع عدم المعارض).
3- فهرست أسماء مصنفی الشیعة للشیخ النجاشی ص250: (وهو أحد عمد الواقفة).
4- نقل هذه الأحادیث الشیخ الطوسی فی اختیار معرفة الرجال ج2 ص742 وما بعدها.
5- رجال ابن الغضائری ص83: (علیُّ بنُ أبی حَمْزة لَعَنَهُ اللهُ أصلُ الوَقْفِ، وأشَدُّ الخَلقِ عَداوَةً لِلوَلِیِّ من بَعْدِ أبی إبْراهیْم __ الإمام علی بن موسی الرضا __ علیهما السلام).
6- قال العلامة الحلی فی خلاصة الأقوال ص363: (وقال أبو الحسن علی بن الحسن بن فضال: علی ابن أبی حمزة کذاب واقفی، متهم ملعون، وقد رویت عنه أحادیث کثیرة، وکتبت عنه تفسیر القرآن کله من أوله إلی آخره إلا أنی لا أستحل أن أروی عنه حدیثا واحدا).
7- یقول السید الخمینی فی کتاب البیع ج2 ص631: (علیّ بن أبی حمزة البطائنیّ، وهو ضعیف علی المعروف، وقد نقل توثیقه عن بعض. وعن الشیخ فی «العدّة »: عملت الطائفة بأخباره. وعن ابن الغضائریّ: أبوه أوثق منه. وهذه الأُمور وإن لم تثبت وثاقته مع تضعیف علماء الرجال وغیرهم إیّاه، لکن لا منافاة بین ضعفه والعمل بروایاته; اتکالاً علی قول شیخ الطائفة، وشهادته بعمل الطائفة بروایاته، وعمل الأصحاب جابر للضعف من ناحیته. ولروایة کثیر من المشایخ وأصحاب الإجماع عنه، کابن أبی عمیر، وصفوان بن یحیی ... وغیرهم ممّن یبلغون خمسین رجلاً).

ص: 283

قاعدة عامة عمل بها العلماء من بعده، وفحوی هذه القاعدة هو أن الروایة التی یأتی بها البطائنی وأمثاله من المنحرفین إذا کان لها شاهد موثوق أو قرینة تعضده فإنه یعمل بها، وأما إذا کانت هنالک روایة صحیحة أو موثقة تخالفه وجب طرح روایة ذلک المنحرف والأخذ بما صح عن طریق الثقات(1).

وتطبیقا لهذه القاعدة فإنه یجب علینا طرح روایة البطائنی القاضیة بنزول مصحف فاطمة من السماء لوجود روایة الکافی التی هی أصح منها سندا تقول بعدم نزوله.

إذن فالنتیجة التی نخرج بها هی أن روایة نزول مصحف فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) من السماء هی روایة ضعیفة، ولا یمکن لها أن تعارض روایة الکافی الصحیحة.

نعم قد حاول بعض الباحثین التوفیق بین الروایتین بما احتمله من أن جبرائیل علیه السلام بعد أن أخبر السیدة الزهراء مشافهة بمحتوی مصحف فاطمة


1- قال الشیخ الطوسی فی العدة فی أصول الفقه ج1ص150: (...وإذا کان الراوی من فرق الشیعة مثل الفطحیة، والواقفة، والناووسیة وغیرهم نظر فیما یرویه: فإن کان هناک قرینة تعضده، أو خبر آخر من جهة الموثوقین بهم، وجب العمل به. وإن کان هناک خبر آخر یخالفه من طریق الموثوقین، وجب إطراح ما اختصوا بروایته والعمل بما رواه الثقة. وإن کان ما رووه لیس هناک ما یخالفه، ولا یعرف من الطائفة العمل بخلافه، وجب أیضا العمل به إذا کان متحرجا فی روایته موثوقا فی أمانته، وإن کان مخطئا فی أصل الاعتقاد).

ص: 284

قد أتی فی إحدی المرات بالمصحف مکتوباً من السماء، أو أن الذی نزل من السماء کان متمّماً ومکملاً لما کتبه الإمام أمیر المؤمنین(صلوات الله و سلامه علیه) (1).

ولکن لا یخفی علیکم أن هذا الجمع بین الروایتین مما لا شاهد علیه لا من نفس الروایة ولا من روایة أخری، فیصبح من قبیل الجمع التبرعی(2)، إضافة إلی أ شروط التعارض هنا غیر متحققة فلا تصل النوبة إلی محاولة الجمع(3)).


1- قال السید هاشم الهاشمی فی کتابه حوار مع فضل الله حول الزهراء «ص149»: (ومع غض النظر عن ضعف سندها... فإنه لا منافاة بین کتابة أمیر المؤمنین علیه السلام لما کان یملیه جبرائیل علیه السلام علی الزهراء علیها السلام وبین نزول المصحف من السماء إلیها، إذ لعله کان مکملا لما کتبه أمیر المؤمنین علیه السلام، أو لعله کان مطابقا لما کتبه أمیر المؤمنین أنزل علیها إتحافا وإکراما لتقرأه بصورة مجموعة، وقد دلت صحیحة أبی عبیدة السابقة أن نزول جبرائیل علیها السلام کان متکررا خلال المدّة التی عاشتها الزهراء علیها السلام بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه وآله والمحددة بخمسة وسبعین یوما، ولا مانع أن یکون جبرائیل علیه السلام قد أتی فی إحدی المرات بالمصحف مکتوبا بعد الانتهاء من إخبارها مشافهة بمحتواه).
2- یقول الشیخ السبحانی فی موسوعة طبقات الفقهاء «ج2 ص422»: (کان الأصل عند العلماء هو تقدیم الجمع علی الترجیح فی تعارض الأخبار وعلیه سار شیخنا الطوسی فی کتابیه حتی اشتهر بأنّ الجمع أولی من الطرح، إلی أن جاء المحقّق البهبهانی فعین للجمع والترجیح ضابطة کلیة، وهی انّ الجمع لو کان أمراً مقبولاً عند العقلاء وسائداً بینهم، فالجمع مقدَّم علی الترجیح، کما هو الحال فی العام والخاص والمطلق والمقید. وأمّا إذا لم یکن الجمع مقبولاً فهو من موارد الترجیح، وبذلک أثبت انّ الجمع التبرعی أی الجمع بلا شاهد لا دلیل علیه، وقد کان لهذه الضابطة آثار مهمة فی الاستنباط والتحقیق.
3- أوضح الشیخ محمد رضا المظفر فی کتابه أصول الفقه «ج3 ص211 _ 212» شروط التعارض وهی سبعة نقتصر علی ذکر الأول منها وهو: (ألا یکون أحد الدلیلین أو کل منهما قطعیا، لأنه لو کان أحدهما قطعیا فإنه یعلم منه کذب الآخر، والمعلوم کذبه لا یعارض غیره. وأما القطع بالمتنافیین ففی نفسه أمر مستحیل لا یقع) وهذا الشرط غیر متحقق فی روایتی الکافی ودلائل الإمامة، لان روایة دلائل الإمامة قد ثبت ضعفها بعکس روایة الکافی، وبإثبات صحة روایة الکافی یتم طرح روایة دلائل الإمامة ورد علمها إلی قائلها (صلوات الله و سلامه علیه) من دون تکذیب.

ص: 285

أمصحف فاطمة من إملاء النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) أم جبرائیل؟

فاطمة: (وجدت فی کتاب بصائر الدرجات روایة تصرح بأن الذی کان یخبر السیدة الزهراء بالمصحف هو رسول الله ولیس جبرائیل، والروایة عن الإمام الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) هذا نصها: « وعندنا مصحف فاطمة أما والله ما فیه حرف من القرآن ولکنه إملاء رسول الله وخط علی»(1) فهل بین هذه الروایة وروایة الکافی المصرحة بأن المملی هو جبرائیل أی تعارض؟).

خالد: (وهل حققتِ فی رجال سندها؟).

فاطمة: (نعم ووجدت أن کلهم ثقات).

أسامة: (أنا قرأت الیوم هذه الروایة فی بحار الأنوار، وقرأت أیضا روایات أخری فیها تصریح بأن المملی للمصحف هو رسول الله ولیس جبرائیل، وقد وقعت فی الحیرة أیضا، ولکنی اطمأننت حینما قرأت تعلیق العلامة المجلسی علی أحد هذه الأحادیث بقوله: « والمراد برسول الله جبرئیل علیه السلام»(2)).

محمد: (ولماذا هذا التعقید، ألیس رسول الله هو نبینا الأکرم (صلی الله علیه و آله و سلم) فهل سمعتم أحداً یسمی جبرائیل برسول الله).


1- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص178.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج26 ص42.

ص: 286

خالد: (نعم سمعنا، والقرآن خیر شاهد علی ذلک، لان القرآن الکریم وصف الملائکة بالرسل فی أکثر من ستة مواضع کما فی قوله تعالی:«الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِکَةِ رُسُلاً»(1)، هذا علی العموم، وأما تسمیة جبرائیل بأنه رسول الله فقد وردت فی قصة مریم وتمثل جبرائیل لها بصورة بشر وخوفها منه إلی أن قال لها: «إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّکِ لأَهَبَ لَکِ غُلامًا زَکِیًّا»(2) فإطلاق لقب رسول الله علی جبرائیل هو إطلاق متعارف علیه شرعا، فیصح حینئذ أن نجمع بین روایة الکافی وبین روایة بصائر الدرجات بأن کلتا الروایتین تتحدّث عن شخص واحد بعینه، وهو جبرائیل (صلوات الله و سلامه علیه)، إلا أن روایة الکافی قد ذکرت جبرائیل بالاسم، أما روایة البصائر فقد ذکرت جبرائیل بالصفة وانه رسول الله.

وبعبارة ثانیة، فان روایة البصائر مجملة لان لفظ رسول الله مشترک بین النبی والملک، أما روایة الکافی فمبینة للفظ الرسول وان المراد منه هو جبرائیل خاصة).

من أدلة الإمام وجود مصحف فاطمة عنده

أسامة: (عندی سؤال یجول فی خاطری منذ البارحة، وهو أین یمکن أن أجد مصحف فاطمة الذی نتحدث عنه الآن؟ فلو أنی وجدته لتعلمت منه أشیاء کثیرة، فأستطیع أن أعرف ماذا سیکون فی المستقبل، ومن سیحکم، ومن سیثور، ومن سیقتل، ومن سیبقی، وأستطیع أن أقرأ منه معلومات وأصرح بها فی القنوات الفضائیة وفی الجرائد ومواقع الانترنت، وحینما تتحقق یعرف الناس صدقی


1- سورة فاطر الایة رقم 1.
2- سورة مریم الآیة رقم 19.

ص: 287

وأصبح رجلاً مشهوراً، بل وملیونیراً، لأنی سأعرف من المصحف أن أزمة فی المواد الغذائیة مثلا أو مواد البناء ستحصل نتیجة الحرب الفلانیة أو الفیضان الفلانی أو أی سبب کان، فأشتری وقت الرخص وأبیع حینما ترتفع الأسعار).

خالد: (الحمد لله أن مصحف فاطمة لیس بین یدیک ولا تستطیع الوصول إلیه، وإلا فستستعبد عباد الله وتستخدمه لأغراض دنیویة وفوائد شخصیة، ولعل هذا هو السبب من کون المصحف عند الإمام المعصوم لا یطلع علیه غیره، حفاظاً علیه أولا ولکی لا یستغل فی غیر ما أنزل لأجله ثانیاً).

فاطمة: (إن ما تقوله یا خالی العزیز من أن المصحف عند الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یتوارثونه صحیح، وقد وردت روایات عدیدة نصت جمیعها علی أن الإمام هو من یملک المصحف، فعن أبی بصیر قال: «...سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول ما مات أبو جعفر علیه السلام حتی قبض مصحف فاطمة»(1).

وعن الحسن بن علی بن فضال عن الإمام الرضا (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال: «للإمام علامات... ویکون عنده مصحف فاطمة علیها السلام»(2).


1- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص178.
2- والروایة الکاملة فی معانی الأخبار للشیخ الصدوق ص103 هکذا: (حدثنا محمد بن إبراهیم بن إسحاق الطالقانی رضی الله عنه قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سعید الکوفی، قال: حدثنا علی بن الحسن بن علی بن فضال، عن أبیه، عن أبی الحسن علی بن موسی الرضا علیهما السلام قال: للإمام علامات: أن یکون أعلم الناس وأحکم الناس، وأتقی الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخی الناس، وأعبد الناس، ویولد مختونا، ویکون مطهرا، ویری من خلفه کما یری من بین یدیه، ولا یکون له ظل، وإذا وقع علی الأرض من بطن أمه وقع علی راحتیه رافعا صوته بالشهادتین، ولا یحتلم، وتنام عینه ولا ینام قلبه، ویکون محدثا، ویستوی علیه درع رسول الله صلی الله علیه وآله، ولا یری له بول ولا غائط لان الله عز وجل قد وکل الأرض بابتلاع ما یخرج منه، ویکون رائحته أطیب من رائحة المسک، ویکون أولی الناس منهم بأنفسهم، وأشفق علیهم من آبائهم وأمهاتهم، ویکون أشد الناس تواضعا لله عز وجل، ویکون آخذ الناس بما یأمر به، وأکف الناس عما ینهی عنه، ویکون دعاؤه مستجابا حتی أنه لو دعا علی صخرة لانشقت بنصفین، ویکون عنده سلاح رسول الله صلی الله علیه وآله وسیفه ذو الفقار، ویکون عنده صحیفة فیها أسماء شیعته إلی یوم القیامة، وصحیفة فیها أسماء أعدائه إلی یوم القیامة ویکون عنده الجامعة وهی صحیفة طولها سبعون ذراعا فیها جمیع ما یحتاج إلیه ولد آدم ویکون عنده الجفر الأکبر والأصغر، وإهاب ماعز وإهاب کبش فیهما جمیع العلوم حتی أرش الخدش وحتی الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة ویکون عنده مصحف فاطمة علیها السلام).

ص: 288

وهذا الأمر إن دل علی شیء فإنه یدل علی عظمة هذا المصحف وعظمة محتواه).

قرنت السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بالأنبیاء الذین ورث الأئمة منهم العلم

خالد: (أحسنتِ یا فاطمة، وربما نستطیع أن نکتشف عظمة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وعظمة علمها الذی أورثته للائمة الأطهار (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) من اقتران اسمها الشریف بأسماء الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) الذین ورث منهم أهل البیت علومهم ومعارفهم الإلهیة، فقد ورد فی زیارة الإمام الحسین (صلوات الله و سلامه علیه) عبارة: «السلام علیک یا وارث آدم صفوة الله، السلام علیک یا وارث نوح نبی الله... السلام علیک یا وارث فاطمة بنت رسول الله...»(1).


1- مقطع الزیارة فی کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص376  هو کالتالی: (...السلام علیک یا وارث آدم صفوة الله، السلام علیک یا وارث نوح نبی الله، السلام علیک یا وارث إبراهیم خلیل الله، السلام علیک یا وارث موسی کلیم الله، السلام علیک یا وارث عیسی روح الله، السلام علیک یا وارث محمد حبیب الله. السلام علیک یا وارث علی وصی رسول الله، السلام علیک یا وارث الحسن الرضی، السلام علیک یا وارث فاطمة بنت رسول الله).

ص: 289

 وورد أیضا فی زیارة الإمام الرضا (صلوات الله و سلامه علیه) عبارة: «... السلام علیک یا وارث فاطمة الزهراء»(1)).

فاطمة: (قرأت أن الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) لدیهم من آثار السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أشیاء أخری غیر المصحف، کمغزلها وملاءتها، فهل هذه الأشیاء مشمولة بفقرة الزیارة؟).

محمد: (إن أمرکم یا أختی الفاضلة غریب، فما قیمة مغزل أو ملاءة وهی قطعة من قماش حتی تدخل فی مواریث الأئمة وتشمل فی عبارة «السلام علیک یا وارث فاطمة..»).

فاطمة: (قیمتها بآثارها التکوینیة، فقد ورد فی بعض الکتب أن ثمانین یهودیا أو أکثر أسلموا ببرکة ملاءة السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) (2)).


1- المقطع من الزیارة فی کامل الزیارات ص518 هکذا: (... السلام علیک یا وارث آدم صفوة الله، السلام علیک یا وارث نوح نبی الله، السلام علیک یا وارث إبراهیم خلیل الله، السلام علیک یا وارث موسی کلیم الله، السلام علیک یا وارث عیسی روح الله، السلام علیک یا وارث محمد حبیب الله. السلام علیک یا وارث أمیر المؤمنین علی ولی الله، السلام علیک یا وارث فاطمة سیدة نساء العالمین...).
2- روی قطب الدین الراوندی فی الخرائج والجرائح ج2 ص538 هذه الروایة بما هو نصه: (ومنها: ما روی أن علیاً علیه السلام استقرض شعیرا من یهودی، فاسترهنه شیئا فدفع إلیه ملاءة فاطمة رهنا وکانت من الصوف فأدخلها الیهودی إلی داره ووضعها فی بیت. فلما کانت اللیلة دخلت زوجته البیت الذی فیه الملاءة لشغل فرأت نورا ساطعا أضاء به البیت، فانصرفت إلی زوجها وأخبرته بأنها رأت فی ذلک البیت ضوءا عظیما، فتعجب زوجها الیهودی من ذلک  وقد نسی أن فی بیتهم  ملاءة فاطمة فنهض مسرعا ودخل البیت فإذا ضیاء الملاءة ینتشر شعاعها کأنه یشتعل من بدر منیر یلمع من قریب، فتعجب من ذلک، فأنعم النظر فی موضع الملاءة فعلم أن ذلک النور من ملاءة فاطمة، فخرج الیهودی یعدو إلی أقربائه، وزوجته تعدو إلی أقربائها واستحضرهم دارهما، فاستجمع نیف وثمانون نفرا من الیهود، فرأوا ذلک، وأسلموا کلهم).

ص: 290

خالد: (هذه القصة التی تتکلم عنها فاطمة ضعیفة السند لان الراوندی قد ذکره فی کتابه من دون إسناد، ومع ذلک فهی غیر مستبعدة، لان لملابس المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) سواء کانوا أئمة أو أنبیاء آثاراً تکوینیة، والقرآن والسنة یشهدان بهذه الحقیقة، فقصة قمیص یوسف وتأثیره فی رد بصر نبی الله یعقوب أشهر من أن نذکرها.

وقد ورد فی صحاح المخالفین أن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) کفن فاطمة بنت أسد والدة الإمام أمیر المؤمنین بقمیصه الذی کان یلبسه واضطجع فی قبرها وحینما سئل عن ذلک قال: «إنما ألبستها قمیصی لتکسی من حلل الجنة واضطجعت فی قبرها لیهون علیها عذاب القبر»(1).

کما وورد عندهم أن نساء النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) کن یغسلن جبة النبی الأعظم


1- قال ابن عبد البر فی الاستیعاب ج4 ص1891: (قال أبو عمر: روی سعدان بن الولید السابری، عن عطاء بن أبی رباح، عن ابن عباس، قال: لما ماتت فاطمة أم علی بن أبی طالب، ألبسها رسول الله صلی الله علیه وسلم قمیصه، واضطجع معها فی قبرها، فقالوا: ما رأیناک صنعت ما صنعت بهذه، فقال: إنه لم یکن أحد بعد أبی طالب أبرّ بی منها، إنما ألبستها قمیصی لتکسی من حلل الجنة، واضطجعت معها لیهوّن علیها).

ص: 291

 (صلی الله علیه و آله و سلم) لیستشفی بمائها المرضی(1)، والشواهد علی هذه الحقیقة کثیرة، وعلیه فلا یستبعد بل نجزم بوجود آثار عظیمة لمغزل السیدة الزهراء وملاءتها ولا نستبعد کونها مشمولة بفقرة «السلام علیک یا وارث فاطمة...»).

کانت السیدة الزهراء مرجعا للنساء فی حیاة النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)

فاطمة: (کنت أنا وأمی نحضر مجالس العزاء النسائیة فی بلدتنا، وفی أحد الأیام حضرت فی مجلس إحدی المرشدات فقالت: إن السیدة الزهراء کانت فی حیاة النبی حلقة وصل ما بین النبی الأعظم وما بین باقی المؤمنات، حیث کان یبلغها الأحکام الخاصة بالنساء وهی تخبر المؤمنات بذلک، وحینما انتهت المحاضرة خرجت هذه المرشدة سریعاً ولم أتمکن من سؤالها عن المصدر، إلا أنی بحثت عن الروایة کثیراً إلی أن وجدتها فی کتاب الکافی وبحثت عن سندها أیضا وهو صحیح یصح الاستشهاد به(2).


1- روی مسلم فی صحیحه ج6 ص140: (حدثنا یحیی بن یحیی أخبرنا خالد بن عبد الله عن عبد الملک عن عبد الله مولی أسماء بنت أبی بکر وکان خال ولد عطاء قال أرسلتنی أسماء إلی عبد الله ابن عمر... فرجعت إلی أسماء فخبرتها فقالت هذه جبة رسول الله صلی الله علیه وسلم فأخرجت إلی جبة طیالسة کسروانیة لها لبة دیباج وفرجیها مکفوفین بالدیباج فقالت هذه کانت عند عائشة حتی قبضت فلما قبضت قبضتها وکان النبی صلی الله علیه وسلم یلبسها فنحن نغسلها للمرضی یستشفی بها).
2- الکافی ج3 ص105: (عَلِیٌّ عَنْ أَبِیه عَنِ ابْنِ أَبِی عُمَیْرٍ عَنِ ابْنِ أُذَیْنَةَ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ قَضَاءِ الْحَائِضِ الصَّلَاةَ ثُمَّ تَقْضِی الصَّوْمَ قَالَ لَیْسَ عَلَیْهَا أَنْ تَقْضِیَ الصَّلَاةَ وعَلَیْهَا أَنْ تَقْضِیَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَیَّ وقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّه صلی الله علیه وآله وسلم کَانَ یَأْمُرُ بِذَلِکَ فَاطِمَةَ علیها السلام وکَانَتْ تَأْمُرُ بِذَلِکَ الْمُؤْمِنَاتِ).

ص: 292

وهذا الأمر إن دل علی أمر فإنه یدل علی أهمیة وجودها (صلوات الله و سلامه علیها) وأهمیة دورها فی تبلیغ الرسالة ونشر الأحکام الشرعیة، ویثبت بذلک عصمتها (صلوات الله و سلامه علیها) من الخطأ؛ لان مسألة التبلیغ للأحکام من المسائل الحساسة للغایة ولابد من أن تصل بصورة کاملة وأمینة ومن دون تغییر أو تلاعب أو سهو أو نسیان، فلابد والحال هذه أن تکون الواسطة التی اختارها النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) لإیصال الأحکام الشرعیة متصفة بکل هذه الصفات وهی: عدم الخطأ وعدم السهو والنسیان وان تکون مأمونة فی إیصال الحکم إلی متلقیه، ولیس هذا إلا العصمة).

خالد: (أحسنتِ علی النقل والاستنتاج، ویؤید قولکم هذا عدة أشیاء بعضها قد مر علینا، فقد ذکرنا سابقا أن السیدة الزهراء کانت من أهل الذکر الذین أمر القرآن الکریم بالرجوع إلیهم حین السؤال وطلب المعرفة، وهو یعنی أن لها إحاطة تامة بکل أحکام الدین وشریعته أصولاً وفروعاً.

وقد مر علینا أیضا ان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) أمر بالتمسک بها إذا افتقد الإمام أمیر المؤمنین(1)، وکذلک هی من الثقلین اللذین أمرنا الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) بالتمسک بهما، والتمسک فی کلا الحدیثین یستلزم الإحاطة التامة من قبل السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بکل جزء من أجزاء الشریعة المقدسة، ویستلزم


1- معانی الأخبار للشیخ الصدوق ص115 وما بعدها: (...صلی رسول الله صلی الله علیه وآله صلاة الفجر، فلما انفتل من صلاته أقبل علینا بوجهه الکریم علی الله عز وجل ثم قال: معاشر الناس من افتقد الشمس فلیستمسک بالقمر، ومن افتقد القمر فلیستمسک بالزهرة، فمن افتقد الزهرة فلیستمسک بالفرقدین. ثم قال رسول الله صلی الله علیه وآله: أنا الشمس، وعلی القمر، وفاطمة الزهرة، والحسن والحسین الفرقدان. وکتاب الله لا یفترقان حتی یردا علی الحوض).

ص: 293

أیضا العصمة کی یکون المتمسک به مأمونا من الخطأ والسهو والنسیان، بل ومأموناً من تسلط الشیطان علیه بأی شکل من أشکال التسلط).

أسامة: (الیوم قد کتبت حدیثا حینما کنت أبحث فی المکتبة، ولکن حینما بحثت عن رجال سنده وجدت بأنه ضعیف، ولکن محتواه ومضمونه متوافق مع ما کتبتموه، فالحدیث ینص علی أنّ علیّاً وفاطمة (صلوات الله و سلامه علیهما) بحران من العلم عمیقان(1)، فهل یمکن الأخذ بمثل هذا الحدیث؟).

خالد: (إن تقییم الروایة وحجیتها یعتمد علی عدة أشیاء، منها صحة سندها وعدم صحته، ومنها وجود شواهد صحیحة لصدق الخبر أو کذبه، ومنها موافقته للأخبار الصحیحة أو عدم موافقته، وغیر ذلک، وهذا الخبر الذی ذکره أسامة یمکن أن یقال عنه بأن القرائن تشهد علی صدق صدوره عن المعصوم (صلوات الله و سلامه علیه)، وکل حدیث شهدت القرائن بصدق صدوره عن المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یصح الأخذ به ویکون حجة «لقیام سیرة القدماء المتصلة بعصر المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) علی حجیة الأخبار الضعیفة السند إذا احتفت بقرائن الصدور»(2)).


1- الخصال للشیخ الصدوق ص65: (حدثنا أبی رضی الله عنه قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن القاسم بن محمد الأصبهانی، عن سلیمان بن داود المنقری قال: حدثنا یحیی بن سعید القطان قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول فی قوله عز وجل: «مرج البحرین یلتقیان بینهما برزخ لا یبغیان» قال: علی وفاطمة علیهما السلام بحران من العلم، عمیقان، لا یبغی أحدهما علی صاحبه. «یخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» الحسن والحسین علیهما السلام).
2- العبارة بین قوسین مأخوذة من کتاب قواعد الحدیث لمحی الدین الموسوی الغریفی ص119، ولأهمیة المطلب المذکور هنا ننقله بالنص للفائدة والاطلاع فقد قال فی تلک الصفحة وما بعدها: (وعلیه فلا إشکال فی حجیة الحدیث المطمأن بصدوره عن المعصوم علیه السلام من أجل شهرة العمل به، أو غیرها مما أورث الاطمئنان. ولذا استدل الشیخ المامقانی علی کفایة الشهرة الحاصلة بعد زمن الشیخ الطوسی: بأن العبرة بالوثوق، والاطمئنان الحاصل منها، کما سبق. وعلی فرض النقاش فی حجیة الاطمئنان کما فعله البعض، فلا مناص من الالتزام بحجیته هنا، لقیام سیرة القدماء المتصلة بعصر المعصومین علیهم السلام علی حجیة الأخبار الضعیفة السند إذا احتفت بقرائن الصدور. وقد عملوا بها لذلک، ومن المستبعد جداً أن تکون تلک القرائن مفیدة للقطع بصدور جمیع تلک الأخبار المحفوفة بها، وإنما أفادت الاطمئنان بصدورها. ولذا حکم الکلینی، والصدوق بصحة جمیع الأخبار المثبتة فی کتابیهما. فالاطمئنان حجة فی محل البحث. ولیس من المجازفة دعوی الاطمئنان فی عصرنا الحاضر بصدور الحدیث الذی تسالم جمیع الفقهاء علی العمل به، والاستناد إلیه، وإن کان ضعیف السند، کالنبوی الشریف «علی الید ما أخذت حتی تؤدی» حیث استند إلیه الفقهاء فی کثیر من الفتاوی، وأثبتوه فی عدة مباحث من الفقه، وبسطوا القول فیه عند البحث عن ضمان الید. فبناء علی أن الوثوق هو الاطمئنان، وانه حجة مطلقاً، أو فی محل البحث خاصة یثبت حجیة الخبر الذی حصل الوثوق بصدوره عن المعصوم علیه السلام من تلک الشهرة، أو غیرها).

ص: 294

محمد: (وما هی القرائن التی احتفت بهذا الخبر وشهدت بصحة صدوره عن المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)؟).

خالد: (القرینة هنا هی موافقته للأخبار المجمع علی صحتها أو تواترها، کحدیث الثقلین وحدیث کونها من أهل الذکر الذین أمرنا بالرجوع إلیهم وغیر ذلک مما ذکرناه سابقا، فلو لم تکن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بحراً من العلم لما أمرنا بالتمسک بها والرجوع إلیها فی کل صغیرة وکبیرة من أمور دیننا ودنیانا، لان

ص: 295

احتیاجات الناس المعرفیة فی أصول الدین وفروعه غیر متناهیة ولا تتوقف عند حد وهی متجددة بتجدد الزمان وتطاول الأیام ومثل هذا الأمر یحتاج إلی علم لا حد له وبحر لیس له قعر).

محمد: (وما فائدة هذا العلم إذا لم یکن بین أیدینا شیءٌ منه)؟.

خالد: (عدم وجوده بین أیدینا لا یقلل من قیمته وأهمیته، لأن علمها موجود ومحفوظ عند الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یتوارثونه واحدا بعد واحد، وإذا استفاد منه الأئمة خلال حیاتهم فإننا نکون قد استفدنا منه بالتبع، وهذه فائدة عظیمة حتی وان کانت غیر مباشرة),

فاطمة: (الخلل لیس فی علمها (صلوات الله و سلامه علیها) حتی تقول انه لا فائدة منه ما دام انه غیر موجود بین أیدینا، بل الخلل والذنب والتقصیر یجب أن تلقیه علی من منع الناس من الاستفادة من هذا البحر من العلم، وحال دون وصوله للناس، وسفک دمها الطاهر وحرم الأمة من هذا الینبوع الصافی، وألجأهم إلی اعتماد الإسرائیلیات والأخبار المکذوبة عن أبی هریرة وغیره من الخوارج والنواصب التی ملأت أخبارهم وروایاتهم کتب الحدیث والروایة، فالجریمة کل الجریمة هی أن تستبدل الأمة علم السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) الذی هو عین علم أبیها (صلی الله علیه و آله و سلم) بعلم تفوح منه رائحة الشیطان ودسائس أتباعه، فهم فی ذلک کبنی إسرائیل حینما استبدلوا المن والسلوی بثوم مصر وبصلها فخاطبهم القرآن الکریم بقوله: «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِی هُوَ أَدْنَی بِالَّذِی هُوَ خَیْرٌ... وَضُرِبَتْ عَلَیْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْکَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ کَانُوا یَکْفُرُونَ بِآَیَاتِ اللَّهِ وَیَقْتُلُونَ النَّبِیِّینَ بِغَیْرِ

ص: 296

الْحَقِّ ذَلِکَ بِمَا عَصَوْا وَکَانُوا یَعْتَدُونَ»(1)).

سکت الجمیع برهة من الزمن، فکتب خالد: (سنکتفی الیوم؛ لان الوقت قد تأخر ونترک الکلام لیوم غد فإن کان عندکم إضافة أضفناها وإن لم یکن عندکم شیء فأنا اقترح أن نتکلم عن مسألة حضورها وبقیة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عند المیت ساعة الاحتضار، فهل انتم موافقون؟).

فأجاب الجمیع بالموافقة، فکتب خالد: (ولا تنسوا أن علیکم غدا الذهاب إلی المکتبة والبحث کی یتوزع الجهد وتکبر ثمرة البحث باختلاف الرؤی والأفکار).

ودع المجتمعون بعضهم بعضا علی أمل اللقاء لیلة غد إن شاء الله.

قضی أسامة ومحمد نهارهما بلعب کرة القدم والتسکع مع الأصحاب والضحک، وفی خلال ذلک کان أسامة یخبر أصدقاءه عما کان یدور فی جلسات الحوار التی یشارک بها مع محمد، حتی صار کثیر منهم یتوق للمشارکة معهم فی الجلسات، ولکن أسامة رفض هذه الفکرة لعلمه بأن خالداً لا یرغب فی توسیع أطراف الحوار، ولان الباقین لم یحضروا جلسات البحث منذ البدایة وهذا یعنی انه قد غاب عنهم کثیر من الأمور والقواعد التی صارت مسلمة عند المتحاورین الأربعة، وحضور عدد إضافی معناه إعادة الکلام فی تلک المواضیع مرة أخری وهذا یؤخر الحاضرین ویشتت الحوار، ولکنه وعدهم بأن یشرح لهم کل ما یدور فی جلسات الحوار وإذا کان أی واحد منهم سؤال فانه یجیب علیه وإذا لم یکن


1- سورة البقرة الآیة رقم 61.

ص: 297

عنده جواب فانه یسأل خالداً ومن ثم یرجع لهم جوابه.

رجع خالد ومحمد إلی بیتیهما وقد تواعدا أن یذهبا إلی المکتبة عصرا لیبحثا عما أوصاهما به خالد.

حل المساء، واجتمع الجمیع، وبعد السؤال عن الحول والأحوال کتب خالد: (هل لدی أحد منکم سؤال قبل أن ننهی البحث عن موضوع مصحف فاطمة وعلمها (صلوات الله و سلامه علیها)؟).

هل کانت عائشة أعلم من السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)؟

فکتبت فاطمة: (کما تعرفون أن لکل رسالة تخرج یوجد أستاذ یشرف علیها، وظیفته مساعدة الطالب أو انتقاد المادة المقدمة من قبله، والیوم وحینما کنت أشرح للأستاذة المشرفة علی رسالتی عن علم السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وما توصلت إلیه من نتائج قاطعنی أستاذ کان واقفا بقربها وهو من المخالفین وقال: «إن التاریخ یخالف ما توصلتِ الیه، فقد اشتهر أن عائشة بنت أبی بکر کانت أفقه النساء وأعلمهن بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقد کان الأکابر من الصحابة یأتونها ویسألونها عن الفقه والعلم(1)، وقد کان من خصائصها أنها أعلم نساء النبی


1- روی الدارمی فی سننه ج2 ص343: (حدثنا عبد الله بن سعید ثنا عقبة بن خالد عن الأعمش عن مسلم قال سألنا مسروقا کانت عائشة تحسن الفرائض قال والذی لا إله غیره لقد رأیت الأکابر من أصحاب محمد یسألونها عن الفرائض). وروی أبو بکر بن الخلال فی کتابه السنة ج2 ص475 الحدیث رقم 750: (أخبرنا أبو بکر المروذی قال سمعت أبا عبد الله... وکان الأکابر من أصحاب محمد علیه السلام یسألونها یعنی عن الفقه والعلم مثل أبی موسی الأشعری وغیره).

ص: 298

 (صلی الله علیه و آله و سلم)(1)، بل هی أعلم النساء علی الإطلاق(2)».

فلما أکمل هذا الأستاذ کلامه قالت لی الأستاذة المشرفة: «یجب أن تأخذی کلام الأستاذ علی محمل الجد، فإما أن تؤیدیه أو تناقشیه، واعرضی علیَّ النتیجة بعد غد».

 فودعتها وانصرفت، وقد حاولت طوال النهار أن أجد جواباً لکنی لم أفلح، لأن رأسی یؤلمنی بسبب الأسلوب الهجومی والصوت العالی الذی کان یصدر من ذلک الأستاذ، وکأنه کان یتقصد إسماع الآخرین ولفت أنظار من حوله من الطلاب والأساتذة).

خالد: (لا علیکِ منه، فکلامه لیس له اعتبار علمی، والواقع یکذبه، والتاریخ الذی یستشهد به هو تاریخ مزور، تم صیاغته علی وفق رؤی الحکام ومشتهیاتهم، وبما أن الحکام کانوا بأجمعهم مناوئین ومعادین لأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فمن الطبیعی أن ینزلوا قدر الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، لأنها زوجة ووالدة أقوی المنافسین والمعارض لتلک الحکومات التی کتبت لنا أحداث التاریخ وتفاصیله.

ومن الطبیعی أیضا أن یرفعوا قدر عائشة علیها لأنها ابنة أول من اختطف حق أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وولایتهم، وسن هذا لمن هو بعده، فلا عجب بعد


1- روی المخالفون لإثبات هذه الفضیلة الکاذبة حدیثا مرسلا، فقد أخرج الطبرانی فی المعجم الکبیر ج23 ص184: (... عن الزهری أن النبی صلی الله علیه وسلم قال لو جمع علی نساء هذه الأمة فیهن أزواج النبی صلی الله علیه وسلم کان علم عائشة أکثر من علمهن).
2- هذا هو مفاد قول الذهبی فی کتابه سیر أعلام النبلاء ج2 ص140 أما نص کلامه فهو کالتالی: (ولا أعلم فی أمة محمد صلی الله علیه وسلم، بل ولا فی النساء مطلقا، امرأة أعلم منها).

ص: 299

هذا أن یتکلم هذا الأستاذ بهذا الکلام، لأنه أحد ضحایا هذا التاریخ الظالم لأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، والغاصب لمنازلهم ومراتبهم التی رتبهم الله فیها).

فاطمة: (وهل عندک جواب علی کلامه یا خالی؟).

خالد: (نعم عندی جواب، فالتاریخ الذی یتحدث عنه هذا الأستاذ مثلما ألّه عائشة، وصنع لها صورة أسطوریة، هو نفسه التاریخ الذی کذب وحطم هذه الصورة الأسطوریة، وهو الذی نقل لنا کثیراً من أحوال وأخبار عائشة التی تؤکد عدم علمیتها لأبسط أحکام الدین وعقائده، وهو الذی نقل لنا اعترافاتها وبلسانها وهی تصور نفسها بأنها امرأة لا تمتلک ذلک البعد المعرفی والعلمی، وبحسب عبارتها امرأة «سفیهة»).

محمد: (لا أظنک یا صدیقی إلا متحاملا علی عائشة، لأن کلامک کله من غیر أدلة، ثم کیف یعقل أن تصف عائشة نفسها بأنها سفیهة، إن کلامک عجیب وغریب!).

خالد: (أنا أعطیک الحق أیضاً یا محمد، فأنت ضحیة أخری من ضحایا التاریخ، لأن مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا والی الیوم تبث فی عقول الأطفال والکبار مفردات وأخبار هذا التاریخ المزور الکاذب، وتفهمهم بأنه هو التاریخ الحقیقی الذی لا یقبل النقاش، وان کل من یناقشه أو یحاول استیضاحه فإنه کافر خارج عن ربقة الإسلام.

والآن أعود إلی إثبات جهل عائشة بأبسط أحکام وعقائد الإسلام، فضلاً عن التی أکبر من ذلک وأشد تعقیداً، فقد اعترف ابن تیمیة فی أحد کتبه بأن

ص: 300

عائشة لم تکن تعلم بأن الله سبحانه له قدرة الاطلاع علی ما یکتمه الإنسان فی نفسه ویخفیه فی قلبه(1)، مع أن ذلک من بدیهیات عقائد الإسلام ومبادئه، وقد تحدث القرآن فی کثیر من آیاته عن علم الله سبحانه بالضمائر وما تسره الأنفس وتخفیه القلوب، فأین کانت عائشة عن کل هذه الآیات یا تری؟!.

وکانت عائشة أیضا لا تعلم أن الموتی یعذبون فی قبورهم، حتی علمت ذلک من الیهودیتین(2).

وکذلک لم تکن عائشة تعرف کیف تغسل دم الحیض الذی یقع علی ملابسها، لأنها کانت تبلله بریقها وتفرکه(3).

ولا یخفی علیکم ما فی هذا الأمر من المحذورات، وواحدة من هذه المحذورات هی أن ریقها غیر مطهر، ولا یرفع النجاسة، فإذا صلت فی ذلک الثوب لا تقبل صلاتها، فکم صلاة یا تری صلتها عائشة بهذه الملابس النجسة؟!


1- قال ابن تیمیة فی مجموع الفتاوی ج3 ص16: (فَهَذِهِ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِینَ: سَأَلَتْ النَّبِیَّ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ یَعْلَمُ اللَّهُ کُلَّ مَا یَکْتُمُ النَّاسُ ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِیُّ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ» وَهَذَا یَدُلُّ عَلَی أَنَّهَا لَمْ تَکُنْ تَعْلَمُ ذَلِکَ).
2- روی مسلم فی صحیحه ج2 ص92: (عن عائشة قالت دخلت علی عجوزان من عجز یهود المدینة فقالتا إن أهل القبور یعذبون فی قبورهم قالت فکذبتهما ولم أنعم أن أصدقهما فخرجتا ودخل علی رسول الله صلی الله علیه وسلم فقلت له: یا رسول الله إن عجوزین من عجز یهود المدینة دخلتا علی فزعمتا ان أهل القبور یعذبون فی قبورهم فقال صدقتا انهم یعذبون عذابا تسمعه البهائم قالت فما رأیته بعد فی صلاة إلا یتعوذ من عذاب القبر).
3- روی البخاری فی صحیحه ج1 ص80: (عن مجاهد قالت عائشة ما کان لإحدانا إلا ثوب واحد تحیض فیه فإذا أصابه شیء من دم قالت بریقها فقصعته بظفرها).

ص: 301

والعجیب انه لماذا لم تکن تسأل النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) عن الکیفیة الصحیحة لغسل هذا الثوب النجس؟! وهو یدخل علیها ویخرج کل ساعة أو أکثر کما یزعمون، هذه أسئلة تحتاج إلی جواب من الذین یدافعون عن عائشة ویقولون بعلمیتها.

وکذلک لم تکن عائشة تعرف حکم المسح علی الخفین فی الوضوء فکانت تأمر من یسألها عن ذلک بأن یسأل غیرها من الصحابة(1)، فهل بعد کل هذا شک فی أن عائشة لم تکن أعلم النساء وأفقههن؟!

وأما مسألة اعتراف عائشة بأن فیها سفها وقلة معرفة وحرصاً علی اللعب واللهو فی حیاة النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) فأشهر من أن یستدل علیه، ویمکنکم مراجعة مسند أحمد بن حنبل وسترون اعترافها بالسفاهة(2)، ویمکنکم مراجعة کنز العمال لترون بأنها کانت لا تحسن ولا تعرف أن تغسل وجه صبی من الصبیان(3)،


1- قال ابن عبد البر فی الاستذکار ج1 ص220: (قال أبو عمر احتج بعض من لم یر المسح فی الحضر من أصحابنا بحدیث شریح بن هانئ «أنه سأل عائشة أم المؤمنین عن المسح علی الخفین فقالت له سل علیا فإنه کان یغزو مع رسول الله صلی الله علیه وسلم» ولیس فی الحدیث أکثر من جهل عائشة المسح علی الخفین ولیس من جهل شیئا کمن علمه).
2- روی فی مسند أحمد بن حنبل ج6 ص274: (حدثنا عبد الله حدثنی أبی ثنا یعقوب قال ثنا أبی عن إسحاق قال حدثنی یحیی بن عباد بن عبد الله بن الزبیر عن أبیه عباد قال سمعت عائشة تقول مات رسول الله صلی الله علیه وسلم بین سحری ونحری وفی دولتی لم أظلم فیه أحدا فمن سفهی وحداثة سنی أن رسول الله صلی الله علیه وسلم قبض وهو فی حجری ثم وضعت رأسه علی وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهی).
3- کنز العمال للمتقی الهندی ج13 ص272: (عن عائشة قالت: أمرنی رسول الله صلی الله علیه وسلم أن أغسل وجه أسامة بن زید یوما وهو صبی وما ولدت ولا أعرف کیف یغسل الصبیان! فأخذته فغسلته غسلا لیس بذاک، فأخذه فجعل یغسل وجهه ویقول: لقد أحسن بنا إذ لم یکن جاریة، ولو کنت جاریة لحلیتک وأعطیتک).

ص: 302

وأما حرصها علی اللعب واللهو واتخاذها الدمی لتلعب بهن فمذکور فی مصادر عدیدة(1)، وقد اعترفت أیضا بأنها لم تکن فی شبابها تقرأ کثیرا من القرآن(2)، وقد وصفتها إحدی النساء اللاتی عشن معها زمناً طویلاً بوصف ینم عن الإهمال وقلة المبالاة والاکتراث لما یدور حولها حتی صیرتها تنام عن عجین أهلها فتأتی الداجن فتأکله(3).

فامرأة بهذا الوصف وبهذا الشأن والمنزلة کیف أصبحت فی لیلة وضحاها


1- روی البخاری فی صحیحه ج7 ص102: (... عن عائشة قالت کنت ألعب بالبنات عند النبی صلی الله علیه وسلم وکان لی صواحب یلعبن معی فکان رسول الله صلی الله علیه وسلم إذا دخل یتقمعن منه فیسر بهن إلی فیلعبن معی). وروی أبو داود فی سننه ج2 ص463: (عن عائشة قالت: قدم رسول الله صلی الله علیه وسلم من غزوة تبوک، أو خیبر، وفی سهوتها ستر، فهبت ریح فکشفت ناحیة الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا یا عائشة؟ قالت: بناتی، ورأی بینهن فرسا له جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذی أری وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الذی علیه؟ قالت: جناحان، قال: فرس له جناحان؟! قالت: أما سمعت أن لسلیمان خیلا لها أجنحة؟ قالت: فضحک حتی رأیت نواجذه).
2- صحیح البخاری ج3 ص157: (...وانا جاریة حدیثة السن لا اقرأ کثیرا من القرآن... ولأنا أحقر فی نفسی من أن یتکلم بالقرآن فی أمری...).
3- المصدر السابق ص147: (...وقالت بریرة إن رأیت علیها امرا أغمصه أکثر من أنها جاریة حدیثة السن تنام عن عجین أهلها فتأتی الداجن فتأکله...).

ص: 303

أفضل نساء النبی علماً وأفضل النساء فقهاً علی الإطلاق؟! إن هذا لشیء عجیب)؟!

سکت الجمیع وتوقفوا عن الکتابة فعلم خالد أن الموضوع قد استوفی وأخذ استحقاقه فکتب: (إذا لم یکن عندکم سؤال إضافی انتقلنا إلی الموضوع الذی اتفقنا علیه البارحة، فهل تذکرونه؟ وهل ذهبتم إلی المکتبة لجمع ما تستطیعون جمعه؟).

فاطمة: (الموضوع الذی اتفقنا علیه هو حضور السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وبقیة المعصومین عند المیت ساعة الاحتضار، وقد ذهبت إلی المکتبة وبحثت، وحینما رجعت إلی البیت بحثت أیضا علی الانترنت وفی مکتبة أهل البیت والشاملة).

خالد: (مجهود مبارک یا فاطمة. وأنت یا أسامة ویا محمد ماذا فعلتما؟).

أسامة: (ذهبنا الیوم عصراً وقد جمعنا قدراً لا بأس به من المعلومات، ولکن محمداً (قد أکل رأسی) وسبب لی الصداع من کثرة أسئلته وإشکالاته، فما إن نمر بروایة أو قول حتی یعترض، وقد مللت، فلم یسکت عنی حتی هددته بأن أخرج من المکتبة وأترکه وحده، وتوعدته بأن لا آتی معه بعد الیوم، فترکنی حینها وإلا ما کان لیسکت لولا تهدیدی ووعیدی إیاه).

محمد: (ماذا أفعل فالأفکار برأسی کثیرة، وکلها بحاجة إلی جواب).

خالد: (لا بأس بأن تکون عندک أسئلة کثیرة، ولکن یجب أن تتعلم شیئاً مهماً، وهو أن المکتبة مکان للقراءة وجمع الأقوال وتسجیل الإشکالات والأسئلة والملاحظات فقط، وهنا وفی أثناء حوارنا یمکنک البحث والسؤال عن حل

ص: 304

لأسئلتک وإشکالاتک، فلا تضیع وقتک ووقت زمیلک أسامة بمحاولة إیجاد الأجوبة، واستغل وقتک بالبحث والمطالعة، وإذا کان عندک أسئلة فانتظر اللیل واسألنا ولسوف لن نبخل علیک بالجواب، وسنتحمل جمیع إشکالاتک کعادتنا).

محمد: (حسنا سأفعل ذلک فی الأیام القادمة إن شاء الله).

خالد: (والآن أخبرونا ماذا وجدتم أثناء فی بحثکم؟، ولتکن فاطمة أول من یتکلم، فتفضلی یا فاطمة).

تواتر أحادیث حضور المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) حال الاحتضار

فاطمة: (الشیء المهم الذی وجدته هو اعتراف جملة من علماء المذهب الکبار بشهرة واستفاضة روایات حضور السیدة الزهراء وباقی الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عند المیت حال الاحتضار، منهم العلامة المجلسی فی کتابه البحار(1).

وقد تعدی بعض الأعلام من الحکم بالاستفاضة والشهرة إلی الحکم بتواتر هذه الأخبار، منهم الشیخ المفید فی کتابه أوائل المقالات(2).


1- قال العلامة المجلسی فی بحار الأنوار ج6 ص200 __ 201: (اعلم أن حضور النبی صلی الله علیه وآله والأئمة صلوات الله علیهم عند الموت مما قد ورد به الأخبار المستفیضة، وقد اشتهر بین الشیعة غایة الاشتهار، وإنکار مثل ذلک لمحض استبعاد الأوهام لیس من طریقة الأخبار، وأما نحو حضورهم وکیفیته فلا یلزم الفحص عنه، بل یکفی فیه وفی أمثاله الإیمان به مجملا علی ما صدر عنهم علیهم السلام).
2- قال الشیخ المفید أعلی الله مقامه فی أوائل المقالات ص73: (القول فی رؤیة المحتضرین رسول الله صلی الله علیه وآله وأمیر المؤمنین علیه السلام عند الوفاة هذا باب قد أجمع علیه أهل الإمامة، وتواتر الخبر به عن الصادقین من الأئمة علیهم السلام).

ص: 305

وقد صرح الحسن بن سلیمان الحلی بإجماع علماء الإمامیة علی روایة هذه الأحادیث وعدم شکهم ولا ارتیابهم برؤیة المحتضر لهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) (1).

وقد رد أبو الهدی الکلباسی فی سماء المقال علی من رد أحادیث رؤیة المحتضر للأئمة الأطهار بحجة انها أخبار آحاد بأن لا یعول علیه ولا یصغی إلیه لبلوغ تلک الأحادیث حد التواتر المعنوی(2).

وبهذه الشهادات نقطع بصدور هذه الأحادیث عن أئمة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)).

الرد علی من حاول تضعیف أحادیث حضور المعصومین عند المحتضر

خالد: (أحسنتِ یا فاطمة، فإن بهذه المعلومة تثبت هذه الفضیلة العظیمة للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، ویندفع قول من حاول تضعیف هذه الروایات، بحجة أنّ کثیراً منها ورد عن الراوی سهل بن زیاد الضعیف.

لأن الخبر إذا تواتر أو استفاض أو اشتهر وحصل الاطمئنان بصدوره عن المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فإنه لا یهم حینئذ أن یکون أحد رواته مقدوحا فیه أو


1- قال الحسن بن سلیمان الحلی فی کتابه المحتضر ص53: (وکیف یقع الشکّ فی مثل هذه الأحادیث المجمع علیها التی یروونها عن الأئمّة «صلوات الله علیهم» جماعة علماء الإمامیّة؟ لا یشکّون ولا یرتابون فی رؤیة المحتضر لهم «علیهم السلام» حقیقة ولا یجوز حملها علی المجاز وإلاّ لجاز حمل کثیر من الأمور الشرعیّة المنقولة علی هوی الأنفس والتجوّز وفیه التشریع).
2- قال ابو الهدی الکلباسی فی کتابه سماء المقال فی علم الرجال: (وما یجاب عنه: بأن ما دل علی أنه یری نبینا وأئمتنا صلوات الله علیهم أجمعین، من باب أخبار الآحاد، فلا یعول علیه، لا ینبغی أن یصغی إلیه، لظهور بلوغه حد التواتر المعنوی الذی ینبغی القطع بالصدور).

ص: 306

ضعیفا، لان العبرة کما قلنا سابقا هو فی الاطمئنان بصحة صدوره عن المعصوم ولیس العبرة بصحة إسناده وعدمها.

فکم من حدیث ضعیف عمل به علماء الطائفة لأنهم اطمأنوا لصحة صدوره عن المعصوم فجبر عملهم بهذا الحدیث ضعف سنده(1)، وکم من حدیث صحیح السند أعرض عنه علماء الطائفة، فکان إعراضهم موجبا لترکه علی رغم صحة سنده(2)).

محمد: (هذا أول إشکال قد أجیب علیه من دون أن أسأل، لأنی قد نظرت إلی بعض أسانید الأحادیث التی تکلمت عن حضور السیدة الزهراء وبقیة المعصومین عند المیت حین احتضاره فوجدت بعض الأسانید ضعیفة، وقد سألت أسامة عنها فغضب منی وقام من قربی وجلس فی مکان آخر).


1- یقول السید الکلبیکانی فی کتابه الدر المنضود فی أحکام الحدود ج1 ص331: (...لکن لا یخفی أن الروایات المذکورة لیست معمولا بها بل قد أعرض عنها المشهور، والروایة إذا کانت کذلک تسقط عن حد الاعتبار، وإن کان هناک أیضا بحث مبنائی فذهب بعض إلی أنه لا وجه لرفع الید عن الروایة المعتبرة بسبب إعراض المشهور عنها، لکن المبنی المعروف المحقق عند کثیر وعندنا هو سقوطها بذلک عن الاعتبار، وقد اشتهر أنه کلما ازدادت صحة ازدادت وهناً بإعراض المشهور، وکلما ازدادت ضعفاً ازدادت قوة بعملهم).
2- قال الشیخ محمد تقی الآملی فی کتابه مصباح الهدایة فی شرح العروة الوثقی ج6 ص106: (والخبر المسند بالسند الصحیح یسقط عن الحجیة بالإعراض بل کلما کان أصح من حیث السند یصیر بالإعراض عنه أهون). وقال الشیخ علی پناه الإشتهاری فی مدارک العروة الوثقی ج5 ص205: (أنّ الخبر کلَّما ازداد صحّة ازداد ضعفا إذا أعرض عنه الأصحاب).

ص: 307

الدلیل الحادی والعشرون: وجه الاستدلال بهذه الأحادیث علی أفضلیة السیدة الزهراء علیها السلام

اشارة

خالد: (من منکم یستطیع أن یخبرنا عن کیفیة الاستفادة من هذا الحدیث لتفضیل السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) علی الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ومن هو دون منزلتهم؟).

أسامة: (الأمر بسیط، لأننا قد تعلمنا الطریقة من الأبحاث السابقة، فأفضلیتها (صلوات الله و سلامه علیها) تکمن فی انفرادها وعدم مشارکة أحد من الأنبیاء ولا غیرهم فی هذه المرتبة، والانفراد فی هذا الشرف دلیل علی الأفضلیة وعلو الرتبة والأشرفیة، ألیس استدلالی هذا صحیحا؟).

خالد: (نعم صحیح).

محمد: (لکن بقیة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یشارکونها فی هذا أیضا، وهذا یعنی أنها لا تنفرد بهذا الأمر).

فاطمة: (إن اشتراک بقیة المعصومین للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لا یضرها

ص: 308

شیئاً، لان الأئمة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) کما أثبتنا سابقا أفضل من الأنبیاء، فیکون المؤدی واحداً، وهو أنها (صلوات الله و سلامه علیها) من ضمن مجموعة من الأشخاص هم أفضل من بقیة البشر، فتکون النتیجة انها أفضل من بقیة البشر، وهو المطلوب).

خالد: (وأحب أن أضیف أمراً آخر، وهو أن أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) کلهم نور واحد وطینة واحدة فما یثبت لأحدهم یثبت للجمیع من باب أولی، وما یثبت للجمیع یثبت للواحد منهم أیضا، واشتراکهم فی فضیلة معینة لا یضر، لأن کلهم واحد وواحدهم هو الکل).

محمد: (لم أفهم، کیف یصیر الکل واحدا والواحد هو الکل؟).

خالد: (لأقرب لک المطلب بمثال محسوس، فکلنا قد رأی الغیمة، وکلنا قد رأی قطرات المطر النازلة منها، فالغیمة فی الواقع لیست هی الا مجموعة من قطرات المطر، وقطرات المطر لیست الا تلکم الغیمة.

وبعبارة أخری فالغیمة هی عبارة عن قطرات من المطر مجتمعة مع بعضها، وقطرات المطر عبارة عن غیمة تفرقت إلی أجزاء مختلفة.

ولو حللنا کل قطرة لوجدناها متشابهة مع بقیة القطرات الأخری وتحمل کل خواصها وصفاتها، وما یثبت لإحدی تلکم القطرات من الصفات والخواص یثبت أیضا لبقیة القطرات الأخری، والعکس صحیح أیضا، فما یثبت للجمیع یثبت أیضا للقطرة الواحدة، فهل صار الأمر واضحا عندک أو أزید فی توضیحه؟).

محمد: (نعم، صار واضحاً).

ص: 309

إمکان رؤیة الأحیاء للأموات، والمحتضر أولی بذلک

محمد: (أرید أن أسأل سؤالاً آخر، وأنا وإن کنت أعرف ردة فعلکم إلا أنی سأسأل، لأنی سأموت إذا لم أعرف، وسؤالی هو: ان عقلی لا یتقبل حضور الأئمة والنبی والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) لأنی رأیت عدة من المحتضرین کجدی وجارنا أبا حسین فلم أرَ أو أحس بأنه قد حضر عندهما أحد).

فکتب خالد: (إن عدم إحساسک بما یراه المحتضر ناشئ عن وجود حجاب الدنیا علی عینیک وانکشاف هذا الحجاب عن عینی الإنسان المحتضر، فالإنسان ما دام فی الحیاة الدنیا فإنه محجوب عنه رؤیة الملائکة وباقی الموجودات المرتبطة بعالم الآخرة، ولکنه فی ساعة الاحتضار یبدأ بمشاهدة ما لم یکن یراه، فیری الملائکة الذین کانوا یکتبون أعماله، ویری ملک الموت وأعوانه، ویری أعماله السیئة أو الحسنة ماثلة أمامه، وقد ورد فی القرآن الکریم التصریح بوجود غطاء علی أعین الأحیاء یمنعهم من رؤیة العالم الآخر وموجوداته، فإذا جاءت سکرة الموت کشف عن الإنسان هذا الغطاء وصار بصره حدیداً(1).

وینبغی أن تعلم أنّ رؤیة المیت وعدم رؤیته لا دخل لها بحکم العقل حتی تقول إن عقلی لا یتقبل حضور الأئمة والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عند المحتضر، فهذه أمور لا تثبت بحکم العقل(2)، ولا مجال لإثباتها أو إنکارها إلا


1- قال سبحانه فی سورة ق الآیة 19 __ 22: (وَجَاءَتْ سَکْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِکَ مَا کُنْتَ مِنْهُ تَحِیدُ ... فَکَشَفْنَا عَنْکَ غِطَاءَکَ فَبَصَرُکَ الْیَوْمَ حَدِیدٌ).
2- ومثلما أن العقل لا یثبتها کذلک العقل لا یمنع من أن یری المحتضر ملک الموت وأعوانه والنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وباقی المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین).

ص: 310

عن طریق النصوص الشرعیة، فإن دلت النصوص الشرعیة علی حصول ذلک آمنا به، وإن منعت عنه منعنا عنه أیضا.

وبما ان النصوص الشرعیة قد تواترت __ کما عرفنا ذلک قبل قلیل __ فی حضور النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وبقیة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عند المحتضر فعلینا التسلیم والإیمان به، لان بإنکاره نکون قد أنکرنا حدیثهم، ورددنا علی الأئمة قولهم، وهو باب من أبواب الکفر والعیاذ بالله(1)).

فاطمة: (قرأت الیوم فی کتاب الأمالی للشیخ الصدوق أعلی الله مقامه أن السیدة خدیجة (صلوات الله و سلامه علیها) لما حان وقت ولادتها للسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) أرسل الله سبحانه لها أربع نسوة، سارة ومریم وآسیا بنت مزاحم وکلثوم أخت موسی بن عمران(2)، وهذه النسوة الأربع کلهن قد فارقن الحیاة الدنیا ومتن، ومع


1- روی محمد بن الحسن الصفار فی بصائر الدرجات ص541: (... عن سعید بن غزوان قال سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول والله لو آمنوا بالله وحده وأقاموا الصلاة وآتوا الزکاة ثم لم یسلموا لکانوا بذلک مشرکین ثم تلا هذه الآیة «فَلَا وَرَبِّکَ لَا یُؤْمِنُونَ حَتَّی یُحَکِّمُوکَ فِیمَا شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لَا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُوا تَسْلِیمًا») .
2- الأمالی للشیخ الصدوق ص690 __ 691: (...فلم تزل خدیجة علیها السلام علی ذلک إلی أن حضرت ولادتها، فوجهت إلی نساء قریش وبنی هاشم: أن تعالین لتلین منی ما تلی النساء من النساء، فأرسلن إلیها: أنت عصیتنا، ولم تقبلی قولنا، وتزوجت محمدا یتیم أبی طالب فقیرا لا مال له، فلسنا نجیء ولا نلی من أمرک شیئا. فاغتمت خدیجة علیها السلام لذلک، فبینا هی کذلک، إذ دخل علیها أربع نسوة سمر طوال، کأنهن من نساء بنی هاشم، ففزعت منهن لما رأتهن، فقالت إحداهن: لا تحزنی یا خدیجة فإنا رسل ربک إلیک، ونحن أخواتک، أنا سارة، وهذه آسیة بنت مزاحم، وهی رفیقتک فی الجنة، وهذه مریم بنت عمران، وهذه کلثوم أخت موسی بن عمران، بعثنا الله إلیک لنلی منک ما تلی النساء من النساء، فجلست واحدة عن یمینها، وأخری عن یسارها، والثالثة بین یدیها، والرابعة من خلفها...).

ص: 311

ذلک فقد رأتهن السیدة خدیجة (صلوات الله و سلامه علیها).

فإذا کان الله سبحانه قادراً علی أن یری الأحیاء بعض الأموات، فانه قادر أیضا علی أن یجعل الإنسان المحتضر یری ملک الموت وأعوانه والنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وبقیة المعصومین ومنهم السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، بل إن مسألة الاحتضار أسهل لان الحجاب بینه وبین العالم الآخر مرفوع).

کیف یحضر النبی والأئمة والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فی أماکن شتی وفی وقت واحد؟

أسامة: (أنا لا أنکر حضور النبی وبقیة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ما دامت الروایات قد نطقت بذلک، وما دمنا قد أمرنا بالتسلیم لأقوال وروایات المعصومین الصحیحة، ولکنی کنت أفکر انه کیف یمکن للنبی والأئمة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) أن یحضروا فی عدة أماکن من الدنیا فی وقت واحد، فکلنا یعلم أن فی اللحظة الواحدة یوجد عشرات أو مئات الأشخاص یموتون، فإذا قلنا ان النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وبقیة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) یحضرون کل هؤلاء فهذا یعنی أنهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) سیکونون فی العراق وفی نفس الوقت فی أفریقیا وفی الیابان وأمریکا والصین والهند وغیر ذلک من الأماکن، وهذا مستحیل بحکم العقل، ألیس کذلک؟).

خالد: (ان عدم إمکان حضور الجسم الواحد فی أکثر من مکان واحد إن

ص: 312

سلمنا به فهو فی عالم الدنیا، فالقوانین الدنیویة لا تمکن الجسم الواحد من أن یحضر فی أکثر من مکان واحد، اما فی القوانین الأخرویة وقوانین ما وراء المادة فإن الأمر یتغیر حتماً، والمحتضر کما بینا سابقا یدخل حال احتضاره فی قوانین الآخرة وقوانین ما وراء المادة، فیمکن حینئذ أن یری عدة محتضرین النبی والأئمة فی نفس الوقت وفی أماکن مختلفة من العالم.

ومثلما یجوز أن یحضر ملک الموت عند آلاف الأشخاص المحتضرین فی وقت واحد وأماکن متعددة، ومثلما یمکن للشیطان أن یحضر عند آلاف الناس ساعة الاحتضار لإغوائهم وصدهم عند الموت عن التوبة، کذلک یمکن لأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) أن یحضروا عند آلاف المحتضرین فی وقت واحد وبأماکن متعددة بتعدد المحتضرین.

إذ لیسوا بأقل مرتبة ومنزلة عند الله سبحانه من ملک الموت أو الشیطان لعنه الله، فالذی أعطی ملک الموت والشیطان هذه القدرة، قادر أیضا علی أن یعطی آل محمد (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) هذه القدرة أیضاً، بل وبحسب النصوص الشریفة إن الله سبحانه قد أعطاهم من المراتب والمزایا ما لم یعطِ مثلها لأحد من العالمین، کما ورد فی الزیارة الجامعة: « آتاکم اللَّه ما لم یؤت أحداً من العالمین»).

فاطمة: (أحسنت یا خالی فأمثلتک واضحة جداً، وأحب أن أضیف علی کلامک، أن الشیطان لعنه الله حتی علی وفق القوانین المادیة الدنیویة أیضا له قابلیة الحضور للوسوسة والإضلال عند ملایین الناس فی وقت واحد وأماکن مختلفة، فلماذا لا نستغرب أن یکون للشیطان وهو أرذل عباد الله وأعصاهم هذه القابلیة

ص: 313

ونستغرب ان تعطی هذه القابلیة للنبی الأعظم وأهل بیته (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)  وهم أعظم الموجودات منزلة وأکملهم شأنا).

أسامة: (الشیطان أو ملک الموت إنما أعطی هذه القابلیة لأنه مخلوق بکیفیة خاصة لها قابلیة الحضور عند الملایین فی وقت واحد، فکیف نقیس علیه أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وهم لم یخلقوا مما خلق منه ملک الموت أو الشیطان لعنه الله؟!).

خالد: (نحن استدللنا بهذین الموجودین __ ملک الموت والشیطان لعنه الله __ علی إمکان أن یکون للموجود الواحد حضور متعدد فی زمن واحد، من باب تقریب المطلب للذهن لیس إلا، وقلنا إذا جاز أن یعطی الله سبحانه هذه القابلیة لملک الموت الذی هو أدنی من أهل البیت مرتبة وکمالا، بل لعدو الله وعدو الأنبیاء الشیطان لعنه الله، فلماذا نستکثرها علی أهل البیت ونتعجب من اتصافهم بها، وإلا فإن الروایات الشریفة لوحدها کافیة لإثبات هذا الأمر، ومن شاء فلیؤمن بهذه الروایات ومن شاء فلیکفر بها.

ثم إن خلق ملک الموت والشیطان لعنه الله بکیفیة خاصة لا یمنع من أن یعطی الله سبحانه لأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) نفس هذه الکیفیة الخاصة بعد خروجهم من عالم الدنیا وقوانین المادة، لان الله سبحانه علی کل شیء قدیر).

أحضورهم حضور حقیقی أم مجازی؟

اشارة

أسامة: (ولماذا نصر علی أن حضورهم عند المیت حقیقی، بمعنی أنهم یأتون إلی المیت فعلا بأجسادهم وحقیقتهم؟، ولماذا لا نقول بأن حضورهم

ص: 314

مجازی، وإن معنی رؤیة المحتضر لهم هو العلم بثمرة ولایتهم بعلامات یجدها فی نفسه لا یرتاب معها، دون رؤیة البصر لأعیانهم ومشاهدة النواظر لأجسادهم.

والقرآن الکریم أطلق لفظ الرؤیة علی العلم بثمرة الأعمال فی أکثر من آیة، کما فی قوله تعالی: «فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ * وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ یَرَهُ»(1) وإنما أراد سبحانه بالرؤیة ههنا معرفة ثمرة الأعمال علی الیقین الذی لا یشوبه ارتیاب.

وحتی لا تتسرعوا فی رد کلامی أحب أن أخبرکم أن هذا القول لیس قولی، لأنی قد بحثت ووجدت أن ثلاثة من علماء الطائفة یقولون به وهم کل من:

1: الشیخ المفید (رضوان الله تعالی علیه)(2).


1- سورة الزلزلة الآیة رقم 7 __ 8.
2- قال الشیخ المفید فی أوائل المقالات ص74: (القول فی رؤیة المحتضرین رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأمیر المؤمنین علیه السلام عند الوفاة هذا باب قد أجمع علیه أهل الإمامة، وتواتر الخبر به عن الصادقین من الأئمة علیهم السلام ... غیر أنی أقول فیه إن معنی رؤیة المحتضر لهما __ علیهما السلام __ هو العلم بثمرة ولایتهما، أو الشک فیهما والعداوة لهما، أو التقصیر فی حقوقهما علی الیقین بعلامات یجدها فی نفسه وأمارات ومشاهدة أحوال ومعاینة مدرکات لا یرتاب معها بما ذکرناه، دون رؤیة البصر لأعیانهما ومشاهدة النواظر لأجسادهما باتصال الشعاع، وقد قال الله __ عز وجل __: «فمن یعمل مثقال ذرة خیرا یره ومن یعمل مثقال ذرة شرا یره»، وإنما أراد  __ جل شانه __ بالرؤیة هیهنا معرفة ثمرة الأعمال علی الیقین الذی لا یشوبه ارتیاب. وقال سبحانه: «فمن کان یرجوا لقاء ربه فإن أجل الله لآت». ولقاء الله تعالی هو لقاء جزائه علی الأعمال وعلی هذا القول محققو النظر من الإمامیة، وقد خالفهم فیه جماعة من حشویتهم، وزعموا أن المحتضر یری نبیه وولیه ببصره کما یشاهد المرئیات وإنهما یحضران مکانه ویجاورانه بأجسامهما فی المکان).

ص: 315

2: السید المرتضی (رضوان الله تعالی علیه)(1).

3: الشیخ الطبرسی (رضوان الله تعالی علیه)(2)).

خالد: (بالمناسبة الآن قد تذکرت بأنی أخذت فی العام الماضی دروساً فی علم الکلام، وفی أحد الدروس أثیر مبحث إمکان أو استحالة أن یکون للجسم حضور متعدد فی زمن واحد، وقد تعرض أستاذنا إلی هذا المبحث بشکل تفصیلی، وفی الأثناء ناقش روایات حضورهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عند المحتضرین، وقد کتبت الدرس فی کراس سأجلبه لکم خلال ثوانٍ وأنقل لکم أهم الأقوال فی المسألة، عن إذنکم وسأعود خلال لحظة).


1- قال الشریف المرتضی فی رسائله ج3 ص133 __ 134: (مسألة: عن المحتضر هل یشاهد فی تلک الحال جسم الإمام نفسه أم غیر ذلک؟ الجواب: قد روت الشیعة الإمامیة أن کل محتضر یری قبل موته أمیر المؤمنین علیه السلام... وإذا صحت هذه الروایة، فالمعنی: أنه یعلم فی تلک الحال ثمرة ولایته علیه السلام وانحرافه عنه، لأن المحتضر قد روی أنه إذا عاین الموت وقاربه، أری فی تلک الحال ما یدله علی أنه من أهل الجنة أو من أهل النار... وإنما اخترنا هذا التأویل، لأن أمیر المؤمنین علیه السلام جسم، فکیف یشاهده کل محتضر، والجسم لا یجوز أن یکون فی الحال الواحدة فی جهات مختلفة. ولهذا قال المحصلون: إن ملک الموت الذی یقبض الأرواح لا یجوز أن یکون واحدا لأنه جسم والجسم لا یصح أن یکون فی الأماکن الکثیرة، وتأولوا قوله تعالی «قل یتوفاکم ملک الموت الذی وکل بکم» أنه أراد بملک الموت الجنس دون الشخص الواحد، کما قال الله تعالی «وَالْمَلَکُ عَلی أَرْجائِها» وإنما أراد جنس الملائکة).
2- قال الشیخ الطبرسی فی تفسیر مجمع البیان ج3 ص237: (فالمراد برؤیتهم فی تلک الحال: العلم بثمرة ولایتهم وعداوتهم، علی الیقین، بعلامات یجدونها من نفوسهم، ومشاهدة أحوال یدرکونها. کما قد روی أن الإنسان إذا عاین الموت، أری فی تلک الحالة ما یدله علی أنه من أهل الجنة، أو من أهل النار).

ص: 316

ذهب خالد إلی مکتبته الشخصیة وبحث فی مجموعة من الأوراق والدفاتر حتی وجد ضالته ومن ثم عاد لیکمل جلسة الحوار، وبعد أن قلب فی الأوراق قلیلا وقرأ بعض رؤوس السطور کتب: (توجد عدة ردود علی کلام الشیخ المفید والسید المرتضی أعلی الله مقامهما وأنا سأذکر هذه الردود علی شکل نقاط لیسهل فهمها وترتیبها:

أولا: إن تأویلهما لا شاهد علیه من القرآن والسنة النبویة

فقد أشکل الشیخ الحسن بن سلیمان الحلی فی کتابه المحتضر علی رأی الشیخ المفید بأن إنکاره للرؤیة البصریة وتأویلها بالعلم بثمرة ولایتهما أو عداوتهما هو شیء لم یستند فیه الشیخ المفید إلی القرآن الکریم والسنة النبویة المطهرة، بل إن السنة النبویة جاءت علی خلاف رأیه(1).

وهذا القول من الشیخ الحسن بن سلیمان الحلی وإن جاء کرد علی کلام الشیخ المفید الا أنه یمکن أن یکون رداً علی کلام السید المرتضی والشیخ


1- قال الشیخ الحسن بن سلیمان الحلی فی کتابه المحتضر ص16: (فیقال له: أهذا الذی أنکرت من رؤیة البصر لأجسادهما بعینهما علیهما السلام وقلت: إنّه لیس المراد بل المراد العلم بثمرة ولایتهما أو عداوتهما، هل هو شیء استندت فیه إلی برهان من الکتاب أو السنّة یجب التسلیم له والانقیاد له والاعتماد علیه؟! کما روی عن الصادق علیه السلام أنّه قال: من أخذ دینه من أفواه الرجال أزالته الرجال ومن أخذ دینه من الکتاب والسنّة زالت الجبال ولم یزل. أوَ أخذته من غیرهما؟ فإذا وجدنا هذا التأویل لا یوافق الأخبار الواردة عنهم علیهم السلام، الصریحة الصحیحة، من أنّ الأموات یرون الأموات والأحیاء بعد الموت، وکذلک الأحیاء یرونهم حقیقة فی الیقظة والنوم، ویرون أهالیهم وما یسرّهم فیهم وما یغمّهم).

ص: 317

الطبرسی أعلی الله مقامهما أیضا.

أسامة: (کیف تقولون إن الشیخ المفید لیس لدیه دلیل قرآنی وقد استدل  بآیتین من القرآن علی إمکان استعمال الرؤیة فی رؤیة ثمرة الأعمال، الأولی هی قوله تعالی: «فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ * وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ یَرَهُ»(1)، والثانیة هی قوله تعالی: «مَنْ کَانَ یَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآَتٍ»(2)؟).

خالد: (إن قیاس الرؤیة فی الآیتین علی الرؤیة فی أحادیث حضورهم عند المحتضر قیاس مع الفارق، لان الرؤیة فی الآیتین لابد من تأویلهما وعدم حملهما علی الظاهر لأنهما قد تعلقتا بأمر لا یمکن رؤیته بحاسة البصر، فالعمل لیس جسما حتی یمکن رؤیته بحاسة البصر، وکذلک ذات الباری عز وجل، فلذلک ساغ التأویل وجاز، اما الرؤیة المقصودة فی أحادیث الاحتضار فإنها متعلقة بذوات قابلة للرؤیة، فلا یلزمنا التأویل ما دام هنالک مجال للأخذ بظاهر اللفظ وحمله علی الحقیقة).

أسامة: (وکیف تقولون إن السید المرتضی (رضوان الله تعالی علیه) لا شاهد علی کلامه وقد قدم دلیلا علی کلامه حینما قال: «والجسم لا یجوز أن یکون فی الحال الواحدة فی جهات مختلفة» وهذه حقیقة لا یختلف فیها اثنان؟).

خالد: (إن بعض الظواهر قد اعتاد الإنسان علی رؤیتها فظن بأن هذا الذی اعتاد علی رؤیته قانون لا یمکن خرقه أو انفکاکه، فقد اعتاد مثلا علی أن تکون


1- سورة الزلزلة الآیة رقم 7 __ 8.
2- سورة العنکبوت الآیة رقم 5.

ص: 318

النار حارقة، أو أن جسما ضخما لا یمکن نقله من بلد إلی آخر إلا بعد أیام أو ساعات طویلة من الجهد والتعب، متناسیا أن هذه القوانین والأسباب والعلل هی من صنع الله وتدبیره وأن بإمکان الله سبحانه أن یوجد ما یشاء مما یشاء وان یحول بین هذه القوانین وبین آثارها وخصائصها، کما حال بین نبی الله إبراهیم وبین النار التی ألقاه فیها النمرود(1)، أو کما سخر لوصی سلیمان الأسباب فجاء بعرش بلقیس قبل أن یرتد إلی سلیمان طرفه(2)، وهذا الأمر نفسه ینطبق علی ما قدمه السید المرتضی من دلیل، فإن الجسم وإن کان من خواصه وصفاته أن لا یتواجد فی وقت واحد فی أکثر من مکان، إلا ان الله سبحانه قادر علی أن یحول دون ذلک، ویوجد فی الجسم هذه القابلیة، فلیس هذا بأعظم من جعل النار المحرقة بردا وسلاما، والشک فی هذا الأمر شک بقدرة الله سبحانه «وَاللَّهُ عَلَی کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ»(3).


1- قال تعالی فی سورة الأنبیاء الآیة رقم 68 __ 69: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ فَاعِلِینَ * قُلْنَا یَا نَارُ کُونِی بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَی إِبْرَاهِیمَ).
2- قال تعالی فی سورة النمل الآیة رقم 39 __ 40: (قَالَ عِفْریتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِکَ وَإِنِّی عَلَیْهِ لَقَوِیٌّ أَمِینٌ * قَالَ الَّذِی عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْکِتَابِ أَنَا آَتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ یَرْتَدَّ إِلَیْکَ طَرْفُکَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّی لِیَبْلُوَنِی أَأَشْکُرُ أَمْ أَکْفُرُ وَمَنْ شَکَرَ فَإِنَّمَا یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ کَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیٌّ کَرِیمٌ).
3- قال الحسن بن سلیمان الحلی فی کتابه المحتضر ص17: (ولو سُئِلَ المنکر لرؤیة المحتضر لهما __ أی للنبی وعلی __ صلّی الله علیهما عند موته عیاناً: هل یقدر الله سبحانه أن یُری المحتضرین الحجج صلوات الله علیهم عند الممات وبعده کما أقدر النائم أن یری من یراه فی أبعد البلاد فی حیاة المرئی، وبعد موته، علی صورته وقالبه الذی کان یعرفه به، وربّما أکل معه وشرب وتحدّثا بما قد یفید العلم أو لا یقدر؟ لا سبیل إلی إنکار القدرة، فإذا جاز وقوعها فلا یجوز تأویله والعدول عن الظاهر من غیر ضرورة ولا امتناع).

ص: 319

إضافة إلی ذلک فإن مبحث عدم جواز أن یکون الجسم فی الحال الواحدة فی جهات مختلفة هو خاص بالأجسام الطبیعیة المادیة، أما الأجسام اللطیفة والأرواح المجردة فلا تندرج تحت هذه القاعدة، وهذه القاعدة اکتشفت بعد زمن السید المرتضی (رضوان الله تعالی علیه) حتی صارت الیوم من الواضحات(1)).

ثانیا: انهما انفردا فی تأویل هذه الأخبار خلافا لعامة علماء المذهب

وکتب خالد أیضا: (والذی یهون الخطب أن الشیخ المفید والسید المرتضی والشیخ الطبرسی (رضوان الله تعالی علیه) تبعا لهما قد انفردا فی هذا التأویل، وقد صرح السید نعمة الله الجزائری ان أحدا من العلماء الذین جاؤوا من بعد الشیخ المفید والسید


1- قال السید محمد علی القاضی فی تعلیقته علی الأنوار النعمانیة وعلی ما نقله عنه أحمد الرحمانی الهمدانی فی کتابه الإمام علی بن ابی طالب علیه السلام ص437: (والدلیل العقلی الذی أوجب لسیدنا علم الهدی، وشیخه الأعظم، شیخنا المفید، أن ذهبا إلی تأویل الدلائل النقلیة الواردة عن أئمتنا: فهو بالنظر إلی الأجسام الطبیعیة المادیة ومکانها دلیل تام لا شک فیه بحسب الظاهر، فإن من الواضح أن حضور الجسم الواحد فی آن واحد وحالة واحدة فی أمکنة متعددة وجهات مختلفة غیر ممکن، ولکن لما لم یتحقق فی زمن السید رحمه الله هذه المباحث علی نحو التحلیل العلمی، لذا ذهب السید رحمه الله إلی ذلک التأویل، وأما الیوم فقد حقق فی محله أن حضورهم علیهم السلام عند المحتضر لا ینحصر أن یکون فی مکان الأجسام الطبیعیة کما یتخیل فی بادی النظر حتی یرد ذلک الأشکال العقلی، بل من الممکن أن یکون حضورهم فی مکان الأجسام اللطیفة أو مکان الأرواح المجردة. ولهم علیهم السلام بحسب نفوسهم القدسیة القدرة والاستعداد بالتصرف فی جمیع الأمکنة من أمکنة الأجسام الکثیفة واللطیفة والأرواح الأدنی والوسطی والعلیا، وإحاطة التصرف فی عالم الملک والملکوت بإذن الله تعالی وإقداره. نعم، إن کان المکان منحصرا إلی مکان الجسم المادی فقط فیرد حینئذ ذلک الإشکال العقلی).

ص: 320

المرتضی لم ینکر حضورهم الحقیقی، أو قال بالتأویل الذی ذهب إلیه المفید وتلمیذه المرتضی(1).

وکلمات العلماء کثیرة فی رفض التأویل الذی ذهب إلیه هذان العلمان، منها ما ذکره العلامة المجلسی (رضوان الله تعالی علیه)(2)، وما ذکره الحسن بن سلیمان الحلی الذی ألف کتابا خاصا لرد هذا التأویل أسماه «المحتضر(3)»، وما ذکره الفیض الکاشانی(4)، وغیرهم الکثیر ممن یطول ذکرهم.

أسامة: (إن الشیخ المفید صرح بأنه لیس الوحید الذی یذهب إلی تأویل هذه الأحادیث، وان محققی النظر من الإمامیة فی عصره هم أیضا علی نفس قوله


1- قال السید نعمة الله الجزائری فی الأنوار النعمانیة ج4 ص210 ط. تبریز: (ولم یذهب أحد من الأصحاب إلی تأویل هذا ولا إلی إنکاره. نعم، ذهب سیدنا الأجل علم الهدی __ تغمده الله برحمته __ إلی تأویله... والعجب منه کیف ارتکب تأویل هذه الأخبار الکثیرة مع أن بعضها من جهة صراحته فی المطلوب غیر قابل للتأویل لهذا الدلیل العقلی).
2- قال العلامة المجلسی فی بحار الأنوار ج6 ص202 بعد ان ذکر خمسة أوجه خامسها للسید المرتضی: (ولا یخفی أن الوجهین الأخیرین بعیدان عن سیاق الأخبار، بل مثل هذه التأویلات رد للأخبار، وطعن فی الآثار).
3- قال الشیخ الحسن بن سلیمان الحلی فی المحتضر ص17: (هبک علمت أن شرط الرؤیة فی هذا العالم اتصال الشعاع من الرائی إلی المرئی فمن أین لک أن هذا الحکم یجری بعد الموت فی عالم البقاء؟! والله سبحانه یقول: «وَکَانَ اللهُ عَلَی کُلِّ شَیْء مُقْتَدِراً »، ویقول: «وَیَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»، وقد جاء فی الحدیث عنهم علیهم السلام: «لا تقدر عظمة الله تعالی علی عقلک فتهلک، فقدرته سبحانه بلا کیف ولا یحیط بها العلم»...).
4- قال الفیض الکاشانی فی علم الیقین ج2 ص856: (إن هذه الرؤیة إنما تکون فی النشأة البرزخیة لا الحسیة، وإن ذلک حقیقة لا تجوز فیه).

ص: 321

وتأویله، فلا یصبح تأویله حینئذ شاذاً ولا منحصرا به وبالسید المرتضی کما تزعمون).

خالد: (إن الشهرة التی ادعاها الشیخ المفید أعلی الله مقامه لم نرَ لها شاهدا فی کتب القدماء (رضوان الله تعالی علیهم)، وبما انه لم یذکر لها شواهد ولا أسماء للقائلین بها، فتبقی مجرد شهرة منقولة ولیست شهرة محصلة، کما یقولون.

وحتی لو سلمنا بوجود شهرة کهذه فی عصره (رضوان الله تعالی علیه) فإنها الیوم غیر مهمة، لان هذه الشهرة قد تبدلت بعد عصره وانقلبت إلی خلاف رأیه (رضوان الله تعالی علیه)، فأصبح المشهور عدم قبول تأویله، والمشهور الیوم یحمل هذه الأحادیث علی ظاهرها من دون مجاز أو تأویل، فتنقلب بذلک حجیة الشهرة إلی ما یقوله المتأخرون، وهذا أمر کثیرا ما یحصل، فالقدماء مثلا کانوا یطبقون علی القول بنجاسة ماء البئر بمجرد ملاقاة النجاسة، اما الیوم فإجماع کلمة علماء الطائفة علی ان ماء البئر حکمه حکم الماء الجاری لا ینجس إلا بالتغیر(1).

إذن فتبدل الحکم بتبدل الزمان وتطور الفکر وتبلور البحث جائز بل هو کثیر الوقوع، والشهرة التی تکلم عنها الشیخ المفید (رضوان الله تعالی علیه) مشمولة بهذه القاعدة).


1- قال السید الیزدی فی العروة الوثقی ج1 ص96: (ماء البئر النابع بمنزلة الجاری لا ینجس إلا بالتغیر، سواء کان بقدر الکر أو أقل، وإذا تغیر ثم زال تغیره من قبل نفسه طهر، لأن له مادة، ونزح المقدرات فی صورة عدم التغیر مستحب، وأما إذا لم یکن له مادة نابعة فیعتبر فی عدم تنجسه الکریة، وإن سمی بئرا، کالآبار التی یجتمع فیها ماء المطر ولا نبع لها).

ص: 322

ثالثا: ألفاظ الأحادیث صریحة بالحضور الحقیقی دون المجازی

اشارة

وکتب خالد أیضا: (والعجب من الشیخ المفید (رضوان الله تعالی علیه) کیف ذهب إلی تأویل هذه الروایات الشریفة مع أن ألفاظها صریحة فی الحضور الحقیقی ولا تقبل التأویل، ولنا علی ذلک عدة شواهد منها:

الشاهد الأول

روایة یوسف بن ظبیان قال: «کنت عند أبی عبد الله علیه السلام فقال: ما یقول الناس فی أرواح المؤمنین بعد موتهم؟ قلت: یقولون: فی حواصل طیور خضر. فقال: سبحان الله! المؤمن أکرم علی الله من ذلک، إذا کان ذلک أتاه رسول الله صلی الله علیه وآله وعلی وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام ومعهم ملائکة من ملائکة الله عز وجل المقربین، فإن أنطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحید وللنبی صلی الله علیه وآله بالنبوة والولایة لأهل البیت علیهم السلام شهد علی ذلک رسول الله صلی الله علیه وآله وعلی وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام والملائکة المقربون معهم، وإن اعتقل لسانه فإن نبیه علیه السلام یعلم ما فی قلبه من ذلک فشهد به، وشهد علی شهادة النبی صلی الله علیه وآله علی وفاطمة والحسن والحسین. علی جماعتهم من الله أفضل الصلاة والسلام. ومن حضر معهم من الملائکة، فإذا قبض الله روحه إلیه صیر تلک الروح إلی الجنة فی صورة کصورته فی الدنیا فیأکلون ویشربون، فإذا قدم علیهم القادم عرفهم بتلک الصورة التی کانت فی الدنیا»(1).


1- راجع الأمالی للشیخ الطوسی ص419.

ص: 323

وهذه الروایة صریحة لا تقبل التأویل کما صرح به الشیخ الحسن بن سلیمان الحلی بقوله: «فقوله علیه السلام: «إذا کان ذلک أتاه رسول الله وعلیّ وفاطمة والحسن والحسین صلوات الله علیهم ومعهم ملائکة الله المقرّبون علیهم السلام، فإن أنطق الله لسانه بالشهادة لله بالتوحید، وللنبیّ بالنبوّة، ولأهل البیت بالولایة، شهد علی ذلک رسول الله وعلیّ وفاطمة والحسن والحسین ومن حضر معهم من الملائکة «صلوات الله علیهم أجمعین»، صریح بحضورهم عنده علی الحقیقة; لسماعهم قوله وشهادتهم علی إقراره واعترافه دون المجاز، ولا یجوز العدول عن هذا الظاهر من الحدیث وتأوّله بشیء لم یدلّ علیه الحدیث ولا غیره من الأحادیث، ولو جاز هذا التأویل والعدول لجاز تأویل کلّ ما جاء عنهم علیهم السلام من أسرارهم التی أمروا أهل ولایتهم باحتمالها وأن لا ینکروها لعدم احتمال عقولهم لها»(1).

الشاهد الثانی

ومنها ما عن أبی حمزة الثمالی قال: «قلت لأبی جعفر علیه السلام: ما یصنع بأحدنا عند الموت؟ قال: أما والله یا أبا حمزة ما بین أحدکم وبین أن یری مکانه من الله ومکانه منا إلا أن یبلغ نفسه ههنا __ ثم أهوی بیده إلی نحره __ ألا أبشرک یا أبا حمزة؟ فقلت: بلی جعلت فداک، فقال: إذا کان ذلک أتاه رسول الله صلی الله علیه وآله وعلی علیه السلام معه، یقعد عند رأسه، فقال له رسول الله صلی الله علیه وآله: أما تعرفنی؟ أنا رسول الله هلم إلینا، فما أمامک خیر لک مما خلفت، أما ما کنت تخاف فقد أمنته، وأما ما کنت ترجو فقد هجمت علیه، أیتها الروح أخرجی


1- راجع المحتضر للحسن بن سلیمان الحلی ص22.

ص: 324

إلی روح الله ورضوانه، ویقول له علی علیه السلام: مثل قول رسول الله صلی الله علیه وآله. ثم قال: یا أبا حمزة؟ ألا أخبرک بذلک من کتاب الله؟ قول الله: «الَّذِینَ آَمَنُوا وَکَانُوا یَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَی فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَفِی الآَخِرَةِ لا تَبْدِیلَ لِکَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ».

وفی الروایة ألفاظ صریحة بالرؤیة علی الحقیقة لا تقبل التأویل کقعودهما (صلوات الله و سلامه علیهما) عند رأس المحتضر وغیر ذلک، فهذا لا ینسجم کلیا مع ما تأوله الشیخ المفید (رضوان الله تعالی علیه).

الشاهد الثالث

ومنها ما عن الإمام العسکری (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال: «إن المؤمن الموالی لمحمد وآله الطیبین، والمتخذ لعلی بعد محمد إمامه الذی یحتذی مثاله، وسیده الذی یصدق أقواله ویصوب أفعاله ویطیعه بطاعته من یندبه من أطائب ذریته لأمور الدین وسیاسته، إذا حضره من أمر الله تعالی ما لا یرد ونزل به من قضائه ما لا یصد، وحضره ملک الموت وأعوانه وجد عند رأسه محمدا رسول الله، ومن جانب آخر علیا سید الوصیین، وعند رجلیه من جانب الحسن سبط سید النبیین، ومن جانب آخر الحسین سید الشهداء أجمعین... ینظر العلیل المؤمن إلیهم فیخاطبهم  بحیث یحجب الله صوته عن آذان حاضریه کما یحجب رؤیتنا أهل البیت ورؤیة خواصنا عن أعینهم لیکون إیمانهم بذلک أعظم ثوابا لشدة المحنة علیهم... فأقبل رسول الله صلی الله علیه وآله علی ملک الموت فیقول: یا ملک الموت استوص بوصیة الله فی الإحسان إلی مولانا وخادمنا ومحبنا ومؤثرنا، فیقول

ص: 325

له ملک الموت: یا رسول الله مره أن ینظر إلی ما أعد الله له فی الجنان، فیقول له رسول الله صلی الله علیه وآله: لینظر إلی العلو فینظر إلی ما لا یحیط به الألباب، ولا یأتی علیه العدد والحساب»(1).

وهذه الروایة أیضا صریحة فی حضورهم العینی ولیس التأویلی، لان بها ألفاظا صریحة کقعودهم أو وقوفهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فی جهات مختلفة وانحاء شتی، وکلامهم معه وکلامه معهم ومع ملک الموت کل هذا وغیره لا ینسجم إلا مع الرؤیة علی نحو الحقیقة لا المجاز.

الشاهد الرابع

ومن الروایات المؤیدة لحضورهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عند الإنسان المحتضر علی نحو الحقیقة ما رواه مسمع بن عبد الملک عن الإمام الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال: «یا مسمع أنت من أهل العراق أما تأتی قبر الحسین علیه السلام... أفما تذکر ما صنع به، قلت: نعم، قال: فتجزع، قلت: ای والله وأستعبر لذلک حتی یری أهلی أثر ذلک علی فأمتنع من الطعام حتی یستبین ذلک فی وجهی، قال: رحم الله دمعتک، أما إنک من الذین یعدون من أهل الجزع لنا والذین یفرحون لفرحنا ویحزنون لحزننا، ویخافون لخوفنا ویؤمنون إذا آمنا، أما انک ستری عند موتک حضور آبائی لک ووصیتهم ملک الموت بک وما یلقونک به من البشارة أفضل، وملک الموت أرق علیک وأشد رحمة لک من الام الشفیقة علی ولدها...»(2).


1- بحار الأنوار للمجلسی ج6 ص174.
2- الروایة بکاملها موجودة فی کامل الزیارات لجعفر بن محمد بن قولویه ص205 الباب 32 ثواب من بکی علی الحسین بن علی علیهما السلام.

ص: 326

ووحدة الملاک فی هذه الروایة تثبت بوضوح أن الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یحضرون عند من یحزن لحزنهم ویفرح لفرحهم حتی وإن کانوا بالعشرات او المئات وحتی وإن کان موتهم فی نفس اللحظة وفی إنحاء مختلفة من العالم، ولم أطّلع علی من تأول هذه الروایة وحملها علی غیر ظاهرها.

الشاهد الخامس

ویؤید حضورهم الحقیقی عند المحتضر ما أفتی به جملة من مراجع الدین العظام بإمکان حضور النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام أمیر المؤمنین والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیهما) وبقیة الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) مجالس عزاء سید الشهداء الحسین بن علی (صلوات الله و سلامه علیه)(1) علی کثرتها واختلاف أماکنها وإقامتها فی وقت واحد.


1- منهم السید الخوئی (رضوان الله تعالی علیه) فی کتابه صراط النجاة ج3 ص321 السؤال رقم 1000: (ترشد بعض الروایات إلی أن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم والزهراء «علیها السلام» یحضرون مآتم عزاء الإمام الحسین علیه السلام فما رأی مولانا الکریم، وعلی فرض الورود فهل یشمل حضور بقیة الأئمة «علیهم السلام»؟ __ فأجاب السید __ الخوئی: هذا أمر ممکن، وبعض الروایات دلت علیه، والله العالم). ومنهم المیرزا التبریزی فی تعلیقته علی کتاب صراط النجاة فی أجوبة الاستفتاءات للسید الخوئی ج3 ص439: (س1263: هل یجوز الاعتقاد بأن الصدیقة الطاهرة السیدة الزهراء علیها السلام  تحضر بنفسها فی مجالس النساء فی آن واحد، فی مجالس متعددة بنفسها ودمها ولحمها؟ _ الجواب _ : الحضور بصورتها النوریة فی أمکنة متعددة فی زمان واحد، لا مانع منه، فإن صورتها النوریة خارجة عن الزمان والمکان، ولیست جسما عنصریا لیحتاج إلی الزمان والمکان، والله العالم).

ص: 327

رابعا: الروایات الأخری تؤید الحضور العینی ولا مؤید لتأویل الشیخ المفید

وکتب خالد أیضا: (وحضورهم الحقیقی العینی مؤید أیضا بروایتین معتبرتین عن الإمام الرضا علیه السلام قال فیهما: «من زارنی علی بعد داری أتیته یوم القیامة فی ثلاثة مواطن حتی أخلصه من أهوالها: إذا تطایرت الکتب یمیناً وشمالاً، وعند الصراط، وعند المیزان»(1).

ومعلوم أن هنالک ملایین أو ملیارات من الناس قد زاروا الإمام الرضا (صلوات الله و سلامه علیه) من حین استشهاده والی یوم القیامة ووفق الحدیث انه سیحضر فی تلک المواقف الثلاثة مع کل واحد من زائریه علی حدة لیخلصه ویستنقذه من أهوالها، فمن له القدرة علی أن یحضر مع ملیارات من الناس فی وقت واحد بإذن الله سبحانه وإقداره، له القدرة أیضا ان یحضر مع آلاف المحتضرین فی وقت واحد بإذن الله سبحانه وإقداره.

ومؤید أیضا بالروایة عن الإمام موسی بن جعفر (صلوات الله و سلامه علیه) وقوله لمحمد ابن علی النیسابوری: (...عرف أصحابک وأقرأهم منی السلام وقل لهم: إنی ومن یجری مجرای من الأئمة لابد لنا من حضور جنائزکم فی أی بلد کنتم، فاتقوا الله فی أنفسکم).

وهذا أیضا کسابقه فإن من أعطاه الله سبحانه القدرة علی أن یحضر آلاف الجنائز فی وقت واحد وفی بلدان متفرقة قادر أیضا أن یحضر آلاف المحتضرین فی وقت واحد وأماکن شتی.


1- الأمالی للشیخ الصدوق ص183،

ص: 328

وجدیر بالذکر أن هاتین الروایتین __ روایة الکاظم والرضا (صلوات الله و سلامه علیهما) __ لم أرَ أحداً من العلماء قد حملها علی غیر ظاهرها أو أوّلها علی النحو الذی أول به الشیخ المفید والسید المرتضی والشیخ الطبرسی (رضوان الله تعالی علیهم)، بل حملوها علی ظاهرها ولم یفسروا الحضور بغیر معناه الحقیقی.

فهذه أربعة ردود علی رأی الشیخین المفید والطبرسی والسید المرتضی (رضوان الله تعالی علیهم) وأترک بقیة الردود لأنها صعبة وتحتاج إلی خلفیة ومعرفة بالمصطلحات الفلسفیة والکلامیة).

خامسا: نؤمن بالحضور العینی ولکن لا نقطع بالکیفیة

وکتب خالد أیضا: (وقبل أن أنهی هذا المطلب أود أن أقول: إنه إلی الآن قد ثبت لدینا بأن النبی الأعظم والإمام أمیر المؤمنین والسیدة الزهراء وباقی المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یحضرون عند المیت ساعة احتضاره وإن حضورهم یکون حضورا عینیا ولیس مجازیا، أما کیفیة حضورهم فغیر معلومة لدینا، ولا یجب علینا الفحص عنها وعن تفاصیلها(1)، لان عالمنا المادی یختلف من حیث


1- وأفضل ما قیل فی هذا المجال هو ما جاد به العلامة المجلسی (رضوان الله تعالی علیه) فی بحار الأنوار ج6 ص201: (وأما نحو حضورهم وکیفیته فلا یلزم الفحص عنه، بل یکفی فیه وفی أمثاله الإیمان به مجملا علی ما صدر عنهم علیهم السلام). وقال فی ص202: (والأحوط والأولی فی أمثال تلک المتشابهات الإیمان بها، وعدم التعرض لخصوصیاتها وتفاصیلها وإحالة علمها إلی العالم علیه السلام کما مر فی الأخبار التی أوردناها فی باب التسلیم، والله یهدی من یشاء إلی صراط مستقیم).

ص: 329

القوانین والإمکانیات عن عالم البرزخ والقیامة، فعالم الدنیا علی ما فیه من عجائب التدبیر والقوانین التی تحیر العقول إلا انه أخس العوالم من حیث الإمکانات والقدرة، وعلیه فلن نستطیع ونحن أبناء هذا العالم فهم ذلک العالم وقوانینه وحیثیاته وکیف تسیر الأمور فیه، فینتج من هذا کله ان الأیمان بما جاء فی الروایات واجب وتفسیر کیفیته موکولة إلی قائلیه (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، عملا بالأحادیث الشریفة(1).

والآن أترک لکم الکلام فإذا کان عندکم ملاحظة أو تعلیق علی ما ذکرت فتفضلوا، وان لم یکن عندکم تعلیق انتقلنا إلی سؤال آخر).

ما هی فوائد حضورهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عند المحتضر؟

  محمد: (لقد انقدح فی ذهنی إشکال، وهو: لماذا هذا الإصرار العظیم علی حضورهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عند الموتی ساعة احتضارهم؟ ولماذا لا یترک المیت علی حاله ومن ثم یأخذ جزاءه یوم القیامة فان کان صالحا فإلی الجنة وإن کان مسیئا فإلی النار وبئس المصیر؟).

خالد: (أنت یا محمد تقول هذا القول لأنک الآن جالس علی کرسیک مستریح منعم بأنواع النعم، فأنت بین أم ترعاک وتقوم علی تلبیة احتیاجاتک، فإذا


1- روی الشیخ محمد بن الحسن الصفار فی بصائر الدرجات ص42: (...عن أبی حمزة الثمالی عن أبی جعفر علیه السلام قال إن حدیثنا صعب مستصعب لا یؤمن به الا نبی مرسل أو ملک مقرب أو عبد امتحن الله قلبه للإیمان فما عرفت قلوبکم فخذوه وما أنکرت قلوبکم فردوه إلینا) والأحادیث فی هذا المعنی مستفیضة.

ص: 330

جعت أشبعتک، وإذا مرضت سهرت علی رعایتک وتطبیبک، وبین أب مشفق لا تتمنی أمنیة إلا وسعی فی تحقیقها لک، ولا تسمع الا ما یریحک، ولا تری الا ما یریحک، ولا تجلس إلا علی ما یریحک، فأنت سید نفسک، والکل بخدمتک.

ولکن هذا الوضع کله سیتغیر فی عالم الآخرة، والموت هو أول مراحل هذه الحیاة الطویلة الأبدیة، والاحتضار أول منزلة من منازل الموت، وهو بمثابة باب یطل منه الإنسان علی عالم الآخرة وعجائبه، وفی الاحتضار یری الإنسان ما لم یکن یراه فی عالم الدنیا، ویسمع ما لم یکن یسمعه فیها، فیری أعماله ماثلة أمامه، فان کان مؤمنا یراها بالصورة الحسنة، وان کان مسیئا یراها بصورة بشعة مرعبة.

ویری الملائکة حافین به وقد نزلوا لقبض روحه، وبأیدیهم حراب من نار وأغلال وأشیاء مرعبة لو رآها أهل الدنیا لماتوا من رعبهم.

ویری أیضا الشیاطین تحوم حوله من کل جهة یریدون أن یسلبوا منه إیمانه ویخوفوه لقاء ربه، ویحببوا إلیه الکفر ویکرهوا له الإیمان(1)، وکیف لا یفعلون ذلک وهذه آخر فرصة لدیهم للنیل من هذا الإنسان المسجی، فان هم استطاعوا ان یشککوه فی أصل من أصول دینه فقد کفر وخسر خسراناً عظیماً، وفازوا هم وأضافوا إلی زمرتهم مسکینا آخر.


1- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج3 ص124: (عن أبی خدیجة، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: ما من أحد یحضره الموت إلا وکل به إبلیس من شیطانه أن یأمره بالکفر ویشککه فی دینه حتی تخرج نفسه فمن کان مؤمنا لم یقدر علیه فإذا حضرتم موتاکم فلقنوهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلی الله علیه وآله حتی یموت. وفی روایة أخری قال: فلقنه کلمات الفرج والشهادتین وتسمی له الإقرار بالأئمة علیهم السلام واحدا بعد واحد حتی ینقطع عنه الکلام).

ص: 331

والمحتضر فوق کل هذه الشدائد العظام والمحن الجسام یدیر بعینیه إلی أهله وأولاده وأمواله، فهو ما بین خائف لما سیقع علی أهله وعیاله وما سینزل بهم بعد رحیله، وبین متحسر علی نفسه وقلة عمله، فهو محبوس اللسان قد منع عن الأکل والشرب والکلام، فلا وصیة یستطیع ولا حسرة تنفعه.

کل هذا والإنسان بعد فی حالة الاحتضار، أما مرحلة الموت فلا یعلم بصعوبتها ولا آلامها الا الله سبحانه، فقد روی ان الموت بالنسبة لبعض الأشخاص کلدغ الافاعی ولسع العقارب، ولبعض الموتی هو أشد من النشر بالمناشیر، أو کمن یربط من یدیه ورجلیه ویرمی بالحجارة والصخور من کل جانب وعلی کل أعضائه، أو کمن یوضع فی الطریق وتدوس علی رأسه وبدنه العربات والسیارات(1).

فالمحتضر وکما ترون فی معرکة وجهاد، وهم وغم، وخوف ورعب لا یعلمه إلا الله سبحانه، وهو بأمس الحاجة إلی من یؤمن خوفه ویسکن روعته، ویبعد عنه کید الشیطان وأتباعه، ویحفظ له عقائده وإیمانه بربه، ویوصی ملک


1- روی الشیخ الصدوق فی عیون أخبار الرضا ج1 ص248: (...عن الحسن بن علی عن أبیه الرضا عن أبیه موسی بن جعفر علیهما السلام قال: قیل للصادق علیه السلام: صف لنا الموت قال: للمؤمن کأطیب ریح یشمه فینعس لطیبه وینقطع التعب والألم کله عنه وللکافر کلسع الأفاعی ولدغ العقارب وأشد قیل: فإن قوما یقولون: انه أشد نشر بالمناشیر وقرض بالمقاریض ورضخ بالأحجار وتدویر قطب الأرحیة علی الأحداق قال: کذلک هو علی بعض الکافرین والفاجرین الا ترون منهم من یعاین تلک الشدائد؟ فذلکم الذی هو أشد من هذا الأمر عذاب الآخرة فإنه أشد من عذاب الدنیا).

ص: 332

الموت وأعوانه بالرحمة له والشفقة علیه والتخفیف عنه، ویبشره بأن الموت هو قنطرة وجسر إلی الآخرة والنعیم ورضوان من الله أکبر(1)، وهذا ما یقوم به النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وباقی الأئمة المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وهذه هی فائدة حضورهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عند المؤمن(2).


1- روی الشیخ الصدوق فی معانی الأخبار ص290: (عن الحسن بن علی علیهما السلام قال: دخل علی بن محمد علیهما السلام علی مریض من أصحابه وهو یبکی ویجزع من الموت فقال له: یا عبد الله تخاف من الموت لأنک لا تعرفه، أرأیتک إذا اتسخت وتقذرت وتأذیت من کثرة القذر والوسخ علیک وأصابک قروح وجرب وعلمت أن الغسل فی حمام یزیل ذلک کله أما ترید أن تدخله فتغسل ذلک عنک أو ما تکره أن لا تدخله فیبقی ذلک علیک؟ قال: بلی یا ابن رسول الله. قال: فذاک الموت هو ذلک الحمام وهو آخر ما بقی علیک من تمحیص ذنوبک وتنقیتک من سیئاتک فإذا أنت وردت علیه وجاوزته فقد نجوت من کل غم وهم وأذی، ووصلت إلی کل سرور وفرح، فسکن الرجل واستسلم ونشط وغمض عین نفسه ومضی لسبیله).
2- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج3 ص128: (...عن سدیر الصیرفی قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: جعلت فداک یا ابن رسول الله هل یکره المؤمن علی قبض روحه؟ قال: لا والله إنه إذا أتاه ملک الموت لقبض روحه جزع عند ذلک فیقول له ملک الموت: یا ولی الله لا تجزع فوالذی بعث محمدا صلی الله علیه وآله لأنا أبر بک وأشفق علیک من والد رحیم لو حضرک، افتح عینک فانظر قال: ویمثل له رسول الله صلی الله علیه وآله وأمیر المؤمنین وفاطمة والحسن والحسین والأئمة من ذریتهم علیهما السلام فیقال له: هذا رسول الله وأمیر المؤمنین وفاطمة والحسن والحسین والأئمة علیهما السلام رفقاؤک، قال: فیفتح عینه فینظر فینادی روحه مناد من قبل رب العزة فیقول: یا أیتها النفس المطمئنة إلی محمد وأهل بیته أرجعی إلی ربک راضیة بالولایة مرضیة بالثواب فادخلی فی عبادی __ یعنی محمدا وأهل بیته __ وادخلی جنتی فما شیء أحب إلیه من استلال روحه واللحوق بالمنادی). وروی الشیخ الکلینی أیضا فی نفس المصدر ص133: (...عن عقبة أنه سمع أبا عبد الله علیه السلام یقول: إن الرجل إذا وقعت نفسه فی صدره یری، قلت: جعلت فداک وما یری؟ قال: یری رسول الله صلی الله علیه وآله فیقول له رسول الله صلی الله علیه وآله: أنا رسول الله أبشر ثم یری علی بن أبی طالب علیه السلام فیقول: أنا علی بن أبی طالب الذی کنت تحبه تحب أن أنفعک الیوم، قال: قلت له: أیکون أحد من الناس یری هذا ثم یرجع إلی الدنیا؟ قال: قال: لا...).

ص: 333

أما حضورهم عند الکافر والمعاند والناصب لهم العداوة والمخالف لهم فإن الأمر بالعکس، فإنه یراهم لیزداد سوءا إلی السوء الذی هو فیه، ولیعلم ان الذی قد کان یکذب به هو الحق، وأن لأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) سلطانا ومنزلة وولایة حتی علی ملک الموت وأعوانه، وان لهم القدرة علی أن ینفعوه لو کان ممن آمن وصدق واتبع، فتعظم حسرته ویزداد همه، ویدعو بالویل والثبور ویطلب الرجوع إلی عالم الدنیا لیؤمن ویتبع الحق فیمنع من ذلک، وعندئذ یوصی النبی الأعظم وباقی الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ملک الموت بان لا یرأف به ولا یرحمه ولا یشفق علیه، لأنه کان فی الدنیا لا یشفق علی أهل البیت ولا شیعتهم ولا یرحمهم ولا یرأف بحالهم، والیوم هو أول أیام الجزاء «إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»، ومن ورائهم عذاب عظیم).

ألیس فی هذه الأحادیث تشجیع للإنسان علی عدم العمل؟

محمد: (عندی سؤال آخر: ألا ترون أن فی هذه الأحادیث تشجیعاً للناس علی عدم العمل وأداء العبادات والاتکال علی تولی أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وحبهم؟ لأنک تقول إن کل من یحبهم یراهم وکل من یتولاهم یراهم وکل من یراهم یوصون به ملک الموت ویشفعون له عند الله فی تخفیف الموت والذهاب إلی الجنة).

ص: 334

خالد: (أنت لم تقرأ جمیع الأحادیث التی وردت فی مسألة حضورهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عند المیت قبل قبض روحه، لأنک لو قرأتها کاملة لانحل هذا الإشکال عندک، فالشیخ الصدوق قد روی عن الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) قوله: «... من أحبنا فلیعمل بعملنا ولیستعن بالورع، فإنه أفضل ما یستعان به فی أمر الدنیا والآخرة... تمسکوا بما أمرکم الله به فما بین أحدکم وبین أن یغتبط ویری ما یحب إلا أن یحضره رسول الله وما عند الله خیر وأبقی، وتأتیه البشارة من الله عز وجل فتقر عینه ویحب لقاء الله»(1).

فالروایة کما تری تؤکد علی عدم کفایة المحبة للنبی (صلی الله علیه و آله و سلم) ولأهل بیته (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) للنجاة من عذاب الله سبحانه، بل إن المحبة مشروطة بالعمل وبالتمسک بما أمر الله سبحانه من الواجبات والکف عن النواهی).

فاطمة: (وتوجد روایة أخری إضافة إلی التی ذکرتها یا خالی العزیز وردت فی کتاب المحاسن عن الإمام الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال لسدیر الصیرفی: «والذی بعث محمدا بالنبوة وعجل روحه إلی الجنة ما بین أحدکم وبین أن یغتبط ویری السرور أو تبین له الندامة والحسرة إلا أن یعاین ما قال الله عز وجل فی کتابه: «عَنِ الْیَمِینِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِیدٌ» وأتاه ملک الموت یقبض روحه فینادی روحه فتخرج من جسده، فأما المؤمن فما یحس بخروجها وذلک قول الله تبارک وتعالی « یَا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِی إلی رَبِّکِ رَاضِیَةً مَرْضِیَّةً * فَادْخُلِی فِی عِبَادِی * وَادْخُلِی جَنَّتِی» ثم قال: ذلک لمن کان ورعاً مواسیاً لإخوانه وصولاً لهم،


1- راجع الخصال للشیخ الصدوق ص614.

ص: 335

وإن کان غیر ورع ولا وصول لإخوانه قیل له: ما منعک من الورع والمواساة لإخوانک؟ أنت ممن انتحل المحبة بلسانه ولم یصدق ذلک بفعل، وإذا لقی رسول الله صلی الله علیه وآله وأمیر المؤمنین صلوات الله علیه لقیهما معرضین، مقطبین فی وجهه، غیر شافعین له...»(1).

ومن هذه الروایة یتضح أن مجرد تولی أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وحبهم لا یکفی للنجاة من العذاب الإلهی، وان من لم یکن ورعاً عاملاً مواسیا ً لإخوانه حضره رسول الله وأهل البیت وهم علیه ساخطون معاتبون معرضون، وبهذا ینتفی إشکال الأخ محمد)(2).


1- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقی ج1 ص177.
2- وهنالک روایات أخری کثیرة أکدت علی مسألة العمل وعدم الاکتفاء بإدعاء الولایة لأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) ومحبتهم منها ما عن جابر بن عبد الله عن أبی جعفر الباقر (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال له: (یا جابر أیکتفی من ینتحل التشیع أن یقول بحبنا أهل البیت، فوالله ما شیعتنا إلا من اتقی الله وأطاعه وما کانوا یعرفون یا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وکثرة ذکر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدین والتعاهد للجیران من الفقراء وأهل المسکنة والغارمین والأیتام وصدق الحدیث وتلاوة القرآن وکف الألسن عن الناس إلا من خیر، وکانوا أمناء عشائرهم فی الأشیاء. قال جابر: فقلت: یا ابن رسول الله ما نعرف الیوم أحدا بهذه الصفة، فقال: یا جابر لا تذهبن بک المذاهب حسب الرجل أن یقول: أحب علیا وأتولاه ثم لا یکون مع ذلک فعالا؟ فلو قال: إنی أحب رسول الله فرسول الله صلی الله علیه وآله خیر من علی علیه السلام ثم لا یتبع سیرته ولا یعمل بسنته ما نفعه حبه إیاه شیئا، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، لیس بین الله وبین أحد قرابة، أحب العباد إلی الله عز وجل وأکرمهم علیه أتقاهم وأعملهم بطاعته، یا جابر والله ما یتقرب إلی الله تبارک وتعالی إلا بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا علی الله لأحد من حجة، من کان لله مطیعا فهو لنا ولی ومن کان لله عاصیا فهو لنا عدو، وما تنال ولایتنا إلا بالعمل والورع).

ص: 336

خالد: (أحسنتم جمیعاً، والآن اسمحوا لی بالذهاب وتأجیل البحث إلی الغد، فإن کان عندکم أسئلة أجبنا علیها، وان لم یکن عندکم شیء انتقلنا إلی مسألة استشهادها (صلوات الله و سلامه علیها) وکیفیة الاستدلال بها علی أفضلیتها، فلا تنسوا البحث فی المکتبة وبذل الجهد لیکون بحثنا ذا قیمة وفائدة).

ودع الأصدقاء بعضهم بعضا وذهب کل واحد منهم إلی سبیله.

الحارس علی باب المنزل

ذهب أسامة للنوم سریعا، وفی صباح الیوم التالی استیقظ علی صوت أمه وهی تنادیه، نزل من غرفته وهو یفرک عینیه، بادرته والدته بالقول: (أخرج سریعاً وافتح الباب فالظاهر أن هنالک رجلاً علی الباب).

خرج أسامة من دون أن یرتب شعره أو یغسل وجهه، وآثار النوم واضحة علی وجهه، فتح الباب من دون ان یدقق فی وجه الرجل الواقف علی الباب وقال: (تفضل یا عم هل من خدمة؟).

فسمع صوتا لیس بغریب عنه وهو یقول: (أنت ثانیة، لو أعلم أن هذا بیتکم لما طرقت الباب، مع السلامة).

أدار الرجل بوجهه وانصرف حتی قبل أن یکمل کلامه. انتبه أسامة من سکر نومه فجأة وأسرع وراء الرجل وهو یقول: (لحظة یا عم، هل أستطیع مساعدتک؟ فقط انتظر رجاءً).

أدار الرجل برأسه نحو أسامة وإذا به حارس المکتبة،  تفاجأ أسامة للوهلة

ص: 337

الأولی ولکنه تبسم بوجه الحارس وقال: (أهلا بک یا عم تفضل إلی البیت شرفتنا).

کان الحارس یعلو وجهه الهم، والتعب ظاهر علی حرکات جسده، فأجاب بقوله: (أنا لم أطرق الباب لأدخل، فقط کنت أسأل عن بیت للإیجار، فقلت فی نفسی لعلکم تعلمون ان کان فی شارعکم بیت للإیجار أم لا).

أخذ أسامة بید الحارس وجذبه قائلا: (بالله علیک یا عم فلندخل الآن إلی البیت وسأغسل وجهی وأغیر ملابسی ومن ثم نخرج لنبحث معاً).

رفض الحارس أول الأمر ولکنه رضخ لتوسلات أسامة وإصراره، وقبل علی ان یجلس فی الحدیقة بینما یکمل أسامة تجهیز نفسه، فقبل أسامة ودخل وإیاه إلی الحدیقة وأجلسه علی الأرجوحة فی الظلال.

دخل أسامة لیتجهز بسرعة، وبعد عشر دقائق رجع إلی الحدیقة حاملاً معه کأساً من العصیر وقطعتین من الکیک، ولکنه شاهد الحارس من بعید ینظر إلی أشجار الحدیقة ویحرک رأسه یمیناً وشمالاً کهیئة الغضبان، وبین الحین والآخر یحرک یده الیمنی کالمستهزئ.

وصل أسامة ووضع العصیر أمام الحارس وما کاد یجلس حتی انفجر الحارس بالکلام قائلا: (هل تسمون هذه حدیقة؟ کیف تطیب أنفسکم بالجلوس فی هذه الفوضی؟ ألا ترون هذه الحشائش الضارة وهی عالقة علی سیقان الأشجار، وهذه الغصون الطویلة، وهذه الحشرات الناعمة علی الأوراق؟ حدیقتکم تحتضر یا أستاذ، وهذه الأشجار المسکینة تعانی حتی الموت).

قال الحارس هذه الکلمات ثم سکت وأنزل رأسه إلی الأرض وجذب

ص: 338

حسرة کأنه تذکر شیئاً مؤلماً، فأراد أسامة أن یخفف عنه فقال: (کل ما تقوله صحیح، فأنا وأبی لیس لنا الخبرة ولا الوقت لإصلاح الحدیقة وترتیبها، وسنحاول ذلک فی الأیام القلیلة القادمة، والآن تفضل واشرب هذا العصیر لتروی عطشک ویزول تعبک).

رفع الحارس رأسه وفی عینیه دمعة حبیسة تأبی الخروج، وأخذ الکوب من دون أن ینظر إلی أسامة وارتشف من الکأس رشفة لکنه عاد منکساً رأسه مرة أخری وتنهد بقوة، فقال له أسامة: (ما بک یا عم؟ هل أستطیع مساعدتک؟ أخبرنی وعُدَّنی کولدک الصغیر، وإنی أقسم أن أبذل قصاری جهدی لخدمتک).

رفع الحارس رأسه ونظر إلی أسامة وابتسم، وکانت هذه المرة الأولی التی یبتسم فیها لأسامة وقال: (أتعلم کان لی تجاهک موقفٌ سلبیٌّ وکنت أری بأنک ولد شریر، ولکن کلامک هذا وحسن خلقک جعلنی أغیر رأیی فیک، وأنا الآن أعتقد بأنک ولد صالح، ولکن ماذا یمکنک أن تعمل فالقضیة أکبر منک ومنی).

ابتسم أسامة وقال: (أشکر حسن ظنک یا عم، وصدقنی أنا لست بشریر، وبالنسبة للموضوع الذی یؤلمک أخبرنی به ولن تندم، فلعل سنی صغیر ولکنی واسع الحیلة وأستطیع أن أنجز ما لا یستطیع إنجازه کثیر من الرجال).

فقال الحارس وهو یسرح بفکره بعیداً: (کنت شاباً فی الخامسة والعشرین من عمری حینما تزوجت، ولم تمض سنتان حتی رزقنا بفتاة، کنت أعمل نجارا، وکانت حیاتی مستقرة جداً، وأحوالی المادیة جیدة جداً، وما هی إلا سنتان أخیرتان حتی رزقنا بفتاة ثانیة ومن بعدها فتاة ثالثة أخری، کنت راضیاًً بما قسم لی

ص: 339

الله سبحانه، وسعیدا بوجود هذه الفتیات، فقد کنَّ أغلی ما فی حیاتی ووجودی.

الا ان الحیاة لا تسیر علی وفق ما یخطط له الإنسان ویریده، فبدأت الضغوطات تشتد علی من کل اتجاه وبالخصوص من والدتی رحمها الله کی أتزوج مرة أخری عسی أن أرزق بولد ذکر، یحمل اسمی، وأشد به ظهری حینما یکبر سنی، کنت أرفض هذه الفکرة بشدة وأقاوم أشد المقاومة، لأنی لم أکن أری ضرورة لهذه الخطوة، هذا أولا.

وثانیا کنت أقول لهم: من یقول إن المرأة الثانیة ستنجب لی ذکراً، ثم إن الله سبحانه إذا أراد أن یرزقنی بذکر فبإمکانه أن یرزقنی من زوجتی هذه، وکم من مرة حاولت أن أفهم أولئک المصرین علی زواجی الثانی بهذه الأمور ولکن بلا جدوی.

استمرت مشاکلی ومعاناتی إلی أن بلغت حداً اضطرتنی إلی الرحیل من بیت أهلی، فاستأجرت بیتا فی محلة أخری عسی أن یکون البعد عنهم علاجاً لمشکلتی، وما هی إلا عدة أشهر حتی توفیت والدتی، وبدأت بعدها معاناة أخری من معاناتی، فإخوتی وأخواتی ألقوا لوم موتها علی، وکل عذرهم أنها ماتت بسبب رفضک للزواج وخروجک من البیت.

فنشبت بینی وبینهم حرب ضروس، کنت انا الخاسر فیها، لأنهم جمع وأنا واحد، ولأنهم لا یتورعون عن الکذب والاتهام وأنا لم أکن أقبل بأن یخرج من فمی تهمة أو إساءة بحقهم، فمنعونی إرث أبی وأمی، واغتصبوا کل حقوقی، وقد بلغ مقدار حربهم أن ذهبوا إلی صاحب الدکان الذی کنت أعمل به فهددوه حتی

ص: 340

أخرجنی منه بحجة انه لا یرید المشاکل، فأحسست بعدها أن الأرض قد ضاقت علی بما رحبت، وان البقاء فی هذا البلد قد صار مستحیلاً، فشددت الرحال أنا وزوجتی وبناتی الثلاثة، وانتقلنا إلی بلد آخر.

استطعت خلال مدّة قصیرة أن أجد عملاً وأن أؤجر بیتاً للسکنی، وبدأت أموری تسیر بشکل أفضل، وما هی إلا سنة إلا ورزقنا الله سبحانه بولد ذکر أسمیناه علیاً، فمسح عن حیاتنا الکدورة التی غطتها لمدّة طویلة، فکان کلما یکبر تکبر معه فرحتنا، وقد أخذ من قلوبنا کلنا مأخذاً عظیماً، فقد کنا نضحک إذا ضحک ونمرض إذا مرض، لأنه کان یمتلک تأثیراً خاصاً فی کل من یحیط به وبالخصوص أخواته البنات، فلم تکن الواحدة منهن تأکل أو تنام حتی یأکل أخوها علی وینام.

واستمرت حیاتنا بالتطور نحو الأحسن فالأحسن حتی استطعنا أن نشتری بیتاً، وصرت صاحب دکان مستقل، وکبر الأولاد وذهب بعضهم إلی المدرسة، وانتقلنا من حسن إلی أحسن، حتی تیقنت بأن الأمور ستبقی هکذا إلی آخر العمر، ولکن جرت الریاح بما لا تشتهی السفن).

أکمل الحارس کلماته هذه وأجهش بالبکاء، کان یبکی بحرقة وألم، حاول أسامة أن یخفف عنه، ولکنه أصر علی أن یکمل کلامه فقال: (رجعت إلی البیت فی یوم من الأیام، فوجدت أم علی تبکی بصوت عال، فهرعت مسرعا إلی الغرفة لأری الخبر، سألتها فلم تجب، سألتها ثانیة واستحلفتها، فقالت کنت فی البیت أعمل کالمعتاد، وکان علی معی، طرقت الباب فقلت لعلی: افتح الباب وانظر من

ص: 341

الطارق، فتح الباب ثم رجع مسرعا وهو یقول: هنالک رجل یریدک یا أمی، خرجت وإذا برجل طاعن بالسن، یحمل بیده عصا طویلة یتوکأ علیها، فطلب طعاماً لیأکل، رجعت لآتی له بطعام، وفی الأثناء سمعته یتکلم مع علی بکلام لم أفهمه بسبب بعدی عنهما، وما هی إلا دقائق حتی رجعت إلیه ومعی کمیة من الطعام، ولکنی تفاجأت بأنه قد ذهب.

أدخلت علیّاً إلی البیت ودخلت، فسألته: أین ذهب الرجل؟ فقال: ذهب من هناک وأشار بیده نحو المسجد، فقلت له: وماذا کان یقول لک؟ فقال: أخبرنی بأنی سأموت، وقال لی إنک من أبناء الآخرة ولیس من أبناء الدنیا، فقلت له: اُسکت ما هذا الکلام؟ وکیف تکذب؟ فحلف بالله انه لمن الصادقین، وان هذا هو الذی جری بینه وبین ذلک السائل، فصعقت حینها وتألمت وقلت فی نفسی ماذا لو کان هذا صحیحاً، وأخذت أتصور کیف ستکون حیاتی فیما لو حدث أی مکروه علی ولدی، وها أنا أبکِ منذ ذلک الحین.

فضحکت أنا وقلت لها: وهل هذا الرجل هو ملک الموت حتی یعلم من هو من أبناء الآخرة ومن هو من أبناء الدنیا؟! فهذه المسائل لا یعلمها إلا الله سبحانه، ومن المحتوم أنّ علیّاً قد سمع الکلام بشکل خاطئ، وبقیت أتکلم معها حتی سکتت عن البکاء وهدأت.

 مرت أیام وأم علی تتذکر کلام ذلک السائل وتبکی، فإذا رأتنی سکتت ومسحت دموعها، وکم من مرة حاولت منعها فلم أفلح، ولکن الزمن کان کفیلا بإنسائها الأمر، فکلما مر شهر نسیت ذلک الرجل السائل أکثر، وبدأت تتیقن بأن

ص: 342

الأمر کان مجرد توهم من قبل ولدنا علی.

وبعد مرور سنة تقریباً خرج علی مع أخته الکبیرة لیشتری من البقال الذی فی رأس الشارع، فاشتری لنفسه قطعتین من الحلوی المدورة، فقال لأخته سأبقی واحدة لأمی وآکل الثانیة.

وضع القطعة الأولی فی فمه ومن ثم رکض نحو البیت لیعطی الثانیة لوالدته، وبینما هو یرکض تعثر بحجر کان علی الأرض، فدخلت قطعة الحلوی التی کانت فی فمه فی المجری التنفسی ولم یعد یستطیع التنفس، فلا صوته یخرج لیستغیث ولا نفس یصله لیعیش، وما ان وصلت إلیه أخته ورأته بهذه الحال حتی هرعت إلی أمها تستنجدها وتستصرخها، فخرجت أمه مشدوهة صارخة ترکض نحوه بخطوات متعثرة ولکنها وصلت بعد فوات الأوان، کان علی مرمیاً علی وجهه لا یتحرک ولا یتنفس وقد تبدل لون وجهه من شدة الاختناق).

کان الحارس یتکلم وعیناه کأنهما غیمة وکأن دموعه المطر، ثم أکمل کلامه قائلاً: (لیت ان الأمر توقف عند هذا الحد، فأخته قد نقلت لأمه کلماته الأخیرة، وانه کان یرکض لیوصل لها الحلوی التی أذخرها لها، وکیف انه کان یرکض بلهفة، وهذا کان یزید من حرقة قلبها علیه وتحسرها لفراقه، وما ان اکتملت أیام عزائه حتی رقدت والدته فی الفراش لا یعرف لها دواء، وبقینا ننتقل بها من طبیب إلی آخر، إلی أن اکتشفنا أن کبدها قد أصیب بمرض خبیث من أثر الصدمة وهول المصیبة.

بقیت تعانی سنتین ونصفاً بعنا خلالها البیت الذی نسکن فیه لغرض توفیر

ص: 343

مبالغ الدواء ومستلزمات العلاج لها، وترکت العمل وجلست أرعاها وأرعی بقیة بناتی، لان أخوتی وأخواتی وعلی رغم کل هذه المآسی کانوا کالمتفرج بل کالشامت بما یجری علی، وفی لیلة شتاء عاصف خرجت روح زوجتی والتحقت ببارئها، فاسودت الدنیا بعینی وصرت بفقدها وفقد ولدی علی مکسور الجناحین.

فقررت بعدها أن أرحل عن هذه البلدة التی نحن فیها إلی مکان آخر، لأن کل شبر فیها کان یذکرنی ویذکر بناتی بأمهم وأخیهم علی، ویذکرنا بالآلام التی عشناها، فانتقلت إلی بلدتکم هذه، وعملت بأجرة یومیة ولسنوات عدیدة، کیما أستطیع إطعام وتربیة بناتی الثلاثة، ولم أستطع بعد أم علی ان أشتری بیتا، بل ولم أشبع من طعام إلی یومی هذا، وکل ما أتقاضاه یذهب إلی الإیجار وکسوة وإطعام بناتی الثلاثة اللاتی لم تتزوج أی واحدة منهن إلی الآن.

والآن وبعد أن کبر سنی ودق عظمی لم أعد أستطیع العمل فی النجارة کالسابق، وقامت أمینة المکتبة جزاها الله خیرا بتوظیفی کحارس فی المکتبة لأنها جارتنا وتعلم بوضعنا الصعب، والیوم صاحب البیت قرر بیعه فأخبرنی أن أبحث عن مکان آخر، وهأنا ومنذ أسبوع أبحث عن بیت للإیجار ولکن من دون جدوی).

حاول أسامة ان یخفف عن الحارس ألمه قائلاً: (رحم الله ولدکم علیّاً وأمه، وان شاء الله ستنتهی هذه المعاناة عن قریب، وکلنا أولادک وأهلک، ومسألة البیت سهلة إن شاء الله وسأجد لک ما یریحک ویناسبک إن شاء الله، وما علیک الآن یا عم إلا أن تذهب إلی البیت وترتاح وتترک الباقی علی، وسأبحث لک عن بیت فی

ص: 344

شارعنا وبقیة الشوارع المحیطة بنا، وسأخبرکم حینما أجد ما یناسبکم إن شاء الله).

فأجابه الحارس: (الأحسن ان أبقی معک ونبحث معاً).

فقال له أسامة: (أنت تعبان یا عم وتحتاج إلی راحة، والأفضل ان تذهب للبیت وترتاح، وصدقنی سوف لن أقصر فی البحث، وسأبحث وکأنک معی، اطمئن، وإذا کنت مصراً علی فعل شیء فأتمنی ان تصلی صلاة الاستغاثة بالسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، وتقرأ زیارة عاشوراء بنیة تسهیل أمرک وإیجاد ما یریحک).

اقتنع الحارس بالذهاب إلی البیت لأنه کان بحاجة إلی الراحة فعلاً، وبحاجة إلی أن یشکو أمره لله سبحانه ویتوسل بالأسباب التی وضعها الله سبحانه لخلقه(1)،


1- قال سبحانه فی سورة المائدة الآیة رقم 35: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ وَجَاهِدُوا فِی سَبِیلِهِ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ). ویقول السید الطباطبائی فی تفسیر المیزان: )ومن یستشفع بأهل الشفاعة الذین ذکرهم الله فی مثل قوله: «ولا یملک الذین یدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم یعلمون ) وقوله: «ولا یشفعون إلا لمن ارتضی». أو یسأل الله بجاههم ویقسمه بحقهم الذی جعله لهم علیه بمثل قوله مطلقا: «ولقد سبقت کلمتنا لعبادنا المرسلین إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون». قوله: «إنا لننصر رسلنا والذین آمنوا». أو یعظمهم ویظهر حبهم بزیارة قبورهم وتقبیلها والتبرک بتربتهم بما أنهم آیات الله وشعائره تمسکا بمثل قوله تعالی: «ومن یعظم شعائر الله فإنها من تقوی القلوب». وآیة القربی وغیر ذلک من کتاب وسنة. فهو فی جمیع ذلک یبتغی بهم إلی الله الوسیلة وقد قال تعالی: «یا أیها الذین آمنوا اتقوا الله وابتغوا إلیه الوسیلة» فشرع به ابتغاء الوسیلة وجعلهم بما شرع من حبهم وتعزیزهم وتعظیمهم وسائل إلیه، ولا معنی لإیجاب حب شیء وتعظیمه وتحریم آثار ذلک فلا مانع من التقرب إلی الله بحبهم وتعظیم أمرهم وما لذلک من الآثار إذا کان علی وجه التوسل والاستشفاع من غیر أن یعطوا استقلال التأثیر والعبادة البتة).

ص: 345

ولأن الحماس الذی أبداه أسامة فی کلامه جعله یطمئن، فخرج من بیت أسامة إلی بیته مباشرة، وخرج معه أسامة وافترقا لیذهب کل واحد منهما إلی وجهته.

رجع أسامة إلی البیت حال سماعه أذان الظهر لیصلی ویرتاح لأن رجلیه قد تعبتا من کثرة المشی، ولان الجوع قد غلبه، وفی الأثناء أخبر أمه بقصة الحارس وما جری علیه من المصائب وما یعیشه من ظرف صعب ووضع مادی حرج، فقالت له أمه: (ولماذا لم تخبرنی قبل أن تخرج، فجارنا أبو عادل یرید أن یذهب إلی لندن بعد شهرین لإکمال دراسته، ویرید أن یأخذ معه زوجته وطفلیه، وبما انه صدیق أبیک فقد أخبره بأن یبحث عن شخص من أقربائه یکون أمینا لیجلسه فی البیت حال غیابه لیرعی له البیت ویحافظ علیه، ولو ان أباک تدخل وتکلم معه فانه سیقبل ببقاء الحارس فی البیت طول مدة غیابه، ولکن یجب ان نطمئن من وثاقته وأمانته، لأنه سیأتی عن طریقنا وأی تصرف سیتصرفه سیکون محسوباً علینا).

فأجابها أسامة والسرور یغمره: (لا أصدق هذا، والله یا أماه ستدخلین الجنة إذا أتممتِ هذا الموضوع واستطعتِ أن تقنعی والدی بأن یکلم أبا عادل، وأما أمانته ووثاقته فأنا أضمنها، وباستطاعتکِ سؤال أمینة المکتبة فهی جیرانه منذ زمن طویل، أرجوکِ یا أمی ساعدیه).

فقالت أمه: (سأتکلم مع أبیک حال حضوره للمنزل وسأحثه علی أن یذهب إلی أبی عادل بعد العشاء وسنری).

جاء اللیل ووصل أبو أسامة إلی داره، وارتاح وصلی وتعشی، ففاتحته أم أسامة بموضوع الحارس وترجته بالذهاب إلی أبی عادل لمفاتحته بالموضوع،

ص: 346

فذهب أبو أسامة والتقی بأبی عادل وبعد السلام والسؤال عن الأحوال أخبره بقصة الحارس وحاجته إلی مکان للسکن وترجاه بأن یسکن فی بیته إلی حین عودته من سفره، فقال أبو عادل: (فی الحقیقة طلبک علی العین والرأس، وأنا بحکم علاقتی بک لا أستطیع ان أرد لک طلباً، ولکنی مع ذلک لا أستطیع أن أترک صاحبکم یسکن فی البیت لأسباب خاصة کثیرة، ولکن عندی مشتمل صغیر فی الحدیقة وله مسلک مستقل إلی الخارج وبإمکانهم البقاء فیه حتی فی أثناء وجودی وبإمکانه من الغد الانتقال إلیه، ولکن بشرط أن یحافظ علی البیت فی غیابی ویحافظ علی الحدیقة ویرعاها کی لا تموت الأشجار حال غیابی).

رجع أبو أسامة إلی البیت وأخبرهم بما قاله أبو عادل، ففرح أسامة أشد الفرح، لان الله سبحانه سهل لهذا الرجل المسکین أمر السکن وکفاه مؤونة الإیجار ببرکة التوسل بالسیدة الزهراء وباقی المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، وقرر أن ینطلق إلیه صباحاً لیزف له البشری.

نظر أسامة إلی الساعة فرآها قریبة من التاسعة، فاستأذن أباه وأمه وصعد إلی غرفته لیبدأ والباقون حوارهم المعتاد.

ص: 347

الدلیل الثانی والعشرون: استشهادها علیها السلام فی سبیل الله سبحانه

اشارة

اجتمع الأصدقاء، وبعد السؤال عن الأحوال والأخبار کتب خالد: (هل لدیکم سؤال حول مسألة حضورها (صلوات الله و سلامه علیها) عند الأموات ساعة الاحتضار أو ننتقل إلی بحث جدید؟).

فأجاب الجمیع بالنفی، فقال خالد: (حسناً، الآن أخبرونی ماذا وجدتم فی مسألة استشهادها (صلوات الله و سلامه علیها)؟).

فاطمة: (وجدت أن الإجماع قائم عند علماء الشیعة علی أنها (صلوات الله و سلامه علیها) ماتت شهیدة، وقد عدّ شیخ الطائفة الطوسی (رضوان الله تعالی علیه) أن خبر استشهادها علی ید عمر بن الخطاب مما اشتهر ولا خلاف فیه بین الشیعة، وحکم علی روایات استشهادها بالاستفاضة(1).


1- قال شیخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسی (قدس الله روحه) فی تلخیص الشافی ج3 ص156: (ومما أنکر علیه __ أی علی عمر بن الخطاب __: ضربهم لفاطمة علیها السلام. وقد روی أنهم ضربوها بالسیاط. والمشهور الذی لا خلاف فیه بین الشیعة: أن عمر ضرب علی بطنها حتی أسقطت، فسمی السقط محسنا، والروایة بذلک مشهورة عندهم. وما أرادوا من إحراق البیت علیها، حین التجأ إلیها قوم، وامتنعوا من بیعته. ولیس لأحد أن ینکر الروایة بذلک، لأنا قد بینا الروایة الواردة من جهة العامة، من طریق البلاذری، وغیره وروایة الشیعة مستفیضة به، لا یختلفون فی ذلک).

ص: 348

اما المولی محمد باقر المجلسی (رضوان الله تعالی علیه) فقد حکم علی أخبار استشهادها بالتواتر، ولکنه أرجع سبب استشهادها إلی ضرب قنفذ غلام عمر __ بأمره __ الباب علی بطن فاطمة، فکسر جنبها، وأسقط لذلک جنینا کان سماه رسول الله محسنا، وذلک فی معرض تعلیقه علی حدیث عن الإمام موسی بن جعفر (صلوات الله و سلامه علیهما) قال فیه: «ان فاطمة علیها السلام صدیقة شهیدة»(1).

وقد علق المولی محمد صالح المازندرانی (رضوان الله تعالی علیه) علی هذا الحدیث أیضا قائلا: «والشهید من قتل من المسلمین فی معرکة القتال المأمور به شرعا، ثم اتسع فأطلق علی کل من قتل منهم ظلما کفاطمة علیها السلام إذ قتلوها بضرب الباب علی بطنها وهی حامل فسقط حملها فماتت لذلک»(2).

کما أن الشیخ المفید (رضوان الله تعالی علیه) ذکر فی کتابه الاختصاص أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بقیت بعد استشهاد أبیها (صلی الله علیه و آله و سلم) خمسة وسبعین یوما مریضة بسبب


1- وقال العلامة المجلسی (قدس الله روحه) فی تعلیقه علی الخبر السابق: (ثم إن هذا الخبر یدل علی أن فاطمة صلوات الله علیها کانت شهیدة، وهو من المتواترات. وکان سبب ذلک: أنهم لما غصبوا الخلافة، وبایعهم أکثر الناس بعثوا إلی أمیر المؤمنین لیحضر للبیعة، فأبی. فبعث عمر بنار لیحرق علی أهل البیت بیتهم، وأرادوا الدخول علیه قهرا، فمنعتهم فاطمة عند الباب، فضرب قنفذ غلام عمر الباب علی بطن فاطمة، فکسر جنبها، وأسقط لذلک جنینا کان سماه رسول الله محسنا. فمرضت لذلک، وتوفیت صلوات الله علیها فی ذلک المرض).
2- شرح أصول الکافی ج7 ص 213.

ص: 349

ضرب عمر بن الخطاب لها(1)).

محمد: (کل الذی قدمته الأخت فاطمة هو أقوال للعلماء لا غیر، فأین الروایات؟ لأننا اعتدنا علی الاستدلال بالأحادیث أولا وکلام العلماء یأتی بالمرتبة الثانیة).

خالد: (مثلما أن الروایة حجة فی إثبات الحدث التاریخی کذلک الإجماع والشهرة والاستفاضة حجة أیضا، وقد ذکرنا سابقاً أن الإجماع مصدر من مصادر التشریع عند الإمامیة، وان القول المجمع علیه یمتلک من القوة والشرعیة مثل ما للروایة الصحیحة من القوة والشرعیة، وبالخصوص اذا کان القول المجمع علیه ممتداً لقرون طویلة منذ زمن الأئمة وإلی یومنا هذا، فمثل هذا الإجماع یکون وبلا أدنی شک کاشفاً عن رأی المعصوم قطعاً.

وعلیه فلو فرضنا اننا لا نملک روایة فی هذا الشأن فإن إجماع الطائفة کافٍ لإثبات استشهادها وما جری علیها من الویلات والطامات علی أیدی زعماء السلطة وکبار الصحابة.

الا اننا ومع هذا الإجماع القوی توجد عندنا روایات تحکی فصول الجریمة وتروی عظیم الفاجعة، وبهذا التقریب للمسالة تصبح مسألة استشهادها (صلوات الله و سلامه علیها) وما جری علیها من ضروریات المذهب الحق(2)، ومنکرها خارج عن طریقة


1- قال الشیخ المفید فی الاختصاص ص185: (فمضت ومکثت خمسة وسبعین یوما مریضة مما ضربها عمر).
2- لان دلیلها الروایات المستفیضة من طرق الشیعة والمخالفین علی حد سواء، وإجماع الطائفة الإمامیة منذ زمن استشهادها (صلوات الله و سلامه علیها) والی یوم الناس هذا کما سیأتی لاحقا.

ص: 350

المذهب الاثنی عشری(1)).

فاطمة: (یظهر أن الأخ محمداً لم یرکز جیداً فی کلامی، لأنی فی الأثناء نقلت روایة قد نقلها الشیخ الکلینی فی الکافی: «عن محمد بن یحیی(2)، عن العمرکی بن علی(3)، عن علی بن جعفر(4) عن أخیه أبی الحسن __ الإمام الکاظم __ علیه السلام قال: إن فاطمة علیها السلام صدیقة شهیدة...»(5)، وهی روایة صحیحة، وقد صرح المولی محمد تقی المجلسی بصحتها(6)).

محمد: (عندی سؤالان أحدهما للأخ خالد والآخر لأختنا فاطمة، والأول هو: من أین علمت أن أحداث استشهاد السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) تمتد من زمن


1- لذلک عدّ المرجع المیرزا جواد التبریزی إنکار السید محمد حسین فضل الله لکسر ضلع السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) واستشهادها علی ید عمر بن الخطاب وإسقاط جنینها وغیر ذلک عدّه خروجا عن المسلمات وضروریات المذهب الحق وان قائلها خارج طریقة المذهب الاثنی عشری. (راجع کتاب الحوزة العلمیة تدین الانحراف القسم الثالث وثیقة رقم 12)
2- وهو محمد بن یحیی أبو جعفر العطار أحد مشایخ الکلینی، قال عنه النجاشی فی رجاله ص353: (محمد بن یحیی أبو جعفر العطار القمی، شیخ أصحابنا فی زمانه، ثقة، عین، کثیر الحدیث) ووثاقته متفق علیها.
3- وهو کما ترجم له النجاشی فی رجاله ص303 بقوله: (العمرکی بن علی أبو محمد البوفکی وبوفک قریة من قری نیشابور.  شیخ من أصحابنا، ثقة، روی عنه شیوخ أصحابنا).
4- قال الشیخ الطوسی فی الفهرست ص151: (علی بن جعفر، أخو موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب علیهم السلام، جلیل القدر، ثقة).
5- الکافی للشیخ الکلینی ج1 ص458، باب مولد الزهراء علیها السلام الحدیث رقم 2.
6- راجع روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه ج5 ص342.

ص: 351

الأئمة والی یومنا هذا، وعلی فرض امتدادها فمن أین علمت ان ذلک کاشف عن رأی المعصوم؟

والسؤال الثانی: ان الذی قدمته لنا الأخت فاطمة هو مجرد إثبات شهادتها (صلوات الله و سلامه علیها)، أما کیفیة الشهادة وعلی یدی من استشهدت فهذا ما لم تذکره لنا الروایة الصحیحة التی استدلت بها أختنا فاطمة).

خالد: (عن طریق التتبع علمت أن خبر استشهادها والظلم الذی وقع علیها ممتد من زمن الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) والی یوم الناس هذا ، فکتب الشیعة والمخالفین طفحت واستفاضت بهذا الأمر منذ صدر الإسلام الأول والی الیوم.

فجمیع الکتب الشیعیة التی عنیت بأخبار السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، وکل من ترجم لها، وألف کتاباً فیها، أطبقت کلمتهم تقریباً أو تحقیقاً، علی أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وبعد استشهاد أبیها (صلی الله علیه و آله و سلم)، ضرب الظالمون خدها، حتی احمرت عینها، وتناثر قرطها، وعصرت بالباب حتی کسر ضلعها، وأسقطت جنینها، وماتت وفی عضدها کالدملج.

ولم یکن هذا حال المؤلفین والمصنفین وحدهم، فشعراء أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) قد أخذوا هذه القضایا والرزایا ونظموها فی أشعارهم ومراثیهم، وأرسلوها إرسال المسلمات، ابتداءً من الکمیت والسید الحمیری، ودعبل الخزاعی، والنمیری، والسلامی والی عصرنا الحالی(1)، هذا فیما یخص اشتهار ما


1- هذا الرد مستفاد من قول الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء فی کتابه جنة المأوی ص78 __ 81 حیث یقول: (طفحت واستفاضت کتب الشیعة، من صدر الإسلام والقرن الأول، مثل کتاب سلیم ابن قیس، ومن بعده إلی القرن الحادی عشر وما بعده بل وإلی یومنا هذا، کل کتب الشیعة التی عنیت بأحوال الأئمة، وأبیهم الآیة الکبری، وأمهم الصدیقة الزهراء صلوات الله علیهم أجمعین، وکل من ترجم لهم، وألف کتابا فیهم، وأطبقت کلمتهم تقریبا أو تحقیقا فی ذکر مصائب تلک البضعة الطاهرة، أنها بعد رحلة أبیها المصطفی (صلی الله علیه و آله و سلم) ضرب الظالمون وجهها، ولطموا خدها، حتی احمرت عینها وتناثر قرطها، وعصرت بالباب حتی کسر ضلعها، وأسقطت جنینها، وماتت وفی عضدها کالدملج. ثم أخذ شعراء أهل البیت سلام الله علیهم هذه القضایا والرزایا ونظموها فی أشعارهم ومراثیهم، وأرسلوها إرسال المسلمات: منهم الکمیت والسید الحمیری، ودعبل الخزاعی، والنمیری، والسلامی، ودیک الجن، ومن بعدهم، ومن قبلهم إلی هذا العصر. وتوسع أعاظم شعراء الشیعة فی القرن الثالث عشر، والرابع عشر، الذی نحن فیه، کالخطی، والکعبی، والکوازین، وآل السید مهدی الحلیین، وغیرهم ممن یعسر تعدادهم، ویفوق الحصر جمعهم وآحادهم. وکل تلک الفجائع والفظائع، وإن کانت فی غایة الفظاعة والشناعة، ومن موجبات الوحشة والدهشة، ولکن یمکن للعقل أن یجوزها، وللأذهان والوجدان أن تستسیغها، وللأفکار أن تقبلها، وتهضمها، ولاسیما وأن القوم قد اقترفوا فی قضیة الخلافة، وغصب المنصب الإلهی من أهله ما یعد أعظم وأفظع).

ص: 352

جری علی السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) منذ زمن الأئمة الأطهار والی وقتنا هذا.

أما کون هذه الشهرة والاستفاضة کاشفة عن رأی المعصوم ورضاه،(1) فلأن السلوک الاجتماعی الذی یمارسه العقلاء بما هم عقلاء فی عصر النبی أو الإمام ان سکت عنه المعصوم ولم یردع فذلک دلیل علی الإمضاء والمشروعیة.

لأن المعصوم من واجبه تربیة الأمة وتعلیمها وعدم القبول بأی انحراف فقهی أو عقائدی تمارسه الأمة علی مستوی عقلائها أو متشرعیها.

وعلیه فحینما نری المحدثین والعلماء والشعراء قد أجمعت کلمتهم علی ان


1- ولو من طریق عدم الردع فیما یمکنه الردع عنه مع اطلاعه علیه.

ص: 353

السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) قد استشهدت وظلمت وضربت وماتت وهی مکسورة الضلع، فلابد ان یکون المعصوم عالماً بإجماع هؤلاء العقلاء والمتشرعة، وعلمه بأقوالهم وأفعالهم وما یعتقدونه، وسکوته عنهم وعدم ردعهم وزجرهم عن هذه الأقوال والاعتقادات کافٍ لإثبات رضاه بما یقولون، وإمضائه لما یعتقدون، وإلا لو لم یکن راضیاً لردعهم وزجرهم عملاً بوظیفته الشرعیة کإمام.

طبعا کل هذا الکلام فیما لو لم یکن هنالک روایات عن أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) تحکی عظیم الفاجعة وألیم المصاب، لکن مصنفات علماء الشیعة (رضوان الله تعالی علیهم) احتفظت لنا بعشرات بل بمئات الروایات التی نقلت تلک المأساة بجمیع تفاصیلها، وبکل حیثیاتها وملابساتها، وأنا أنصحک بأن تقرأ کتاب «الهجوم علی بیت فاطمة»(1)، وهو کتاب موجود علی صفحات الانترنت، وبإمکان أی واحد ان یحمله ویقرأه، فقد ذکر فیه المؤلف قصة استشهادها من عشرات المصادر للمخالفین، وبإقرار عشرات من علمائهم، کما ونقل فیه استفاضة أحادیث وروایات استشهادها وما جری علیها منذ العصر الأول والی یومنا هذا).

  فاطمة: (وأما عن السؤال المتعلق بی فقد أجاب عنه خالی العزیز، وبإمکانک أن ترجع إلی الکتاب المذکور لتری عشرات الروایات المتعلقة بهذا الأمر).

خالد: (ما لنا لا نسمع الیوم لأسامة صوتاً؟! فهل هو معنا أم أنه یغط فی نوم عمیق؟).

أسامة: (أنا متابع للحوار اطمئن أخی خالد، لکن لم تکن لدی فرصة


1- لمؤلفه عبد الزهراء مهدی.

ص: 354

للکلام، فمحمد ما شاء الله یخرج من إشکال ویدخل فی إشکال آخر).

خالد: (وهل لدیک إضافات أخری علی ما قلته انا وقالته فاطمة؟).

أسامة: (علی رغم انشغالی الیوم، وعلی رغم أنی لم أستطع الذهاب إلی المکتبة، إلا أنی استخرجت بعض الأوراق التی کنت قد دوّنتها أیام کنا نتناقش أنا وأنت مع ذلک الأستاذ فی الدورة الصیفیة فی المسجد، فقد کنت دونت حینها ان کثیراً من الزیارات المرویة عن أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) قد ذکرت أنها شهیدة، منها ما ذکره الشیخ الصدوق (رضوان الله تعالی علیه)  فی کتابه من لا یحضره الفقیه(1).

وکذلک فعل العلامة المجلسی فی البحار(2)، اما روایة المزار فقد ذکر فیها تفاصیل أخری فوق وصفها بالشهادة فقد ذکرت مسألة منع السیدة الزهراء من الإرث ودفعها عن حقها ورد شهادتها وغیر ذلک(3).


1- ج 2 ص573 زیارة لها (صلوات الله و سلامه علیها) ننقل منها محل الشاهد: (السلام علیک یا أم الحسن والحسین سیدی شباب أهل الجنة، السلام علیک أیتها الصدیقة الشهیدة، السلام علیک أیتها الرضیة المرضیة السلام علیک أیتها الفاضلة الزکیة...).
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج99 ص220 الباب التاسع زیارتهم علیهم السلام فی أیام الأسبوع والصلاة علیهم مفصلا: (اللهم صل علی السیدة المفقودة، والکریمة المحمودة، والشهیدة العالیة).
3- ذکر الشیخ المفید فی المزار ص 179 مختصر زیارة أخری لها (صلوات الله و سلامه علیها) قال: (فإذا أردت زیارتها فقف بالروضة وقل: السلام علیک یا رسول الله صلی الله علیه وآله، السلام علی ابنتک الصدیقة الطاهرة السلام علیک یا فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله  یا سیدة نساء العالمین أیتها البتول الشهیدة الطاهرة، لعن الله مانعک إرثک ودافعک عن حقک والراد علیک قولک لعن الله أشیاعهم وأتباعهم وألحقهم بدرک الجحیم صلی الله علیک وعلی أبیک وبعلک وولدک الأئمة الراشدین وعلیهم السلام ورحمة الله وبرکاته).

ص: 355

ومن هذه الزیارات یتضح بأن الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) لم یکتفوا بإمضاء ما کان یقوله الشعراء من ذکر استشهاد السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) ومظلومیتها، وما کانت تعتقده عموم الشیعة علماؤها وعوامها فی هذه المسالة، ولم یکتفوا أیضا بالتصریح بهذه المأساة عن طریق الروایات الکثیرة، حتی أودعوا ذلک اللقب وما جری علیها من المآسی فی بطون الزیارات.

ولعل تکرار ذکر هذه المآسی فی الزیارات الشریفة یرجع إلی ان الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) أرادوا ان تخلد هذه المأساة وتذکر علی کل لسان، لان الزیارات کما تعلمون عبارة عن کلمات تردد من قبل ملایین الناس وبأوقات متعددة من السنة، وبهذا التکرار الملیونی تخلد المأساة وتبقی تعیش فی أذهان وأسماع ووجدان الموالین علی امتداد الزمان واختلاف المکان).

خالد: (أحسنت أخی أسامة، تعلیقک مهم للغایة).

وجه الاستدلال باستشهادها علی أفضلیتها علی الأنبیاء والرسل وباقی العالمین

محمد: (هل تعتقدون أن مجرد استشهادها (صلوات الله و سلامه علیها) یجعلها أفضل من الأنبیاء والمرسلین؟ وبعبارة أخری ان کون الإنسان شهیداً لا یجعله أفضل من الأنبیاء والمرسلین، لان هنالک کماً هائلاً من الأنبیاء والمرسلین استشهدوا فی سبیل الله سبحانه، ویمکن للمخالفین أیضا أن یقولوا بأن کثیراً من الصحابة والصحابیات استشهدوا أیضا علی ید المشرکین فی ساحات المعرکة وخارجها، فهی من حیث کونها شهیدة کغیرها من الشهداء لیس إلا).

ص: 356

خالد: (هذا الاعتراض یرد لو کان کل الشهداء علی مرتبة واحدة فی الفضل والکمال، ولکن إجماع المسلمین قائم علی ان درجات الشهداء تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمکنة(1).

فمنزلة النبی الشهید تختلف قطعاً عن منزلة الشهید الذی هو من عوام الناس البسطاء، ومنزلة الشهید العالم أو الفقیه تختلف عند الله عن منزلة الشهید الجاهل، ومنزلة الشهید الذی یقتل فی سبیل الله بین یدی إمام معصوم کشهداء معرکة الجمل وصفین والنهروان ومعرکة عاشوراء لیست کمنزلة من یقتل دون ماله، فان کلیهما شهید فی حسابات الشریعة وقوانینها لکن من الظلم الفادح ان نقیس من یموت من أجل قضیة إسلامیة کبری بشخص یموت وهو یدافع عن درهمین من أمواله.

فإذا عرفنا أن درجات الشهداء تختلف عرفنا أیضا ان السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) فی أعلی هذه الدرجات، لأن درجة کل شهید تتناسب مع مرتبته الکمالیة، فکلما ترقی الإنسان فی مراتب الکمال کلما کانت درجة شهادته الکمالیة أرقی وأرقی، وبما أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) وکما ثبت سابقا وبأدلة کثیرة هی أکمل وأعظم من الأنبیاء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فتکون منزلة ومرتبة شهادتها (صلوات الله و سلامه علیها) أعظم من منزلة ومراتب جمیع الأنبیاء الذین استشهدوا.


1- قال المبارک فوری فی تحفة الأحوذی ج5 ص226: (إن الشهداء یتفاضلون ولیسوا فی مرتبة واحدة...). وقال ابن تیمیة فی مجموع الفتاوی ج2 ص223: (وقد جعل الله تعالی الجنة درجات، وللمجاهدین منها مائة درجة کما جاء فی الصحیح عن النبی صلی الله علیه وسلم، فالشهداء لیسوا فی منزلة واحدة بل یتفاوتون فی منازلهم).

ص: 357

وکذلک هی أعظم من بقیة الأنبیاء الذین لم یستشهدوا، لأنها (صلوات الله و سلامه علیها) وبالأدلة السابقة أعظم منهم من دون کونها شهیدة، فإذا أضفنا إلیها مرتبة الشهادة فإنها تکون حینئذ أعظم وأعظم).

أسامة: (أرجو المعذرة فوالدی ینادینی، والظاهر ان ضیوفاً قد جاؤوا إلی منزلنا، سأراکم غدا ان شاء الله).

خالد: (حسنا ونحن أیضا سننهی الموضوع ونتوقف، ومن کان عنده سؤال فلیؤجله إلی الجلسة القادمة، وإذا لم یکن عندکم سؤال تکلمنا حول موضوع شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها) یوم القیامة).

ودع الأصدقاء بعضهم بعضا علی أمل اللقاء غدا إن شاء الله سبحانه.

دموع الفرح

أصبح الصباح، وتناول أسامة فطوره علی عجل، ومن ثم انطلق نحو المکتبة لیری الحارس، ولیبحث عما اتفقوا علیه البارحة فی جلسة الحوار، ولکنه لم یرَ الحارس یجلس عند باب المکتبة کالمعتاد، فدخل وسأل أمینة المکتبة عنه، فأخبرته بأن الحارس فی الحدیقة الخلفیة للمکتبة، ذهب أسامة إلی الحدیقة الخلفیة فرأی الحارس من بعید وهو یقلم أشجار الحدیقة الخلفیة، توجه نحوه، وما ان رآه الحارس متوجها نحوه حتی ابتسم ابتسامة خفیفة، وصل أسامة إلیه وسلم علیه، وجلسا علی مقعد قریب وأخبره بما جری لیلة الأمس، وان أبا عادل وافق علی ان یسکنوا فی بیت الضیوف ولمدة غیر محددة ومن دون إیجار، ولکن

ص: 358

بشرط ان یحافظ علی بیتهم فی غیابهم ویعتنی بالحدیقة.

کان الحارس یستمع وهو مطرق برأسه، فلما أکمل أسامة کلامه رفع إلیه رأسه وقطرات من الدمع تنزل من عینیه علی خدیه، فقال أسامة: (ما الخبر یا عم؟ هل أزعجک هذا الخبر؟).

فقال الحارس وهو یبتسم: (کلا یا بنی انها دموع الفرح، وإنی لأشکر جهودک وجهود عائلتک الکریمة، وأشکر الله سبحانه علی تهیئة هذا المسکن لی، فقد عانیت ما عانیت وهو أعلم بذلک، وأشکر السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) التی لم تخیب رجائی وقبلت استشفاعی وتوسلی بها، فالحمد لله علی ما أسبغ علی من نعمه الظاهرة والباطنة).

أسامة: (الحمد لله، وأنت یا عم هیئ الیوم أغراضک وأمتعتک، وسننقلها إلی البیت الجدید غداً إن شاء الله تعالی، ولا تحمل هماً ولا غماً، وسأتفق مع أصدقائی لنحضر إلی بیتکم لحمل الأغراض ونقلها، وسنقوم نحن بتنظیف البیت الجدید وترتیب الاغراض فیه، وما علیک إلا أن تجلس وتنظر إلینا وتوجهنا).

  شکر الحارس سعی أسامة وجهوده واتفقا علی موعد الغد وودع کل منهما الآخر، ثم اتجه أسامة إلی داخل المکتبة لیبحث ویتهیأ لجلسة اللیلة.

عاد أسامة مرة أخری إلی قاعة المکتبة فوجد محمداً جالساً علی کرسی یطالع کتاباً، فلما رآه محمد قام عن کرسیه وجاءه مسلماً، وبعد السلام قال له:  (تفضل بقربی).

فأجابه أسامة: (شکراً فمن الأفضل أن یجلس کل منا بجانب مختلف حتی

ص: 359

لا یضیع وقتنا بکثرة الکلام، لأنک کثیر الأسئلة، فیضیع هکذا وقتی ووقتک).

محمد: (حسنا، اجلس حیثما تحب، وسوف نذهب معاً إلی البیت حین العودة فلا تنسَ).

ذهب أسامة إلی رفوف المکتبة لیبحث عن ضالته، وکلما مر من رف أخذ بیده کتاباً عسی أن یجد فیه معلومة نافعة، فجمع بیده مجموعة من الکتب ثم أخذ زاویة من زوایا المکتبة فجلس یطالع فیها ما جمع.

ص: 360

الدلیل الثالث والعشرون: شفاعتها لمحبیها ونصرتها لأولیائها یوم القیامة

اشارة

مضی الوقت سریعاً کعادته، وجاءت الساعة التاسعة مساءً، واجتمع الأصدقاء علی طاولة الحوار، وبعد السؤال عن الحال والأحوال، کتب خالد: (أخبرونا یا شباب ماذا فعلتم الیوم؟ وهل ذهبتم إلی المکتبة؟).

أسامة: (نعم ذهبت وکان محمد أیضا فی المکتبة).

خالد: (إذن أخبرونا ماذا وجدتم عن موضوع شفاعة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)؟).

فاطمة: (هل تسمح لی یا خالی ان أبدأ أنا؟).

خالد: (کل مرة تقریبا أنت التی تبدئین، فدعینا الآن نستمع إلی أخوینا أولا).

أسامة: (أنا وجدت روایة صحیحة السند تتحدث عن شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها) یوم القیامة، وهذه الروایة قد مرت علینا فی أول البحث، وهی الروایة الأولی التی ابتدأنا بها جلسات حوارنا، والتی کانت تتحدث عن بدء خلق نور فاطمة

ص: 361

 (صلوات الله و سلامه علیها)، والروایة التی رواها الشیخ الصدوق عن الإمام الصادق عن أبیه عن جده عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) جاء فی آخرها قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «... فلما خلق الله عز وجل آدم وأخرجنی من صلبه أحب الله عز وجل أن یخرجها(1) من صلبی جعلها تفاحة فی الجنة وأتانی بها جبرئیل علیه السلام فقال لی: السلام علیک ورحمة الله وبرکاته یا محمد، قلت: وعلیک السلام ورحمة الله حبیبی جبرئیل. فقال: یا محمد إن ربک یقرئک السلام. قلت: منه السلام وإلیه یعود السلام. قال: یا محمد إن هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إلیک من الجنة فأخذتها وضممتها إلی صدری. قال: یا محمد یقول الله جل جلاله: کلها. ففلقتها فرأیت نورا ساطعا ففزعت منه فقال: یا محمد مالک لا تأکل؟ کلها ولا تخف، فإن ذلک النور المنصورة فی السماء وهی فی الأرض فاطمة، قلت: حبیبی جبرئیل، ولم سمیت فی السماء المنصورة وفی الأرض فاطمة؟ قال: سمیت فی الأرض فاطمة لأنها فطمت شیعتها من النار وفطم أعداؤها عن حبها، وهی فی السماء "المنصورة" وذلک قول الله عز وجل: «وَیَوْمَئِذٍ یَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ یَنْصُرُ مَنْ یَشَاءُ» یعنی نصر فاطمة لمحبیها»(2).

والشاهد هو فی تسمیتها (صلوات الله و سلامه علیها) بالمنصورة، وما بینته الروایة من سبب لهذه التسمیة، وبأنها فطمت شیعتها من النار وإنها ستنصر شیعتها یوم القیامة، ولیست الشفاعة إلا هذا).


1- أی یخرج فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها).
2- معانی الأخبار للشیخ الصدوق ص396.

ص: 362

شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها) أعظم من شفاعة الأنبیاء والرسل باستثناء نبینا (صلی الله علیه و آله و سلم)

خالد: (أحسنت أخی أسامة فهذه الروایة صحیحة وقد أثبتنا سابقاً صحتها، ولکن ألا تری بأن الروایة تتحدث عن شفاعتها بشکل مطلق، وعلیه فلیس فی إثبات کونها شفیعة فضلٌ، لان الروایات تحدثت عن ان کافة المؤمنین لهم شفاعة یوم القیامة، وعلیه فنحن نحتاج فی إثبات سعة شفاعتها وعظمتها إلی أدلة إضافیة).

اختلاف الشفاعة بحسب منزلة الإنسان وشأنه الکمالی

أسامة: (سبحان الله!، کنت أشعر بأن هنالک من سیسأل هذا السؤال، ولکنی لم أتوقع ان السائل سیکون خالد!، فقد کنت أتوقع أن یسأل محمد عن هذا الأمر، وقد أعددت جواباً مسبقا لهذه المسألة، والجواب نجده فی نفس روایات أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فقد ورد فی الروایات الشریفة ان الشفاعة تختلف من حیث السعة والضیق باختلاف إیمان الشفیع وکماله، فکلما عظمت منزلة المؤمن الکمالیة وعظم إیمانه زادت سعة شفاعته، وبما ان السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) قد ثبتت أفضلیتها علی الأنبیاء والرسل بأدلة کثیرة قدمناها سابقا، فإن شفاعتها ستکون أوسع من شفاعة جمیع المؤمنین والأنبیاء والرسل باستثناء نبینا الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)(1)).

محمد: (أنا قرأت الیوم کثیراً من الأحادیث، فلم أجد بأن الشفاعة تختلف بحسب منزلة الشفیع وإیمانه، فمن أین لک هذا الرأی؟).


1- سیأتی قریبا ان شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها) متساویة مع شفاعة الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه).

ص: 363

أدلة روائیة وعقلیة علی اختلاف الشفاعة بحسب کمال الشفیع وشأنیته

خالد: (ان عدم قراءتک لهذه الأحادیث لا یدل علی عدم وجودها، وکون الشفاعة تختلف بحسب منزلة الشفیع وإیمانه لیس رأیا بل هی أمور أقرتها الروایات الشریفة، وسأکتب لکم عدة أحادیث.

فمنها ما روته الشیعة عن الإمام الباقر (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال: « فیشفع الرجل فی القبیلة، ویشفع الرجل لأهل البیت، ویشفع الرجل للرجلین علی قدر عمله»(1).

وقد روی أهل السنة عن النبی الأعظم (صلوات الله و سلامه علیها) قریباً من هذا الحدیث(2)، وقد ورد فی أحادیث أخری ان من المؤمنین من یشفع لمثل ربیعة ومضر(3)، ومنهم من یشفع لثلاثین نفساً(4)، ومنهم من یشفع لسبعین من أهل بیته


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسی ج8 ص43.
2- قال الطبرانی فی المعجم الکبیر ج8 ص275: (حدثنا أحمد بن موسی الجوهری البغدادی ثنا الحسن بن حریث المروزی ثنا الفضل بن موسی عن الحسین بن حکی عن أبی غالب عن أبی أمامة قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم: ... ویشفع الرجل فی أهل بیته ویشفع علی قدر عمله).
3- ربیعة ومضر قبیلتان عربیتان صار یضرب بهما المثل فی کثرة الافراد المنتمین لهما.
4- روی المجلسی فی البحار ج8 ص58 عن النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: (...والشفاعة للأنبیاء والأوصیاء والمؤمنین والملائکة، وفی المؤمنین من یشفع مثل ربیعة ومضر، وأقل المؤمنین شفاعة من یشفع لثلاثین إنسانا...). وروی الترمذی فی سننه ج4 ص46: (حدثنا الحسین بن حریث، أخبرنا الفضل بن موسی عن زکریا ابن أبی زائدة، عن عطیة، عن أبی سعید أن رسول الله صلی الله علیه وسلم قال: إن من أمتی من یشفع للفئام من الناس، ومنهم من یشفع للقبیلة، ومنهم من یشفع للعصبة، ومنهم من یشفع للرجل حتی یدخلوا الجنة) . ثم علق الترمذی علی الحدیث بقوله: (هذا حدیث حسن).

ص: 364

وهم الشهداء(1).

وإضافة إلی کل هذا فإنی أری أن مسألة اختلاف المؤمنین فی سعة الشفاعة وضیقها هی مسألة بدیهیة، اذ لیس من الإنصاف ان تتساوی شفاعة المؤمن العادی بالمؤمن العالم أو المؤمن الشهید، کما انه لیس من الإنصاف أن تتساوی شفاعة العلماء مع شفاعة الأوصیاء أو الأنبیاء، فتأمل یا أخی محمد لتصل إلی الحقیقة حتی من دون روایات، فالذوق السلیم دال علی ما قلت قبل الروایات الشریفة أو معها).

شفاعة السیدة الزهراء متکافئة ومساویة لشفاعة الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه)

فاطمة: (ونستطیع أن نعرف عظمة وسعة شفاعة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بطریقة ثانیة غیر الطریقة التی استعرضها خالی العزیز، ولکنها تؤید ما قاله، فإجماع الشیعة منعقد علی ان الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (صلوات الله و سلامه علیه) أوسع الناس شفاعة بعد النبی الأعظم (صلوات الله و سلامه علیها).

 وإجماع الشیعة منعقد أیضا علی أن السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) کفؤ للإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) ومساویة له فی کل شیء إلا ما خرج بالدلیل. فینتج حینئذ وجوب ان تکون شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها) مساویة لشفاعته (صلوات الله و سلامه علیه)(2).


1- روی فی سنن أبی داود لسلیمان بن الاشعث السجستانی ج1 ص567: (حدثنا أحمد بن صالح، ثنا یحیی بن حسان، ثنا الولید بن رباح الذماری، حدثنی عمی نمران بن عتبة الذماری، قال: دخلنا علی أم الدرداء ونحن أیتام فقالت: أبشروا فإنی سمعت أبا الدرداء یقول: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم: "یشفع الشهید فی سبعین من أهل بیته).
2- لوجود النص القائل بتکافؤ کمالاتها (صلوات الله و سلامه علیها) مع کمالاته (صلوات الله و سلامه علیه)، ولعدم وجود المخصص النافی لتساوی کلتا الشفاعتین، فتأمل.

ص: 365

وبما أن شفاعة الإمام أمیر المؤمنین هی أعظم  الشفاعات وأوسعها بعد الشفاعة العظمی لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فتکون شفاعة السیدة الزهراء أعظم الشفاعات وأوسعها أیضا).

تساوی شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها) مع شفاعة النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)

خالد: (أحسنتِ التحلیل، ویمکن لنا إن ننطلق أکثر ونتوسع أکثر فنجعل سعة شفاعة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بمقدار سعة شفاعة النبی الأکرم (صلی الله علیه و آله و سلم)، وذلک بالتوضیح الآتی الذی سأستعرضه من خلال نقاط لتسهیل فهم الدلیل.

أولاً: أجمعت کلمة أئمة مذهب أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وعلماء التشیع وبلا مخالف أن الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) هو نفس النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو ما نصت علیه الآیة المبارکة: « فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَی الْکَاذِبِینَ»(1) والقرآن الکریم ینص فی هذه الآیة علی کون النبی الأعظم والإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیهما) نفساً واحدة. وهذا لا خلاف فیه بین الإمامیة.

ثانیا: ان إثبات کونهما نفساً واحدة ینتج عنه ان کل ما ثبت لأحدهما من الکمالات والمراتب العالیة السامیة یثبت للآخر من باب التطابق التام بین النفسین وعدم الاختلاف، اللهم إلا ما خرج بالدلیل، کمرتبة النبوة والخاتمیة التی دل


1- سورة آل عمران الآیة رقم 61.

ص: 366

الدلیل علی اختصاصها بشخص النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وعدم اشتراک الإمام علی (صلوات الله و سلامه علیه) معه فی هذه المرتبة.

ثالثا: اذا کان الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب یشارک النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) فی کل مراتب الکمال وفی کل الامتیازات الممنوحة له من قبل الله سبحانه، فانه ولابد یشارکه فی مرتبة الشفاعة العظمی التی خص الله بها نبیه (صلی الله علیه و آله و سلم)، لأنه نفسه، ولا یوجد لدینا دلیل علی عدم دخول الإمام أمیر المؤمنین فی هذه المرتبة، واذا لم یوجد لدینا دلیل نافٍ فنحکم وفقا للأصل وهو اشتراکهما فی کل کمال الا ما دل الدلیل علی اختصاص أحدهما بأمر معین.

رابعا: اذا ثبت اشتراک النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والإمام علی بن أبی طالب (صلوات الله و سلامه علیه) فی مرتبة الشفاعة العظمی، فإنه یثبت اشتراک السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) معهما فی نفس المرتبة، لأنها متساویة مع الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه) فی کل مراتبه الکمالیة، إلا ما خرج بالدلیل، ولا دلیل هنا علی خروجها (صلوات الله و سلامه علیها) فنحکم وفقا بالأصل وهو الاشتراک فی مقام الشفاعة العظمی).

فاطمة بضعة النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) فلابد أن تکون لها نفس مرتبته فی الشفاعة

فاطمة: (هذه التفاتة جیدة یا خالی، وربما یؤید کلامک الروایات الواردة فی کون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بضعة من النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) والبضعة هی القطعة والجزء من الشیء.

ص: 367

والجزء لابد وان یأخذ أحکام الکل، فما یثبت للکل یثبت للجزء أیضا من باب وحدة السنخیة فیما بینهما، إلا ما یثبت بالدلیل اختصاصه وخروجه عن هذه القاعدة.

وعلیه فإذا ثبت للکل الذی هو النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) مقام معنوی او کمالیاً معیناً فان هذا المقام لابد وأن یکون ثابتا للجزء الذی هو السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)، ومقام الشفاعة العظمی داخل فی هذا الباب، فثبوته للنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) یکفی لدخول السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) فیه، لأنها بضعة منه، وحکم الجزء تابع لحکم الکل کما أوضحنا، إلا ان یوجد دلیل ینفی دخولها علی نحو القطع، وبما ان هذا الدلیل غیر متوفر __ بحسب اطلاعی __ فتبقی القاعدة علی عمومها ویکون دخول السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) فی مقام الشفاعة العظمی قطعیاً).

عدم وجود ما یخصص هذه الأدلة

محمد: (أفهم من کلامکم أن هذه الأدلة التی قدمتموها عن مشارکة السیدة الزهراء والإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیهما) مع النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) فی مقام الشفاعة العظمی مبنیة علی فرض عدم وجود دلیل یخصص هذا المقام بالنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ویخرج عنه الآخرین، فهل هذا الذی فهمته صحیح؟).

فکتب خالد: (نعم صحیح ما فهمت).

محمد: (أنا الآن أقدم لکم روایة عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) یصرح فیها ان

ص: 368

مقام الشفاعة العظمی لا یکون إلا لشخص واحد وهذا الشخص هو النبی ولا أحد یشارکه فی هذا المقام، فقد روی أحمد بن حنبل فی مسنده عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: «سلوا لی الوسیلة فإنها منزلة فی الجنّة لا تنبغی إلاّ لعبد من عباد الله وأرجو أن أکون أنا هو، فمن سأل لی الوسیلة حلّت علیه الشفاعة»(1)، فهذا الحدیث ینسف جمیع الأدلة التی قدمتموها، أخبرونی ما رأیکم بهذه القنبلة؟).

خالد: (أضحکتنی والله یا محمد، والظاهر ان هذه القنبلة التی أطلقتها علینا فیها غاز الضحک).

محمد: (ولماذا الضحک؟ فأنت أردت دلیلاً یخصص وقد أتیت لکم به).

خالد: (إن دلیلک الذی قدمته باطل من عدة وجوه:

1: منها ان الروایة وردت من طرق أهل السنة ورجالهم وهی لیست حجة علینا قطعاً.

2: ومنها انه لیس فی الروایة إشارة من قریب ولا من بعید إلی مسألة الشفاعة واختصاصها بالنبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)، فالروایة تتحدث عن منزلة فی الجنة تختص بشخص واحد تسمی بمنزلة الوسیلة، وهذه المنزلة لا تکون الا لشخص واحد، ونحن نتکلم عن وجود أو عدم وجود دلیل یخصص منزلة الشفاعة بشخص واحد، فدلیلک أجنبی عن المقام.

3: ومنها ان منازل الجنة ومنها منزلة الوسیلة تأتی فی مرتبة متأخرة عن الشفاعة، لان الشفاعة فی مواقف القیامة والحساب، ومنازل الجنة تأتی حینما


1- مسند احمد بن حنبل ج2 ص168.

ص: 369

ینتهی الحساب ویذهب کل إنسان إلی مکانه من النار أو الجنة.

وعلیه فالروایة تتحدث عن أمر أجنبی عن الموضوع الذی نتحدث نحن عنه).

محمد: (علی أقل التقادیر انا حاولت ان آتی بدلیل یخصص سعة شفاعة السیدة الزهراء(صلوات الله و سلامه علیها)، ولکنک والأخوة لم تأتونا إلی الآن بروایة تثبت سعة شفاعتها).

روایات تؤید سعة شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها)

خالد: (قولک باننا لم نأتِ بروایة تثبت سعة شفاعتها مجانب للصواب، ألا تری أن الأدلة التی قدمناها قائمة بجمیعها علی وجود الروایة، بل ووجود الآیة القرآنیة (أنفسنا وأنفسکم).

وإضافة إلی هذه الروایات والآیة توجد روایات أخری مؤیدة لسعة شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها) وسأذکر لک الآن واحدة منها، فقد روی الشیخ الصدوق قائلا: «حدثنا محمد بن موسی بن المتوکل رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عیسی، عن محمد بن سنان، عن عبد الله بن مسکان عن محمد بن مسلم الثقفی قال: سمعت أبا جعفر  (صلوات الله و سلامه علیه) یقول: لفاطمة علیها السلام، وقفة علی باب جهنم، فإذا کان یوم القیامة کتب بین عینی کل رجل مؤمن أو کافر، فیؤمر بمحب قد کثرت ذنوبه إلی النار، فتقرأ فاطمة بین عینیه محبا فتقول: إلهی وسیدی سمیتنی فاطمة، وفطمت بی من تولانی وتولی ذریتی من النار، ووعدک الحق

ص: 370

وأنت لا تخلف المیعاد، فیقول الله عز وجل، صدقت یا فاطمة، إنی سمیتک فاطمة، وفطمت بک من أحبک وتولاک وأحب ذریتک وتولاهم من النار، ووعدی الحق وأنا لا أخلف المیعاد، وإنما أمرت بعبدی هذا إلی النار لتشفعی فیه فأشفعک، ولیتبین لملائکتی وأنبیائی ورسلی وأهل الموقف موقفک منی، ومکانتک عندی، فمن قرأت بین عینیه مؤمنا فخذی بیده وأدخلیه الجنة»(1)).

محمد: (ألیس فی سند الروایة «محمد بن سنان» وهو ضعیف؟ فکیف تستدل بروایة ضعیفة؟).

خالد: (إن محمد بن سنان مختلف فی توثیقه وتضعیفه، فربما وثق وربما ضعف، وحتی من ضعفه فقد ضعفه فی الروایات التی ینفرد بروایتها، ولا یعضدها دلیل صحیح آخر، وهذه الروایة موافقة للأدلة التی قدمناها وموافقة للروایات الصحیحة التی استعرضناها فی ضمن أدلتنا المتقدمة.

وعلیه فتصبح روایة محمد بن سنان مقبولة حتی علی رأی الذین ذهبوا إلی ضعفه لموافقتها لما هو قطعی وصحیح، ولأن العبرة کما ذکرنا مرارا وتکرارا هی فی الاطمئنان بصحة الصدور، وموافقة الروایة لما هو مجمع أو مشهور عند علماء الشیعة الإمامیة، وأنا لم أرَ من علماء المذهب قدیماً وحدیثاً من شکک فی هذه الروایة وأمثالها، وعدم نقاشها والتشکیک فیها یدل علی تلقیها من قبلهم بالقبول(2)).


1- علل الشرائع للشیخ الصدوق (رضوان الله تعالی علیه) ج1 ص179.
2- ان مسألة عدم تضعیف العلماء لروایة معینة ودلالة ذلک علی تلقیهم لها بالقبول، هی لیست من المسائل المقطوع فیها عند جمیع العلماء أعلی الله مقامهم، ولا هی قاعدة کلیة فی علم الحدیث والروایة، ولکنها یمکن أن تکون مؤیدة لغیرها من القواعد، ویستدل بها لا علی نحو الاستقلال، وهذا هو قصدنا من إیرادها هنا، ولذلک لم نجعلها دلیلاً مستقلاً وإنما وضعناها مع أدلة أخری لتکون مؤیدة لها وداعمه.

ص: 371

ما هی فائدة الشفاعة؟

سکت الجمیع لبرهة من الوقت فعرف خالد أن هذا المحور من الموضوع قد أخذ استحقاقه ولابد أن ینتقلوا إلی محور آخر، فکتب: (طیب، أخبرونا ماذا وجدتم أیضا عن شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها)؟).

  محمد: (ممکن أعرف ما هی فائدة الشفاعة؟ أو بمعنی آخر لماذا لا یغفر الله سبحانه ذنوب من یرید أن تشملهم الشفاعة مباشرة من دون ان یضطرهم ویضطر الشفعاء إلی الشفاعة؟).

 خالد: (أولا: ان هذه المسائل من مختصات الله سبحانه ومن شؤونه القدسیة، ولا دخل للعباد فیها، فالله سبحانه من حقه کمالک للکون أن یجعل شفعاء أو لا یجعل، فإذا أراد أن یجعل فلیس من حقنا أن نقول: لماذا جعلت شفعاء؟

ثانیا: ان الله سبحانه أبی أن یجری الأمور إلا بأسبابها، فکل شیء فی الکون یجری وفق الأسباب والمسببات، فالله سبحانه یستطیع أن یقول لشجرة البرتقال أو التفاح أثمری فتثمر بقدرة الله سبحانه، إلا أن هذا الأمر لا یحصل، بسبب ان الله قد قدر وأراد أن تخرج ثمرة التفاح أو البرتقال عبر مرورها بعالم الأسباب، فالفلاح یحرث الأرض وینظفها ویبذر البذور ویسقیها ویحمیها من کل ما یفسدها ثم تمر

ص: 372

علی النبتة أیام وربما سنوات حتی تثمر.

ومسألة غفران الذنوب والتجاوز عن العصاة لا تخرج عن هذا القانون، فالله سبحانه قادر علی أن یغفرها ویتجاوز عنها مباشرة، إلا أنه سبحانه أخضعها لقانون الأسباب والمسببات، فجعل للغفران أسباباً متعددة، منها الشفاعة.

 ثالثاً: ان للشفاعة ثلاثة أطراف هی: المشفوع إلیه وهو الله سبحانه، والمشفوع له وهو المکلف العاصی المراد أن تشمله الشفاعة، والشفیع أو الشافع وهو الواسطة ما بین الشافع والمشفوع له. وفائدة الشفاعة قد تکون لله وقد تکون للشفیع وقد تکون للمشفوع له.

فأما فائدة الشفاعة بالنسبة لله سبحانه فإنها منتفیة، لأن الله سبحانه لا یحتاج إلی شیء وهو غنی عن العالم سماؤه وأرضه وکل ما فیه، کما قال فی کتابه: «وَرَبُّکَ الْغَنِیُّ ذُو الرَّحْمَةِ»(1) وقوله تعالی: «هُوَ الْغَنِیُّ لَهُ مَا فِی السَّمَاوَاتِ وَمَا فِی الأَرْضِ»(2).

وأما فائدة الشفاعة بالنسبة للمشفوع له فواضحة جدا، لان المذنبین فی ذلک الیوم الرهیب بحاجة إلی من یحمل عنهم سیئة واحدة یخفف عنهم ثقلها وتبعتها، وبحاجة إلی من یکون لهم عوناً فی تخطیهم لتبعات الذنوب وعقبات یوم القیامة.

وأما فائدة الشفاعة بالنسبة للشافع الذی هو وسیط بین الله الغنی وبین عبده العاصی فلإظهار شأنه وعظمته ورفیع مقامه عند الله سبحانه).


1- سورة الأنعام الآیة رقم 133.
2- سورة یوسف الآیة رقم 68.

ص: 373

محمد: (کل ما قلته واضح إلا الفقرة الأخیرة وهی ان فائدة الشفاعة بالنسبة للشفیع هی لإظهار فضله وعظمته عند الله سبحانه فکیف یکون هذا الأمر؟).

خالد: (لو کانت لک حاجات عظیمة عند ملک من الملوک، أو کانت لک جرائم تستحق العقاب علیها عند ذلک الملک، وجاء شخص وتوسط لک عند ذلک الملک ورفع عنک العقاب، وکان سبباً فی قضاء کل حوائجک التی طلبتها من ذلک الملک، ألا یدل ذلک علی أن هذا الشخص الوسیط لدیه مکانة ومنزلة عظیمة عند هذا الملک، وبسبب کونه وجیها عند الملک ومقرباً إلیه استطاع أن ینجز لک کل حوائجک ویرفع عنک کل العقوبات؟).

محمد: (نعم صحیح وقد فهمت مغزی کلامک).

فاطمة: (توجد شواهد روائیة کثیرة علی أن مقام الشفاعة العظمی قد أعطی للنبی الأعظم وأئمة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) بهدف تبیان شأنهم وعظیم قدرهم، منها ما ورد فی زیارة الجامعة الکبیرة «... حتی لا یبقی ملک مقرب، ولا نبی مرسل، ولا صدیق ولا شهید، ولا عالم ولا جاهل، ولا دنی ولا فاضل، ولا مؤمن صالح ولا فاجر طالح، ولا جبار عنید، ولا شیطان مرید، ولا خلق فیما بین ذلک شهید إلا عرفهم جلالة أمرکم وعظم خطرکم وکبر شأنکم، وتمام نورکم، وصدق مقاعدکم وثبات مقامکم، وشرف محلکم ومنزلتکم عنده، وکرامتکم علیه، وخاصتکم لدیه، وقرب منزلتکم منه...»(1).

وقد مر علینا قبل قلیل روایة الإمام الباقر (صلوات الله و سلامه علیه) وقوله: (لفاطمة علیها


1- من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق ج2 ص614.

ص: 374

السلام، وقفة علی باب جهنم، ... وإنما أمرت بعبدی هذا إلی النار لتشفعی فیه فأشفعک ولیتبین لملائکتی وأنبیائی ورسلی وأهل الموقف موقفک منی ومکانتک عندی فمن قرأت بین عینیه مؤمنا فخذی بیده وأدخلیه الجنة»(1) وتوجد شواهد کثیرة لا مجال لاستعراضها بأجمعها).

الشفاعة للمحسن والمسیء أم هی للمسیئین خاصة؟

أسامة: (لدی سؤال یجول بخاطری منذ البارحة، وهو: أتشمل الشفاعة المسیء والمحسن أم انها خاصة بالمسیئین فقط؟).

خالد: (هنالک اختلاف بین علمائنا حول هذه المسألة، فقد ذهب بعضهم إلی أن الشفاعة لا تشمل إلا المسیئین والمذنبین خاصة، أما المحسنون والمطیعون ومن لیس علیه تبعة فلا یحتاجون إلیها، لان الشفاعة وبالأصل موضوعة للمذنبین، وهدفها دفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقیه، وقد تمسک أصحاب هذا الرأی بأحادیث مرویة(2).

 لکن بعض علمائنا الأعلام قد ذهب إلی أن الشفاعة تشمل المسیء


1- علل الشرائع للشیخ الصدوق (رضوان الله تعالی علیه) ج1 ص179.
2- منها ما رواه الشیخ الصدوق فی الخصال ص355 فی حدیث طویل عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) جاء فیه: (...وأما شفاعتی ففی أصحاب الکبائر ما خلا أهل الشرک والظلم). ومنها ما رواه الشیخ الصدوق أیضا فی الأمالی ص56 عن النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) انه قال: (...إنما شفاعتی لأهل الکبائر من أمتی، فأما المحسنون فما علیهم من سبیل). ومنها ما رواه الشیخ الصدوق أیضا فی فضائل الشیعة مرسلا عن الصادق (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال: (إذا کان یوم القیامة نشفع فی المذنبین من شیعتنا فأما المحسنون فقد نجاهم الله).

ص: 375

والمحسن والمذنب والصالح، فأما المذنبون فیُشفع لهم لدفع المضار وإسقاط الحساب، وأما المحسنون فیُشفع لهم لرفع الدرجات واستجلاب المنافع الأخرویة(1)).

أسامة: (وأنت أی الرأیین ترجح؟).

فکتب خالد: (الذی أمیل إلیه أن الشفاعة للنبی (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) تشمل المطیعین والعاصین علی حد سواء، لعدة أدلة أذکر منها ما یلی:

العدل یقضی بأن تکون الشفاعة عامة للعاصین والمطیعین علی حد سواء

أولاً: ان من المقطوع به عند کل المسلمین علی اختلاف طوائفهم أن الله سبحانه عادل، بل إن الإمامیة یعدّون صفة العدل أصلا من أصول الدین، وعدله سبحانه قاض بأن یعطی للمطیعین من النعم مثل ما یعطی العاصین من باب الأولویة، لان المطیع أولی بالإحسان من العاصی، أو من باب العدل، فان لم یعطهم جاز للمطیع أن یعترض علی الله بأنک سبحانک فضلت العاصی بالعطاء ومنحته النجاة من النار وترکتنی مع إطاعتی ولزومی لأمرک لم تعطنی شیئاً إضافیاً، وهذا قبیح، والقبیح منفی عن الله سبحانه، وعلیه فلابد أن یعطی الله سبحانه للمطیع مثل ما یعطی للعاصی، وإعطاء المطیع لا یکون إلا عن طریق رفع الدرجات واستجلاب المنافع الأخرویة. وبه یثبت المطلوب.


1- من القائلین بهذا الرأی نصیر الدین الطوسی فی تجرید الاعتقاد وقد وافقه العلامة الحلی فی شرحه للتجرید (تحقیق الآملی) ص566.

ص: 376

معنی الشفاعة ومفهومها یدل علی شمولها للعاصی والمطیع

ثانیا: معنی الشفاعة ومفهومها یدل علی ذلک أیضا، إذ ان الشفاعة لیست إلا ضم موجود إلی آخر بهدف تقویته وإعانته وإیصاله إلی مستوی کمالی یستحق من خلاله أن تشمله الرحمة الإلهیة(1)، وهذا المعنی من الشفاعة حاصل للنبی والأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) حتی فی دار الدنیا، لأن الموجودات کلها إنما تکاملت وتدرجت فی مراحل الکمال بسبب وجودهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)، فبانضمامهم إلی هذا الوجود تکامل الوجود وبهم تکامل الإنسان وصار مؤمنا واستحق ان ینال رضا الله سبحانه ویدخل الجنة(2)، ویوم القیامة لو جاء العبد بعمل الثقلین ولم یأتِ


1- قال الراغب الاصفهانی فی المفردات فی غریب القرآن ص263: (والشفاعة: الانضمام إلی آخر ناصرا له وسائلا عنه وأکثر ما یستعمل فی انضمام من هو أعلی حرمة ومرتبة إلی من هو أدنی. ومنه الشفاعة فی القیامة). وقال العینی فی عمدة القاری ج2 ص127: (الشفاعة مشتقة من الشفع، وهو ضم الشیء إلی مثله، کأن المشفوع له کان فرداً فجعله الشفیع شفعاً بضم نفسه إلیه، والشفاعة: الضم إلی آخر معاوناً له، وأکثر ما یستعمل فی انضمام من هو أعلی مرتبة إلی من هو أدنی). وقال مکارم الشیرازی فی تفسیره الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل ج1 ص200: (کلمة "الشفاعة" من "الشفع" بمعنی "الزوج" و "ضم الشیء إلی مثله"، یقابلها "الوتر" بمعنی "الفرد" . ثم أطلقت علی انضمام الفرد الأقوی والأشرف إلی الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعیف).
2- وفی هذا المعنی روایات کثیرة منها ما رواه الکلینی فی الکافی ج1 ص144: (... قال أبو عبد الله علیه السلام: إن الله خلقنا فأحسن صورنا وجعلنا عینه فی عباده ولسانه الناطق فی خلقه ویده المبسوطة علی عباده، بالرأفة والرحمة ووجهه الذی یؤتی منه وبابه الذی یدل علیه وخزانه فی سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأینعت الثمار، وجرت الأنهار وبنا ینزل غیث السماء وینبت عشب الأرض وبعبادتنا عبد الله ولولا نحن ما عبد الله). ومنها ما رواه الصفار فی بصائر الدرجات ص83: (عن أبی جعفر علیه السلام قال سمعته یقول نحن جنب الله ونحن صفوته ونحن خیرته ونحن مستودع مواریث الأنبیاء ونحن أمناء الله ونحن حجة الله ونحن أرکان الإیمان ونحن دعائم الإسلام ونحن من رحمة الله علی خلقه ونحن الذین بنا یفتح الله وبنا یختم ونحن أئمة الهدی ونحن مصابیح الدجی ونحن منار الهدی ونحن السابقون ونحن الآخرون ونحن العلم المرفوع للخلق من تمسک بنا لحق ومن تخلف عنا غرق ونحن قادة الغر المحجلین ونحن خیرة الله ونحن الطریق وصراط الله المستقیم إلی الله ونحن من نعمة الله علی خلقه ونحن المنهاج ونحن معدن النبوة ونحن موضع الرسالة ونحن الذین إلینا مختلف الملائکة ونحن السراج لمن استضاء بنا ونحن السبیل لمن اقتدی بنا ونحن الهداة إلی الجنة ونحن عز الإسلام ونحن الجسور القناطر من مضی علیها سبق و من تخلف عنها محق ونحن السنام الأعظم ونحن الذین بنا نزل الرحمة وبنا تسقون الغیث ونحن الذین بنا یصرف عنکم العذاب فمن عرفنا ونصرنا وعرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا والینا).

ص: 377

بولایتهم دخل النار(1)، وهذا کله نوع شفاعة کما لا یخفی، لأنها ضم موجود قوی إلی آخر ضعیف لتقویته وإعانته لبلوغ کماله).

هل الشفاعة تؤدی إلی اتکال الناس علیها وترک الطاعات وارتکاب المعاصی؟

محمد: (ألیست الشفاعة تؤدی بالناس إلی الاتکال والاعتماد علیها وترک الطاعات وعمل السیئات والمعاصی؟ فان الناس لو علموا بأن الإنسان الشیعی


1- قال المولی محمد تقی المجلسی فی روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه ج4 ص58: (وروی الصدوق فی الصحیح، عن أبی حمزة قال: قال لنا علی بن الحسین صلوات الله علیهما أی البقاع أفضل؟ قلت الله ورسوله وابن رسوله أعلم قال: إن أفضل البقاع ما بین الرکن والمقام، ولو أن رجلا عمر ما عمر نوح فی قومه ألف سنة إلا خمسین عاما یصوم النهار ویقوم اللیل فی ذلک المکان ثمَّ لقی الله بغیر ولایتنا لم ینتفع بذلک شیئا).

ص: 378

الموالی لأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یوم القیامة سواء عمل أو لم یعمل فإنه سیدخل الجنة، وأن أهل البیت والسیدة الزهراء سیشفعون له، مثل هذا الإنسان لابد وان یتهاون بصلاته وعباداته ویتجرأ علی المحرمات اتکالاً علی شفاعتهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)).

خالد: (لیس الأمر کما تقولون أخی محمد، فالشفاعة لیست بالأمر العشوائی ولا یحظی به أی أحد من دون قید أو شرط، بل إن للشفاعة حدوداً وضوابط لا تنطبق الا علی فئة خاصة من العباد ویستثنی منها فئات أخری کثیرة، والقرآن الکریم صریح فی هذه المسالة، فقد قال سبحانه: «وَلا یَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَی»(1)، ومن هذه الآیة یتضح بأن المشفوع له لابد أن یکون مرضیاً عند الله سبحانه حتی یشمل بالشفاعة.

والرضا معنی شامل له مصادیق کثیرة، فالمشفوع له لابد أن یکون مرضی الدین إذ لا شفاعة لکافر کما قال سبحانه: «وَکُنَّا نُکَذِّبُ بِیَوْمِ الدِّین * حَتَّی أَتَانَا الْیَقِینُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِینَ»(2).

ولا شفاعة لمخالف لأهل البیت ولا لمتبع لغیر مذهبهم، لما عرفنا سابقاً من اشتراط قبول الاعمال بالولایة، إلا ما استثنی فی بعض الروایات الشریفة، فهنالک قوم من المخالفون تشملهم الشفاعة، وهم الذین سمتهم تلک الروایات بالضعفاء، وهم المخالفون الذین لا توجد فی قلوبهم ذرة من النصب والعداوة والبغض لأهل


1- سورة الأنبیاء الآیة رقم 28.
2- سورة المدثر الآیة رقم 43 __ 48.

ص: 379

البیت(1) وقلیل ما هم(2).

ومن الذین لا شفاعة لهم الظالمون کما قال سبحانه: «وَأَنْذِرْهُمْ یَوْمَ الآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَی الْحَنَاجِرِ کَاظِمِینَ مَا لِلظَّالِمِینَ مِنْ حَمِیمٍ وَلا شَفِیعٍ یُطَاعُ»(3)، والظلم کما لا یخفی باب واسع یدخل فیه خلق کثیر، فمن الناس ظالم لنفسه ومنهم ظالم لعائلته زوجته وأطفاله، ومنهم ظالم لشعبه ولأبناء بلده، وغیر ذلک الکثیر الکثیر.

والمشفوع له لابد ان یکون مرضی العمل أیضا، فلا شفاعة لمن قضی عمره باللهو واللعب وغرته الحیاة الدنیا کما قال تعالی: «الَّذِینَ اتَّخَذُوا دِینَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَیَاةُ الدُّنْیَا... فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَیَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَیْرَ الَّذِی کُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا کَانُوا یَفْتَرُونَ»(4).


1- کما فی الخبر المروی فی الخصال للشیخ الصدوق ص408: (...عن أبی عبد الله، عن أبیه  عن جده  عن علی علیهم السلام قال: إن للجنة ثمانیة أبواب باب یدخل منه النبیون والصدیقون، وباب یدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب یدخل منها شیعتنا ومحبونا، فلا أزال واقفا علی الصراط أدعو وأقول: رب سلم شیعتی ومحبی وأنصاری ومن تولانی فی دار الدنیا فإذا النداء من بطنان العرش قد أجیبت دعوتک وشفعت، فی شیعتک ویشفع کل رجل من شیعتی ومن تولانی ونصرنی وحارب من حاربنی بفعل أو قول فی سبعین ألف من جیرانه وأقربائه، وباب یدخل منه سائر المسلمین ممن شهد أن لا إله إلا الله ولم یکن فی قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البیت).
2- لان الروایة تصرح بان لهم باباً واحداً من ثمانیة أبواب، علی الرغم من انهم الأکثریة فی العالم، بینما یدخل الشیعة من خمسة أبواب مع أنهم أقلیة بالنسبة إلیهم.
3- سورة غافر الآیة رقم 18.
4- : سورة الأعراف الآیة رقم 51 __ 53.

ص: 380

ولا شفاعة أیضا لتارک الصلاة، ولا لمستخف بها، ولا لشارب المسکر کالخمر وغیره وعلی هذا الأمر شواهد قرآنیة وروائیة کثیرة منها قوله تعالی: «قَالُوا لَمْ نَکُ مِنَ الْمُصَلِّینَ ... حَتَّی أَتَانَا الْیَقِینُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِینَ»(1)، ومنها قول الصادق (صلوات الله و سلامه علیه): «قال رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم لا ینال شفاعتی من استخف بصلاته ولا یرد علی الحوض لا والله لا ینال شفاعتی من شرب المسکر لا یرد علی الحوض لا والله»(2).

وکذلک لا تنال شفاعة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) کل مذنب مصر علی ذنبه، لأن الإصرار علی الذنب کبیرة، والمصر لا یغفر له، کما فی الروایة الحسنة لابن أبی عمیر، عن أبی الحسن الکاظم (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال: «لا یخلد الله فی النار إلا أهل الکفر والجحود وأهل الضلال والشرک. ومن اجتنب الکبائر من المؤمنین لم یسأل عن الصغائر، قال الله تبارک وتعالی: «إن تجتنبوا کبائر ما تنهون عنه نکفر عنکم سیئاتکم وندخلکم مدخلا کریما».

قال: فقلت له: یا ابن رسول الله فالشفاعة لمن تجب من المذنبین؟ قال: حدثنی أبی، عن آبائه، عن علی علیهم السلام قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یقول: «إنما شفاعتی لأهل الکبائر من أمتی، فأما المحسنون منهم فما علیهم من سبیل».

 قال ابن أبی عمیر: فقلت له: یا ابن رسول الله فکیف تکون الشفاعة لأهل


1- سورة المدثر الآیة رقم 43 __ 48.
2- کتاب الکافی للشیخ الکلینی ج6 ص400.

ص: 381

الکبائر والله تعالی ذکره یقول: «ولا یشفعون إلا لمن ارتضی وهم من خشیته مشفقون» ومن یرتکب الکبائر لا یکون مرتضی.

فقال: یا أبا أحمد ما من مؤمن یرتکب ذنبا إلا ساءه ذلک وندم علیه، وقد قال النبی (صلی الله علیه و آله و سلم): «کفی بالندم توبة» وقال علیه السلام: «من سرته حسنته وساءته سیئة فهو مؤمن» فمن لم یندم علی ذنب یرتکبه فلیس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وکان ظالما، والله تعالی ذکره یقول: «ما للظالمین من حمیم ولا شفیع یطاع».

فقلت له: یا ابن رسول الله وکیف لا یکون مؤمنا من لم یندم علی ذنب یرتکبه ؟.

فقال: یا أبا أحمد ما من أحد یرتکب کبیرة من المعاصی وهو یعلم أنه سیعاقب علیها إلا ندم علی ما ارتکب ومتی ندم کان تائباً مستحقاً للشفاعة، ومتی لم یندم علیها کان مصراً والمصر لا یغفر له لأنه غیر مؤمن بعقوبة ما ارتکب، ولو کان مؤمنا بالعقوبة لندم، وقد قال النبی (صلی الله علیه و آله و سلم): «لا کبیرة مع الاستغفار ولا صغیرة مع الإصرار» وأما قول الله عز وجل: «ولا یشفعون إلا لمن ارتضی» فإنهم لا یشفعون إلا لمن ارتضی الله دینه، والدین الإقرار بالجزاء علی الحسنات والسیئات، فمن ارتضی الله دینه ندم علی ما ارتکبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته فی القیامة».

فالشفاعة کما تری لیست أمراً اعتباطیاً، ولا تمنح من غیر حساب، وما ورد فی دخول الشیعة والمحبین الجنة مقید بغیره من الأحادیث الناصة علی ان کثیراً من الشیعة والمحبین یعذبون حتی تتمحص ذنوبهم أما فی القبر أو بالخوف فی

ص: 382

عرصات القیامة أو فی النار حتی یصفوا من کدورتهم ویدخلوا الجنة بعد ذلک بشفاعة أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) وولایتهم(1)).

توقف الجمیع عن الکتابة، فعلم خالد ان الأصدقاء قد تعبوا او لم یبق عندهم شیء یضیفونه، فکتب: (أعندکم شیء تضیفونه أم ننهی الحوار إلی هاهنا؟).

أسامة: (لیس عندی أمر آخر).

محمد: (وأنا أیضا لیس لدی أسئلة أخری).

خالد: (اذن لننهِ الحوار إلی هاهنا، ولکن أرید إخبارکم أمراً مهماً قبل أن تنصرفوا).

فکتب أسامة ومحمد: (تفضل).

خالد: (الیوم هو آخر یوم للحوار).

أسامة: (لا، مستحیل، لعل محمداً هو السبب فقد أخبرته الیوم أن لا یلح فی السؤال ولا یضیع علینا الوقت، محمد هو السبب ألیس کذلک؟).

خالد: (لیس محمد السبب ولا کثرة أسئلته، وإنما السبب هو أن فاطمة لم یعد لدیها وقت إضافی لتکمل رسالتها، فلم یبق لها إلاّ أیام یجب أن تتفرغ فیها


1- روی الشیخ الکلینی فی الکافی ج2 ص76 عن الباقر (صلوات الله و سلامه علیه) انه قال لأصحابه: (والله ما معنا من الله براءة ولا بیننا وبین الله قرابة ولا لنا علی الله حجة ولا نتقرب إلی الله إلا بالطاعة، فمن کان منکم مطیعا لله تنفعه ولایتنا، ومن کان منکم عاصیا لله لم تنفعه ولایتنا، ویحکم لا تغتروا، ویحکم لا تغتروا).

ص: 383

لتنسیق البحث وتدقیقه وتقدیمه بأقرب فرصة).

فاطمة: (صحیح ما تفضل به خالی).

خالد: (وعلیه فستنتهی جلساتنا من الآن، ولکننا سنلتقی علی الانترنت کلما سنحت لنا الفرصة، ونتکلم فیها بما یحلو لکم من مواضیع أو أسئلة، والآن أستودعکم الله جمیعاً والی لقاء قریب إن شاء الله).

ودع الأخوة بعضهم بعضا وتمنوا لفاطمة النجاح والتفوق، وذهب کل منهم فی شأنه.

ص: 384

الخاتمة

کان بیت أسامة فی هذا الیوم یعیش حالة الهیجان فالأقرباء مجتمعون، وأناس یصعدون وآخرون ینزلون، وجماعة منهم مجتمعون فی الحدیقة یتناقشون أمور الحیاة بصوت عال، یصحبها بعض الضحکات تارة، وبعض عبارات السخریة تارة ثانیة، وتارة ثالثة یتحزب کل منهم إلی رأیه فیؤیده فریق ویعترض علیه فریق آخر، وکأنهم فی حلبة مصارعة.

خرجت أم أسامة من المطبخ ونادت أسامة وهو فی غرفته: (هیا یا أسامة استعجل فبیت عروسک فی الانتظار وقد تأخرنا، هیا أسرع فالجمیع فی انتظارک).

نزل أسامة من غرفته فاستقبله الحاضرون، بعضهم بالترحیب، وبعضهم بالأهازیج، والنساء من کل طرف یزغردن(1)، وهنّ یرمینَ فوق رأسه قطع الحلوی، والأطفال بین أرجل الحاضرین یجمعون ما تناثر هنا وهناک من قطع الحلوی.


1- زغردت المراة: رفعت صوتها ورددته بلسانها فی فمها محدثة صوتا یشبه الصفیر عالیا، وهذا الصوت یطلق فی الأعراس ونحوها، ویسمی فی اللهجة العامیة بالهلهلة وله أسماء أخری.

ص: 385

اتجه الجمیع إلی بیت العروس، وما هی إلا دقائق حتی وصلوا إلی بیت خالد، دخل أسامة إلی بیت خالد، وبعد عدة دقائق خرج ومعه فاطمة، دخلا السیارة وانطلقا بعد ذلک لیکملا مسیرة الحیاة.

وعلی الرغم من أن فاطمة کانت تکبره بسنتین، إلا أن السنین مضت علیهما وهما فی سعادة وهناء، لأن أساس الاختیار کان مبنیّاً علی الإیمان والتقوی، لا علی المظهر والشکل والعمر، ولهما فی السیدة خدیجة أسوة حسنة، فعلی الرغم من انها کانت أکبر من النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) بعدة سنوات، إلا أنها بقیت أحب زوجاته إلیه، وأخلصهن له، وأکثرهن برکة علیه.

مضت عدة سنوات علی سعادتهما وقد رزقهما الله سبحانه ولدین وبنتاً، کل ذلک ببرکة السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) التی کانت السبب فی معرفة أسامة بفاطمة.

اما خالد فقد تزوج هو الآخر بعد أسامة بسنة تقریباً، وهو الآن یعیش مع زوجته وابنتیه فی النجف الأشرف، حیث ما زال یکمل دراسته الحوزویة ویترقی فی سلک العلماء سنة بعد سنة.

أما محمد فقد قرر السفر إلی خارج القطر لإکمال دراسته الأکادیمیة، ولم یتبق له الا سنتان علی أخذ شهادته العلیا، وقد تعرف علی بنت مقیمة فی تلک الدولة تدرس فی الجامعة نفسها، وهی ملتزمة ومحتشمة، فقرر الزواج بها، وبما ان أهلها شرطوا علیه البقاء معها فی تلک الدولة لأنها البنت الوحیدة للعائلة قرر البقاء، ولکنه یزور أهله کل سنة مرة أو مرتین.

اما الحارس فقد أقلع عن التدخین بعد أن تزوج هو الآخر من امرأة فی

ص: 386

نفس عمره، وذلک بعد أن لم یبق له أحد فی المنزل بعدما تزوجت کل بناته، فأم أسامة لم تهدأ ولم ترتح قبل ان قامت بتزویج بناته من شباب مؤمنین من جیرانهم او أقربائهم.

والحمد لله أولاً وآخراً وصلی الله علی محمد وأهل بیته الطاهرین المعصومین واللعنة الدائمة علی أعدائهم أجمعین.

ص: 387

المحتویات

نهایة الموسم الدراسی.. 7

القرار الحاسم.. 10

انبهار زائف... 12

لقاء مع خالد. 19

حوار ساخن.. 24

انکشاف الحقیقة. 29

سخریة وإصرار. 44

الثورة والثأر. 51

ضیف فی بیت خالد. 57

محاولة أسامة الانضمام إلی النقاش... 62

أول جلسات الحوار. 67

ص: 388

خلق نور فاطمة قبل خلق السماوات والأرض.... 72

1: وثاقة محمد بن موسی بن المتوکل... 76

2: وثاقة عبد الله بن جعفر الحمیری... 77

3: وثاقة یعقوب بن یزید الأنباری... 78

4: وثاقة الحسن بن فضالة. 79

5: وثاقة عبد الرحمن بن الحجاج... 80

6: وثاقة سدیر الصیرفی... 81

الدلیل الأول علی أفضلیة السیدة الزهراء علیها السلام. 83

هل السبق الزمانی فی الخلق یدل علی الأفضلیة؟. 84

هل الزهراء أفضل من النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) ومن الإمام علی (صلوات الله و سلامه علیه)؟. 85

هل النور المذکور فی الروایة مادی؟. 86

النور ظاهر بنفسه ومظهر لغیره وکذلک السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها). 87

للنور خاصیة الهدایة والدلالة والحجیة وکذلک السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها). 92

للنور خاصیة الصفاء واللطافة والنقاء وکذلک السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها). 95

لا بقاء للکون من دون نور کما لا بقاء له من دون فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها). 96

النور أکبر مصدر من مصادر الطاقة وکذلک السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها). 97

کیف تکون السیدة الزهراء بشراً وفی الوقت نفسه نوراً؟. 98

الدلیل الثانی من أدلة تفضیلها علیها السلام. 103

السیدة الزهراء حوراء إنسیة. 103

معنی کون السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) حوراء إنسیة. 104

ألیس من الأفضل تسمیتها بغیر الحوراء؟. 105

کیف یمکن أن تکون السیدة الزهراء أسوة وقدوة وهی حوریة؟. 106

الدلیل الثالث من أدلة تفضیلها علیها السلام. 110

الدلیل الرابع من أدلة تفضیلها علیها السلام. 112

ص: 389

خلق فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) من ثمار الجنة. 115

إثبات صحة سند الروایة. 115

1: أحمد بن زیاد بن جعفر الهمدانی أو الهمذانی.. 116

2: علی بن إبراهیم.. 116

3: إبراهیم بن هاشم.. 117

4: عبد السلام بن صالح الهروی.. 118

الدلیل الخامس من أدلة تفضیلها علیها السلام. 120

الدلیل السادس من أدلة تفضیلها علیها السلام. 121

متی ولدت السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) قبل البعثة أم بعدها؟. 122

أثر الطعام علی تکوین النطفة وصلاحها أو فسادها 125

لماذا رزق الله سبحانه نبیه (صلی الله علیه و آله و سلم) بنتا ولیس ولدا ذکرا؟. 132

هل الجنة والنار مخلوقتان أم لا؟. 135

ذکر فاطمة علیها السلام وشم ریحها عبادة. 136

أخلقت السیدة الزهراء من تفاحة أم من رطب أو من شیء آخر؟. 141

عقبة فی طریق الحوار. 143

محاولة واقتراح... 148

معجزة فی بیت خالد.. 152

بیت السیدة فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها) من البیوت التی أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه. 157

الدلیل السابع من أدلة تفضیلها علیها السلام. 160

هل اتفق المسلمون علی ان الآیة نزلت فی المساجد؟. 164

لیس من حق المخالفین الاعتراض علی تخصیص الآیة ببیت فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها). 166

أأذن الله بأن ترفع أحجار بیوتهم وسقوفها أم یرفع أصحابها؟. 168

الأئمة (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) یطلقون علی أنفسهم لفظ البیت والمسجد.. 169

لعل المراد بالبیت فی الآیة بیت النسب.... 171

القرائن علی أن المراد بالرجال فی الآیة هم أهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین). 173

ص: 390

القرینة الأولی.. 173

القرینة الثانیة. 177

القرینة الثالثة. 178

القرینة الرابعة. 178

القرینة الخامسة. 180

القرینة السادسة. 180

الآیة جاءت بصیغة التذکیر فکیف صح إدخال السیدة الزهراء فیها 183

ألفاظ الآیة عامة فکیف جاز تخصیصها بأهل البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)؟. 184

الآیة تتحدث عن رجال تجار وأهل البیت لم یکونوا کذلک..... 185

استنتاجات مهمة من هذه الآیات المبارکة. 188

1: اتصاف المذکورین فی الآیة بالعصمة والکمال.. 188

2: ان مراقدهم أفضل شرفاً وعظمة من المساجد.. 190

الأمر الأول: هو هل یمکن أن یسمی القبر بیتا أم لا؟. 190

والأمر الثانی: ان أحکام المساجد تنطبق علی قبور ومشاهد المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین)  191

والأمر الثالث: أمحل دفنهم ومکان أضرحتهم أفضل من المسجد أم لا؟. 192

3: لا یتم إیمان المؤمن حتی ینقاد لأهل هذا البیت (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین). 197

تغییر فی أسلوب الحوار وطریقته. 199

تجدد اللقاء واستئناف البحث.... 202

بعض فضائلها علیها السلام السببیة والنسبیة. 203

الدلیل الثامن من أدلة تفضیلها علیها السلام؛ لیس لأحد من البشر أب کأبیها وزوج کزوجها صلوات الله وسلامه علیهما 206

الدلیل التاسع من أدلة تفضیلها علیهاالسلام؛ لیس لأحد من البشر ولدان هما سیدا شباب أهل الجنة سواها وسوی علیها السلام  213

الدلیل العاشر من أدلة تفضیلها علیها السلام؛ أنها وأمها سیدتا نساء أهل الجنة. 218

ص: 391

الدلیل الحادی عشر: انحصار ذریة النبی صلی الله علیه وآله منها ومن بعلها علیهما السلام. 220

الدلیل الثانی عشر: إن الأئمة علیهم السلام من ذریتها 224

الدلیل الثالث عشر: إنها زوجة سید الأئمة وأم الأئمة علیهم السلام. 225

الدلیل الرابع عشر: إن المهدی علیه السلام من ذریتها 226

بعض فضائلها (صلوات الله و سلامه علیها) المستفادة بشکل غیر مباشر. 228

الدلیل الخامس عشر: الأئمة أفضل من الأنبیاء والزهراء أفضل منهم فالزهراء أفضل من الأنبیاء  229

الدلیل السادس عشر: النبی الأعظم  صلی الله علیه وآله أفضل الخلق وفاطمة بضعة منه فتکون أفضل من جمیع الخلق أیضا 234

الدلیل السابع عشر: ان الأئمة علیهم السلام حجة علی الأنبیاء وبقیة البشر والسیدة الزهراء حجة علیهم فتکون حجة علی الجمیع فهی أفضل من الجمیع. 240

کیف یکونون حجة وکل واحد عاش فی زمان غیر زمان صاحبه؟. 240

هل هذا مجرد فرض لا واقع له؟. 242

کیف یکلف الأنبیاء إتباع نبینا وأئمتنا وهم أموات والمیت لا تکلیف علیه؟. 243

ما الدلیل علی ان السیدة الزهراء حجة علی الأئمة؟. 244

الدلیل الثامن عشر: إنها علیها السلام مثل القرآن فی الحجیة والرشاد والعصمة. 248

الدلیل التاسع عشر: إنها علیها السلام من أهل الذکر الذین أمر الله سبحانه بسؤالهم.. 250

فاطمة حجة الله وأعداؤها أعداء الله وأولیاؤها أولیاء الله... 252

مصحف فاطمة وما یرتبط فیه من المباحث.... 255

رد شبهة أن للشیعة قراناً اسمه مصحف فاطمة. 256

معنی المصحف فی اللغة. 257

ص: 392

لماذا یغضون الطرف عن مصحف عائشة وحفصة وعمر ویشنعون علی مصحف فاطمة (صلوات الله و سلامه علیها)؟. 257

أمحتوی هذه المصاحف تفسیر أم تحریف؟. 259

أمثلة لبعض التحریفات فی هذه المصاحف، مصحف حفصة أنموذجاً 260

اعتراف أصحاب هذه المصاحف بضیاع آیات القرآن وسوره. 261

إذا کان بیتک من زجاج فلا ترم ِ الناس بالحجارة. 262

علی ماذا یحتوی مصحف فاطمة؟. 262

رد إشکال رؤیة السیدة الزهراء لجبرائیل والحدیث معه. 266

هل کانت السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) لا تعرف النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) کی تحتاج إلی جبرائیل لیعلمها؟  270

الدلیل العشرون: وجه الاستدلال بمصحف فاطمة علی أفضلیتها علیها السلام. 272

هل نزل مصحف فاطمة من السماء؟. 277

أمصحف فاطمة من إملاء النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) أم جبرائیل؟. 285

من أدلة الإمام وجود مصحف فاطمة عنده. 286

قرنت السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها) بالأنبیاء الذین ورث الأئمة منهم العلم.. 288

کانت السیدة الزهراء مرجعا للنساء فی حیاة النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم). 291

هل کانت عائشة أعلم من السیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیها)؟. 297

تواتر أحادیث حضور المعصومین (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) حال الاحتضار. 304

الرد علی من حاول تضعیف أحادیث حضور المعصومین عند المحتضر. 305

الدلیل الحادی والعشرون: وجه الاستدلال بهذه الأحادیث علی أفضلیة السیدة الزهراء علیها السلام  307

إمکان رؤیة الأحیاء للأموات، والمحتضر أولی بذلک..... 309

کیف یحضر النبی والأئمة والسیدة الزهراء (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) فی أماکن شتی وفی وقت واحد؟. 311

أحضورهم حضور حقیقی أم مجازی؟. 313

ص: 393

أولا: إن تأویلهما لا شاهد علیه من القرآن والسنة النبویة. 316

ثانیا: انهما انفردا فی تأویل هذه الأخبار خلافا لعامة علماء المذهب.... 319

ثالثا: ألفاظ الأحادیث صریحة بالحضور الحقیقی دون المجازی... 322

الشاهد الأول.. 322

الشاهد الثانی.. 323

الشاهد الثالث... 324

الشاهد الرابع. 325

الشاهد الخامس.... 326

رابعا: الروایات الأخری تؤید الحضور العینی ولا مؤید لتأویل الشیخ المفید.. 327

خامسا: نؤمن بالحضور العینی ولکن لا نقطع بالکیفیة. 328

ما هی فوائد حضورهم (صلوات الله و سلامه علیهم اجمعین) عند المحتضر؟. 329

ألیس فی هذه الأحادیث تشجیع للإنسان علی عدم العمل؟. 333

الحارس علی باب المنزل.. 336

الدلیل الثانی والعشرون: استشهادها علیها السلام فی سبیل الله سبحانه. 347

وجه الاستدلال باستشهادها علی أفضلیتها علی الأنبیاء والرسل وباقی العالمین... 355

دموع الفرح... 357

الدلیل الثالث والعشرون: شفاعتها لمحبیها ونصرتها لأولیائها یوم القیامة. 360

شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها) أعظم من شفاعة الأنبیاء والرسل باستثناء نبینا (صلی الله علیه و آله و سلم). 362

اختلاف الشفاعة بحسب منزلة الإنسان وشأنه الکمالی... 362

أدلة روائیة وعقلیة علی اختلاف الشفاعة بحسب کمال الشفیع وشأنیته. 363

شفاعة السیدة الزهراء متکافئة ومساویة لشفاعة الإمام أمیر المؤمنین (صلوات الله و سلامه علیه). 364

تساوی شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها) مع شفاعة النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم). 365

فاطمة بضعة النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) فلابد أن تکون لها نفس مرتبته فی الشفاعة. 366

عدم وجود ما یخصص هذه الأدلة. 367

روایات تؤید سعة شفاعتها (صلوات الله و سلامه علیها). 369

ص: 394

ما هی فائدة الشفاعة؟. 371

الشفاعة للمحسن والمسیء أم هی للمسیئین خاصة؟. 374

العدل یقضی بأن تکون الشفاعة عامة للعاصین والمطیعین علی حد سواء. 375

معنی الشفاعة ومفهومها یدل علی شمولها للعاصی والمطیع.. 376

هل الشفاعة تؤدی إلی اتکال الناس علیها وترک الطاعات وارتکاب المعاصی؟. 377

الخاتمة. 384

المحتویات... 387

ص: 395

إصدارات قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة

تألیف

اسم الکتاب

ت

السید محمد مهدی الخرسان

السجود علی التربة الحسینیة

1

زیارة الإمام الحسین علیه السلام باللغة الانکلیزیة

2

زیارة الإمام الحسین علیه السلام باللغة الأردو

3

الشیخ علی الفتلاوی

النوران ___ الزهراء والحوراء علیهما السلام __ الطبعة الأولی

4

الشیخ علی الفتلاوی

هذه عقیدتی __ الطبعة الأولی

5

الشیخ علی الفتلاوی

الإمام الحسین علیه السلام فی وجدان الفرد العراقی

6

الشیخ وسام البلداوی

منقذ الإخوان من فتن وأخطار آخر الزمان

7

السید نبیل الحسنی

الجمال فی عاشوراء

8

الشیخ وسام البلداوی

ابکِ فإنک علی حق

9

الشیخ وسام البلداوی

المجاب بردّ السلام

10

السید نبیل الحسنی

ثقافة العیدیة

11

السید عبد الله شبر

الأخلاق (تحقیق: شعبة التحقیق) جزآن

12

الشیخ جمیل الربیعی

الزیارة تعهد والتزام ودعاء فی مشاهد المطهرین

13

لبیب السعدی

من هو؟

14

السید نبیل الحسنی

الیحموم، أهو من خیل رسول الله أم خیل جبرائیل؟

15

الشیخ علی الفتلاوی

المرأة فی حیاة الإمام الحسین علیه السلام

16

السید نبیل الحسنی

أبو طالب علیه السلام ثالث من أسلم

17

ص: 396

السید محمدحسین الطباطبائی

حیاة ما بعد الموت (مراجعة وتعلیق شعبة التحقیق)

18

السید یاسین الموسوی

الحیرة فی عصر الغیبة الصغری

19

السید یاسین الموسوی

الحیرة فی عصر الغیبة الکبری

20

الشیخ باقر شریف القرشی

حیاة الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) ___ ثلاثة أجزاء

21 __ 23

الشیخ وسام البلداوی

القول الحسن فی عدد زوجات الإمام الحسن علیه السلام

24

السید محمد علی الحلو

الولایتان التکوینیة والتشریعیة عند الشیعة وأهل السنة

25

الشیخ حسن الشمری

قبس من نور الإمام الحسین علیه السلام

26

السید نبیل الحسنی

حقیقة الأثر الغیبی فی التربة الحسینیة

27

السید نبیل الحسنی

موجز علم السیرة النبویة

28

الشیخ علی الفتلاوی

رسالة فی فن الإلقاء والحوار والمناظرة

29

علاء محمد جواد الأعسم

التعریف بمهنة الفهرسة والتصنیف وفق النظام العالمی (LC)

30

السید نبیل الحسنی

الأنثروبولوجیا الاجتماعیة الثقافیة لمجتمع الکوفة عند الإمام الحسین علیه السلام

31

السید نبیل الحسنی

الشیعة والسیرة النبویة بین التدوین والاضطهاد (دراسة)

32

الدکتور عبدالکاظم الیاسری

الخطاب الحسینی فی معرکة الطف ___ دراسة لغویة وتحلیل

33

الشیخ وسام البلداوی

رسالتان فی الإمام المهدی

34

الشیخ وسام البلداوی

السفارة فی الغیبة الکبری

35

السید نبیل الحسنی

حرکة التاریخ وسننه عند علی وفاطمة علیهما السلام (دراسة)

36

السید نبیل الحسنی

دعاء الإمام الحسین علیه السلام فی یوم عاشوراء __ بین النظریة العلمیة والأثر الغیبی (دراسة) من جزءین

37

الشیخ علی الفتلاوی

النوران الزهراء والحوراء علیهما السلام ___ الطبعة الثانیة

38

شعبة التحقیق

زهیر بن القین

39

السید محمد علی الحلو

تفسیر الإمام الحسین علیه السلام

40

الأستاذ عباس الشیبانی

منهل الظمآن فی أحکام تلاوة القرآن

41

السید عبد الرضا الشهرستانی

السجود علی التربة الحسینیة

42

السید علی القصیر

حیاة حبیب بن مظاهر الأسدی

43

الشیخ علی الکورانی العاملی

الإمام الکاظم سید بغداد وحامیها وشفیعها

44

ص: 397

جمع وتحقیق: باسم الساعدی

السقیفة وفدک، تصنیف: أبی بکر الجوهری

45

نظم وشرح:  حسین النصار

موسوعة الألوف فی نظم تاریخ الطفوف __ ثلاثة أجزاء

46

السید محمد علی الحلو

الظاهرة الحسینیة

47

السید عبد الکریم القزوینی

الوثائق الرسمیة لثورة الإمام الحسین علیه السلام

48

السید محمد علی الحلو

الأصول التمهیدیة فی المعارف المهدویة

49

الباحثة الاجتماعیة کفاح الحداد

نساء الطفوف

50

الشیخ محمد السند

الشعائر الحسینیة بین الأصالة والتجدید

51

السید نبیل الحسنی

خدیجة بنت خویلد أُمّة جُمعت فی امرأة – 4 مجلد

52

الشیخ علی الفتلاوی

السبط الشهید – البُعد العقائدی والأخلاقی فی خطب الإمام الحسین علیه السلام

53

السید عبد الستار الجابری

تاریخ الشیعة السیاسی

54

السید مصطفی الخاتمی

إذا شئت النجاة فزر حسیناً

55

عبد السادة محمد حداد

مقالات فی الإمام الحسین علیه السلام

56

الدکتور عدی علی الحجّار

الأسس المنهجیة فی تفسیر النص القرآنی

57

الشیخ وسام البلداوی

فضائل أهل البیت علیهم السلام بین تحریف المدونین وتناقض مناهج المحدثین

58

حسن المظفر

نصرة المظلوم

59

السید نبیل الحسنی

موجز السیرة النبویة – طبعة ثانیة، مزیدة ومنقحة

60

الشیخ وسام البلداوی

ابکِ فانک علی حق – طبعة ثانیة

61

السید نبیل الحسنی

أبو طالب ثالث من أسلم – طبعة ثانیة، منقحة

62

السید نبیل الحسنی

ثقافة العید والعیدیة – طبعة ثالثة

63

الشیخ یاسر الصالحی

نفحات الهدایة – مستبصرون ببرکة الإمام الحسین علیه السلام

64

السید نبیل الحسنی

تکسیر الأصنام – بین تصریح النبی صلی الله علیه و آله و سلم وتعتیم البخاری

65

الشیخ علی الفتلاوی

رسالة فی فن الإلقاء – طبعة ثانیة

66

محمد جواد مالک

شیعة العراق وبناء الوطن

67

حسین النصراوی

الملائکة فی التراث الإسلامی

68

السید عبد الوهاب الأسترآبادی

شرح الفصول النصیریة – تحقیق: شعبة التحقیق

69

ص: 398

الشیخ محمد التنکابنی

صلاة الجمعة– تحقیق: الشیخ محمد الباقری

70

د. علی کاظم المصلاوی

الطفیات – المقولة والإجراء النقدی

71

الشیخ محمد حسین الیوسفی

أسرار فضائل فاطمة الزهراء علیها السلام

72

السید نبیل الحسنی

الجمال فی عاشوراء – طبعة ثانیة

73

السید نبیل الحسنی

سبایا آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم

74

السید نبیل الحسنی

الیحموم، -طبعة ثانیة، منقحة

75

السید نبیل الحسنی

المولود فی بیت الله الحرام: علی بن أبی طالب علیه السلام أم حکیم بن حزام؟

76

السید نبیل الحسنی

حقیقة الأثر الغیبی فی التربة الحسینیة – طبعة ثانیة

77

السید نبیل الحسنی

ما أخفاه الرواة من لیلة المبیت علی فراش النبی صلی الله علیه وآله وسلم

78

صباح عباس حسن الساعدی

علم الإمام بین الإطلاقیة والإشائیة علی ضوء الکتاب والسنة

79

الدکتور مهدی حسین التمیمی

الإمام الحسین بن علی علیهما السلام أنموذج الصبر وشارة الفداء

80

ظافر عبیس الجیاشی

شهید باخمری

81

الشیخ محمد البغدادی

العباس بن علی علیهما السلام

82

الشیخ علی الفتلاوی

خادم الإمام الحسین علیه السلام شریک الملائکة

83

الشیخ محمد البغدادی

مسلم بن عقیل علیه السلام

84

السید محمدحسین الطباطبائی

حیاة ما بعد الموت (مراجعة وتعلیق شعبة التحقیق) – الطبعة الثانیة

85

الشیخ وسام البلداوی

منقذ الإخوان من فتن وأخطار آخر الزمان – طبعة ثانیة

86

الشیخ وسام البلداوی

المجاب برد السلام – طبعة ثانیة

87

ابن قولویه

کامل الزیارات باللغة الانکلیزیة (Kamiluz Ziyaraat)

88

السید مصطفی القزوینی

Islam Inquiries About Shi‘a

89

السید مصطفی القزوینی

When Power and Piety Collide

90

السید مصطفی القزوینی

Discovering Islam

91

د. صباح عباس عنوز

دلالة الصورة الحسیة فی الشعر الحسینی

92

حاتم جاسم عزیز السعدی

القیم التربویة فی فکر الإمام الحسین علیه السلام

93

ص: 399

الشیخ حسن الشمری الحائری

قبس من نور الإمام الحسن علیه السلام

94

الشیخ وسام البلداوی

تیجان الولاء فی شرح بعض فقرات زیارة عاشوراء

95

الشیخ محمد شریف الشیروانی

الشهاب الثاقب فی مناقب علی بن أبی طالب علیهما السلام

96

الشیخ ماجد احمد العطیة

سید العبید جون بن حوی

97

الشیخ ماجد احمد العطیة

حدیث سد الأبواب إلا باب علی علیه السلام

98

الشیخ علی الفتلاوی

المرأة فی حیاة الإمام الحسین علیه السلام __ الطبعة الثانیة __

99

السید نبیل الحسنی

هذه فاطمة علیها السلام – ثمانیة أجزاء

100

السید نبیل الحسنی

وفاة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وموضع قبره وروضته

101

تحقیق: مشتاق المظفر

الأربعون حدیثا فی الفضائل والمناقب- اسعد بن إبراهیم الحلی

102

تحقیق: مشتاق المظفر

الجعفریات -  جزآن

103

تحقیق: حامد رحمان الطائی

نوادر الأخبار – جزآن

104

تحقیق: محمد باسم مال الله

تنبیه الخواطر ونزهة النواظر – ثلاثة أجزاء

105

د. علی حسین یوسف

الإمام الحسین علیه السلام فی الشعر العراقی الحدیث

106

الشیخ علی الفتلاوی

This Is My Faith

107

حسین عبدالسید النصار

الشفاء فی نظم حدیث الکساء

108

حسن هادی مجید العوادی

قصائد الاستنهاض بالإمام الحجة عجل الله تعالی فرجه

109

السید علی الشهرستانی

آیة الوضوء وإشکالیة الدلالة

110

السید علی الشهرستانی

عارفاً بحقکم

111

السید الموسوی

شمس الإمامة وراء سحب الغیب

112

إعداد: صفوان جمال الدین

Ziyarat Imam Hussain

113

تحقیق: مشتاق المظفر

البشارة لطالب الاستخارة للشیخ احمد بن صالح الدرازی

114

تحقیق: مشتاق المظفر

النکت البدیعة فی تحقیق الشیعة للشیخ سلیمان البحرانی

115

تحقیق: مشتاق صالح المظفر

شرح حدیث حبنا أهل البیت یکفر الذنوب للشیخ علی بن عبد الله الستری البحرانی

116

تحقیق: مشتاق صالح المظفر

منهاج الحق والیقین فی تفضیل علی أمیر المؤمنین للسید ولی بن نعمة الله الحسینی الرضوی

117

ص: 400

تحقیق: أنمار معاد المظفر

قواعد المرام فی علم الکلام، تصنیف کمال الدین میثم بن علی بن میثم البحرانی

118

تحقیق: باسم محمد مال الله الأسدی

حیاة الأرواح ومشکاة المصباح للشیخ تقی الدین إبراهیم بن علی الکفعمی

119

السید نبیل الحسنی

باب فاطمة علیها السلام بین سلطة الشریعة وشریعة السلطة

120

السید علی الشهرستانی

تربة الحسین علیه السلام وتحولها إلی دم عبیط فی کربلاء

121

میثاق عباس الحلی

یتیم عاشوراء من أنصار کربلاء

122

علی حسان شویلیه

المختصر المسطور لکتاب شفاء الصدور فی شرح زیارة عاشور

123

د. حیدر محمود الجدیع

نثر الإمام الحسین علیه السلام

124

الشیخ میثاق عباس الخفاجی

قرة العین فی صلاة اللیل

125

أنطوان بارا

من المسیح العائد إلی الحسین الثائر

126

السید نبیل الحسنی

ظاهرة الاستقلاب فی عرض النص النبوی والتاریخ

127

السید نبیل الحسنی

الإستراتیجیة الحربیة فی معرکة عاشوراء: بین تفکیر الجند وتجنید الفکر

128

مروان خلیفات

النبی صلی الله علیه وآله وسلم ومستقبل الدعوة

129

الشیخ حسن المطوری

البکاء علی الحسین علیه السلام فی مصادر الفریقین

130

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.